نِعْمَ أنتَ
29-02-2016, 11:43 AM
نِعْمَ أنتَ

محمد عبدالرحمن صادق

الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:



لقد خلق الله تعالى الإنسان لمَهمة واحدة معروفة الأوصاف ومحددة المعالم، وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ ، وفي مقابل الإخلاص في هذه العبادة، والنجاح في أداء التكاليف التي كلَّف الله تعالى بها العبادَ، وعَد الله تعالى عباده المخلصين بجنة وُصِفت بأنَّ:" فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمِعت، ولا خطر على قلب بشر"، وكذلك توعَّد الله تعالى من يُعرِض عن عبادته بنارٍ وقودها الناس والحجارة، وقد وُصفت بأنها سوداءُ مظلمة.
ولتمام التكليف:
أرسل الله تعالى الرسل مبشرين ومنذرين، ولتمام التكليف أيضًا: بيَّن الله تعالى للإنسان بأن هناك عدوًّا له يتربص به، ويزين له الذنوب والمعاصي، والفواحش ما ظهر منها وما بطن؛ وذلك لكي يُبعده عن رحمة الله تعالى، ولكي يحرمه من جنته.
فالله تعالى بعد أن فرض التكليف وبيَّن صفاتِه وحدوده: بيَّن جزاء من أحسن، وعقاب مَن أساء، وأرسل الرسل ليكونوا حجة على العباد، وحذَّر العباد من عدوهم الذي ما يريد لهم سوى الخسران المبين، فبذلك لا عذرَ لمعتذر، ولا نجاة لمن سلك طريق الشيطان، فمن اللحظة الأولى التي يولد فيها الإنسان: يتلقاه الشيطان حتى يورده المهالك؛ روى البخاري:" ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخًا من مس الشيطان، غيرَ مريم وابنها..."، وفي رواية مسلم:" ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان، فيستهل صارخًا من نخسة الشيطان، إلا ابن مريم وأمه"، (ومعنى نخسه؛ أي: هيَّجه وأزعَجه).
الشيطان في القرآن الكريم:
لقد وردت كلمة (الشيطان) بصيغة المفرد في كتاب الله تعالى (63 مرة)، ووردت بصيغة الجمع المعرَّف (15 مرة)، وبصيغة الجمع النكرة (مرتين)، وكلمة (إبليس) وردت في كتاب الله تعالى (11 مرة)، وكلمة (الجن والإنس) وردت (9 مرات)، وكلمة (الإنس والجن) وردت (3 مرات)، وكلمة (الجِنَّة والناس) وردت (3 مرات)، بخلاف كلمة (الجن) التي وردت (10 مرات)، وأخيرًا كلمة (عِفريت) وردت (مرة واحدة)، فلقد تنوعت الصيغ والأساليب؛ لكي يحذرنا الله تعالى، ويذكرنا بعدونا الذي لا يغفُلُ عن وسوسته لنا، وإبعادنا عن المهمة التي من أجلِها خلقنا؛ وذلك لكي نتجنب حيلَه، ونحذَر مكائده.
تصنيف الجن كما ورد في السنة النبوية المطهرة:
روى ابن حبان والحاكم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" الجن ثلاثة أصناف، صنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء، وصنف حيَّات وعقارب، وصنف يحُلُّون ويظعَنون"؛ (صححه الحاكم، ووافقه الذهبي والألباني)، (ومعنى يحُلُّون ويظعنون؛ أي: يقيمون ويرتحلون).
وروى مسلم من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن الشيطان يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه في الناس، فأقربهم عنده منزلةً أعظمُهم عنده فتنةً، يجيء أحدهم فيقول: ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا، فيقول إبليس: لا والله، ما صنعت شيئًا، ويجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقتُ بينه وبين أهله، فيقرِّبه ويُدْنيه ويلتزمه، ويقول: نعم أنت"، (يلتزمه؛ أي: يقرِّبه منه)، وقد ذكر أهل العلم: أن الجن يتشكلون بأشكال مختلفة، فيتصورون بصور الكلاب؛ ففي صحيح مسلم:" الكلب الأسود شيطان".
قال شيخ الإسلام:" ابن تيمية" رحمه الله في الفتاوى:" الكلب الأسود شيطان الكلاب، والجن تتصور بصورته كثيرًا، وكذلك بصورة القط الأسود؛ لأن السواد أجمع للقوى الشيطانية من غيره، وفيه قوة الحرارة".

ذِكر بعض أسماء ومهامِّ الشياطين:
الشياطين لهم أسماءٌ يتداولونها فيما بينهم؛ فمن أسمائهم: (خنزب - الولهان - الأجدع - الأعور - داسم - دهار - مقلاص - لاقيس... إلخ)، وكما أن للشياطين أسماءً، فكذلك لهم مهامُّ يكلَّفون بها من الشيطان الأكبر، ليتحركوا بها بين الناس للفتنة والوقيعة بينهم، ولإبعادهم عن طريق الله عز وجل.
فهناك مِن الشياطينِ مَن هو: مكلف بإيذاء الناس وتخويفهم، والظهور لهم بهيئة حيوانات مخيفة.
وهناك مِن الشياطينِ مَن هو: مكلف بالأسواق؛ لتزيين الغش والحلِف واللغو، وارتكاب المعاصي.
وهناك مِن الشياطينِ مَن هو: مكلف بالمساجد؛ للوسوسة في الطهارة والصلاة.
وهناك مِن الشياطينِ مَن هو: مكلف بتحريك الشهوات، وتزيين المعاصي، وارتكاب الفاحشة.
وهناك مِن الشياطينِ مَن هو: مكلف بإثارة الغضب والجزع عند المصائب، وخَمْش الوجوه، ولَطْم الخدود، وشق الجيوب.
وهناك مِن الشياطينِ مَن هو: مكلف بإثارة ونشر الأخبار الكاذبة التي لا أصل لها بين الناس.
وهناك مِن الشياطينِ مَن هو: مكلف بتفزيع الناس في نومهم بالكوابيس المزعجة.
وهناك مِن الشياطينِ مَن هو: مكلف بالبيوت التي لا يذكَر اسمُ الله تعالى فيها، فيثير الفتنةَ والوقيعة بين أصحابها.

شياطين الجن وتجنيدهم لشياطين الإنس:
إن لفظ "الشيطان" مشتق من (شطن) بمعنى (بعُد)؛ أي: إنه بعيد عن الخير، وبعيد عن طباع البشر؛ فكل متمرِّد على عبادة ربه والانقياد له تعالى من الإنس أو الجن، فهو: شيطان، ولقد ذكر لنا القرآن الكريم: أن هناك شياطين الإنس، كما أن هناك شياطين الجن؛ حيث إن شياطين الجن يجنِّدون ويسخِّرون شياطين الإنس، ويوحون إليهم بمهامَّ يقومون بها؛ ليضمنوا بذلك نجاح مهمتهم، فلو ظهر لنا الشيطان ليوسوس لنا: لتجنبناه ولفررنا منه؛ لكونه العدو الذي حذرنا الله تعالى منه؛ ولذلك فالشيطان يسخِّر لنا من بني جنسنا شياطينَ يقومون بالمهمة على أكملِ وجه.
قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾.
وقال تعالى: ﴿ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ﴾.
وقال تعالى: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ﴾.‏
ولذلك أمَرنا الله أن نتعوذ به من الشياطين؛ حيث قال تعالى: ﴿ وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ﴾، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله تعالى من شياطين الإنس والجن؛ ثبَت في حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست، فقال: ((يا أبا ذر، هل صليت؟))، قلت: لا، قال: ((قُمْ فصَلِّ))، قال: فقمت فصليت ثم جلست، فقال: ((يا أبا ذر، تعوَّذْ بالله من شر شياطين الإنس والجن))، قال: فقلت: يا رسول الله، وللإنسِ شياطينُ؟ قال: ((نعم))؛ (رواه أحمد)، وفي رواية: قال: ((نَعم، شرٌّ من شياطين الجن))، (رواه ابن جرير).
وقال بعض السلف: "شياطين الإنس أشدُّ من شياطين الجن، شيطان الجنِّ يوسوس ولا تراه، وهذا يعايِنك معايَنة".
فمِن شياطين الإنس مَن يعملون تحت إمرة الشيطان الأكبر مِن جنسهم، الذي يجندهم ويسخِّرهم لأداء مهمته التي وكَّله بها شيطانُ الجن الأكبر، فهم يقومون بنفس المهامِّ لتنفيذ نفس الهدف، وهو: إغواءُ الناس وإضلالهم، وصرفُهم عن طريق ربهم، فلا ينالون رحمته، ولا يدخلون جنته.
وكما أن شياطين الجن لهم أصناف وأسماءٌ ومهامُّ، فكذلك شياطين الإنس، فلا يغرنك أن هذا من عِلْية القوم، أو يَشغَل منصبًا كبيرًا، أو من كبار الأثرياء أو المشاهير، أو حتى من كبار العلماء، فإنما هي: مجرد مسوح وأقنعة يستترون خلفها؛ لكي يؤدوا مهامَّ قد وُكِّلوا بها من شيطانهم الأكبر؛ حتى يقربهم منه ويغدِقَ عليهم من الخير، وحتى يرضى عنهم ويلتزمهم قائلًا: (نعم أنت)، كما يفعل شيطان الجن.
فلا تعجَبْ عندما ترى مَن هو مِن عِلْية القوم، وتراه يمارس الفساد، وظلم العباد، ونشر الرذيلة، ومحاربة الفضيلة؛ فهو ما وصل إلى هذه المكانة إلا ليقوم بهذا الدور، وإن تقاعس عن فعل ذلك: كان من المغضوب عليهم أمام كبيرهم، وربما وصل الأمر إلى التخلُّص منه، واستبدال غيرِه به.

دورُنا تجاه شياطين الجن والإنس:
بالنسبة لشياطين الجن، فقد بيَّن لنا القرآن الكريم، وبيَّنت لنا السنة النبوية أن نستعيذ بالله تعالى منهم، وأن نسدَّ عليهم كل سبل الإغواء والإضلال؛ وذلك بالإخلاص، وحسن العبادة، وفعل كل ما جاء في هذا الباب.
أما بالنسبة لشياطين الإنس، فيجب أن نفرِّق بين أئمة الضلال والغَواية وبين مَن يتبعونهم مِن الضعفاء المهازيل؛ فأئمة الضلال والغَواية: ما لهم منا إلا أن نستعين بالله تعالى عليهم، وأن نستعيذ بالله تعالى من شرِّهم ومكرهم وحِيَلهم وتدبيرهم، وألا نمالِئَهم، ولا نركن إليهم.
أما الأتباع الضعفاء المهازيل والمغرَّر بهم، فلهم علينا واجب النصح والإرشاد والتوعية؛ لكي نعذر أنفسنا أمام الله تعالى بدعوتهم، فإن استجابوا فهم إخوة لنا، وإن أعرَضوا وتكبَّروا فهم وشياطينُهم سواءٌ.
ربِّ، أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك ربِّ أن يحضرونِ، اللهم إني أعوذ بك من كل بلِيَّة، اللهم إني أعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الذل إلا لك، ومن الخوف إلا منك، وأعوذ بك أن أقول زورًا، أو أغشى فجورًا، أو أكون بك مغرورًا، وأعوذ بك من عضال الداء، وخيبةِ الرجاء، وشماتة الأعداء، وزوال النعمة، وفَجْأة النقمة، اللهم إني أعوذ بك من شر الخلق، وهمِّ الرزق، وسوء الخُلق.

وآخر دعوانا أنِ الحمدُ لله رب العالمين.