وحدة اللغة
15-05-2017, 04:33 PM
وحدة اللغة

أ. د. علي بن إبراهيم النملة
الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:
كانت اللغة العربية - نظرًا لانتشارها في جزيرة العرب في العصور المتقدمة للجاهلية - متعددة اللهجات، إلى درجة كادت معها هذه اللهجات أن تصبحَ لغات مستقلة عن اللغة الأم، بل ربما قيل: إن اللغة العربية كانت مجموعة لغات ساميَّة، تجمع بينها كثيرٌ من الصفات المشتركة، المتعلقة بأصول الكلمات، والأصوات، ومخارج الحروف، وقواعد الصرف، والتنظيم، فقويت وجوه الشبه بين أفرادها، أو بعض أفرادها، حتى يحسَبَها الباحث مجرد لهجات للغة واحدة[1].

يقول محمد الكتاني: "ومن المعلوم أن اللغة العربية كانت قبل مجيء الإسلام ونزول القرآن عبارةً عن لهجات لعدد من القبائل الناطقين بها، وكانت هذه اللهجات تسمى عندهم لغات، وكانت كل لغة من لغاتهم الدائرة في فلك العربية تتأثر بلغة الشعب الأجنبي الذي تُتاخِمُه، فكانت تستعمل كثيرًا من الألفاظ الأجنبية على سبيل التعريب لها، مع تكييفها للصيغ العربية وأصواتها، فنقاء اللغة العربية من كل دخيل أمرٌ لم يتحقق في أي عصر، وهو أمر يجافي طبائع اللغات وتطورها، والقول بتأثُّر العربية أو استعمالها للألفاظ الأجنبية التي لم يكن لها نظير عند العرب هو الذي يجري على سنة اللغات في التأثر والتأثير، وأكبر دليل على ذلك لغة القرآن نفسه"[2].

وتقتضي إرادة الله تعالى أن يجمع العرب على لهجة واحدة، في الجاهلية، لتكون هي اللغة المعتبرة: أدبًا، وفكرًا، وعلمًا، في الأسواق الأدبية الفكرية المشهورة، لا سيما أسواق عُكاظ ومجنَّة وذي المجاز[3]، وغيرها من أسواق العرب الأخرى، ومنتدياتهم.
وتسود لهجةقريشأفصح العرب لسانًا، وأصفاهم لغةً لا في الحجاز ونجد فحسب، بل في كل القبائل العربية: شمالًا، وشرقًا، وغربًا، ثم جنوبًا، بعد ذلك.
وقد راعت قريش بقية اللهجات، فاختارت منها من كلام الوفود وأشعارهم أحسن اللغة وأصفى الكلام، وساعد على سيادة لهجة قريش مكانة القبيلة الدينية والسياسية، فقد تجمَّع عليها العرب حين أحسوا بالخطر المحدق بهم من جهات عدة، من الفرس بالشرق، والروم (البيزنطيين) من الشمال، والحبش بالجنوب.

وفي مكة المكرمة كانت وفود الحجيج تَتْرَى، وكانت آلهتهم تُحفظ في الكعبة، وقوافل التجارة في رحلتي الشتاء والصيف كانت قد جعلت من مكةالمكرمة محطةً لتجار العرب المتنقلين بين الشمال والجنوب، تهوي إليها أفئدة من الناس[4]، إذ إنها تقع في الوسط بين الشام في الشمال، واليمن في الجنوب[5].
وكانت العرب تعرض أشعارها على قريش، فما قبلته كان مقبولًا، وما ردته كان مردودًا[6].
هذا مع بقاء لهجات عربية أخرى، وانتشارها قبل الإسلام وبعده؛ كالكشكشة عند حضرموت، والكسكسة عند بعض قبائل ربيعة، والطمطمانية عند حِمْير، والعجعجة عند قضاعة، والعنعنة عند تميم، والفحفحة عند هذيل، والقُطْعة عند طيِّئ، والتضجع عند تميم وقيس وأسد، وغيرها كالاستنطاء، والتلتلة، والوهم، والوكم.

وقد تحدث سيِّد المرسلين الرسول محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم بشيء منها، مما يوحي بأنها لم تكن مهملة إهمالًا تامًّا، بل إن بعضًا منها ما زال قائمًا في أيامنا هذه في مواضع من الجزيرة العربية وخارجها[7]، ولكنها على أي حال لم تكن اللغة الرسمية الأدبية والفكرية والعلمية، في الجاهلية والإسلام[8].
وانتقاء لهجة واحدة تكون هي الممثل الرسمي للغة العربية أعطى اللغةَ دفعةً قوية إلى أن تصبح لغة عالمية، استوعبت كلَّ خصائص الأصل اللغوي السامي أكمل استيعاب[9]، وأثرت في اللغات الأخرى المجاورة لها.

والدراسات تدل على دخول ألفاظ عربية في لغات كثيرة؛ كالفارسية، والهندية القديمة، وشيء من اللغات اللاتينية والجرمانية الحديثة، ومنهااللغة الإنجليزية.
ومما أعطى اللغة العربية - ممثلة في لهجة قريش - دفعة أقوى نزولُ القرآن الكريم بها، فيزيد هذا الحدث من وحدة اللغة، وتزداد الدوافع لتعلمها وتعليمها، قصدًا إلى التزود من الإسلام، ومعرفته معرفة حقة، وتكون هي أيضًا لغة الحديث الشريف، ولغة الوفود والمبعوثين من قِبَل سيدنا محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم إلى القادة والقبائل؛ قصدًا إلى الدعوة إلى الإسلام، والتعليم والتعريف بالإسلام، وتأتي الآثار لتؤكد على وحدة اللغة، وأنها لا تستخدم في هذه الدنيا فحسب، بل ستكون هي لغة أهل الجنة[10].

ويأتي انتشار الإسلام، في القرن الهجري الأول حاملًا معه اللغة العربية الموحدة، فيعمد المسلمون العرب إلى نشرها، واستخدامها في مناطق شاسعة من العالم، من خلال ما تم ترجمته إلى اللغات العربية، فمؤلفات الإغريق والفرس والهنود قد تُرجمت إلى اللغة التي استوعبت مفردات جميع العلوم بسهولة ويسر[11]؛ فيُقبل عليها المسلمون الجدد، وغير المسلمين، من أبناء الأمم المجاورة يتعلمونها، ويكتبون عنها، ويُقعِّدونها: نحوًا، وصرفًا، وتنقل إليها آثار الأمم الأخرى، وتقام لهذا الغرض المراكز والمدارس والمكتبات.

هذه عوامل ساعدت على أن يكون للغة العربية شأن كبير؛ لتطغى على بقية اللغات الأخرى التي عاصرتها؛ كاليونانية، والسُّرْيانية الشرقية، والغربية، والفارسية، والمصرية، والهندية، والحبشية التي ربما عُدت لهجة من اللهجات العربية، على اعتبار أنهما ينحدران من السامية[12].

وتصبح اللغة العربية الموحدة هي لغةَ العلم، ولغة الدولة، ولغة الفكر، في الوقت الذي يزداد فيه عدد المتكلمين بها، فيظهر التناسب بين عدد المتكلمين بها والإنتاج الفكري المنشور بها، ويكون هذا التناسب ميزة لا تتهيأ لكثير من اللغات، ويُقبل قومٌ من غير أبناء العربية على دراستها، وتدريسها في كنائسهم وأديرتهم، وجامعاتهم ومجامعهم، وتُنشأ لها ولعلومها المراكز والمعاهد، بل والجامعات في العواصم الغربية، فيرتفع عدد المتكلمين بها على أنها لغة ثانية في هذه المرحلة ارتفاعًا طفيفًا له دوافعه وأهدافه، التي انعكست على الدراسات التي صدرت عن هذه الفئة من الباحثين في اللغة العربية وعلوم المسلمين المكتوبة بها.

وكان هذا ناتجًا عن ردود الفعل التي عمَّت المجتمعات الغربية، نتيجة لانتشار الإسلام، وانضمام الشام تحت لوائه، بما فيه بيت المقدس[13].

فكانت الحروب الصليبية التي بدأت في ربيع الثاني من سنة 491هـ/ مارس من سنة 1098م، وانتهت في شعبان من سنة 690هـ/ أغسطس من سنة 1291م[14]، والتي كان لها كبير الأثر في تعميق اتجاه غير المسلمين لدراسة لغة المسلمين وعلومهم في الماضي، حتى تحولت بعض الإماراتالصليبية- مثل:أنطاكية[15]وطرابُلس - إلى مراكز للترجمة والتعليم[16]، وكانت مجالًا واسعًا للمزيد من التركيز من قبل علماء الغرب، الذين تخصصوا في دراسة علوم المشرق، وهذا ما نعبِّر عنه اليوم بظاهرة الاستشراق[17]التي كان لها أثر واضح في أن يتراجع المدُّ الفكري والعلمي العربي، في الوقت الذي يزداد فيه عدد المتحدثين باللغة العربية بلهجات مختلفة.

وليس بالضرورة أن يكون ارتفاع عدد المتحدثين بلغة ما مؤشرًا لحجم الإنتاج الفكري بها، فلم يكن العدد مقياسًا لهذا؛ إذ يزيد عدد المتحدثين باللغة العربية اليوم - على أنها اللغة الأم - عن واحد وسبعين ومائة مليون فرد (171،000،000)، بينما لا تصل إسهاماتها العلميَّة إلى (1%) من إجمالي الإنتاج الفكري العلمي العالمي، وهي من حيث عدد المتحدثين بها، تحتل المرتبة السادسة بين لغات العالم، هذا دون إضافة من يتحدث بها من المسلمين ذوي اللسان المختلف، ومن عاشقيها من غير المسلمين؛ من مستشرقين وغيرهم، مع أنهم قلة من حيث العدد.

وتكاد لغات الإنتاج الفكري تنحصر اليوم في ست لغات، تسهم بما يصل إلى (96%) من إجمالي الإنتاج الفكري العالمي، وهذه اللغات هي:اللغة الإنجليزية، واللغة الروسية، واللغة الألمانية، واللغة الفرنسية، فاللغة الإسبانية[18]، ويمثل هذا بدوره حالة حية تؤكد استمرار الحاجة إلى النقل والترجمة في كل زمان على اختلافٍ في وجهة النقل والترجمة من اللغةأو إليها.

هوامش:
[1]علي عبدالواحد وافي: علم اللغة - ط 6 - القاهرة: دار نهضة مصر، 1387هـ/ 1967م - ص: 1866.
[2]محمد الكتاني: مواجهة اللغة العربية لأول تجربة في ترجمة العلوم - ص: 53 - 73.
في: الترجمة العلمية، ندوة لجنة اللغة العربية لأكاديمية المملكة المغربية 19 - 20 رجب 1416/ 11 - 12دجنبر 1995م - طنجة: أكاديمية المملكة المغربية، 1416هـ/ 1996م.
[3]عكاظ بين نخلة والطائف، ومجنة بمر الظهران، وذو المجاز خلف عرفة، وكلها في الحجاز، وهي أسواق قريش والعرب، وأعظمها عكاظ، وكانت العرب تقيم بسوق عكاظ شهر شوال، ثم تنتقل إلى مجنة، فتقيم فيه عشرين يومًا من ذي القعدة، ثم تنتقل إلى سوق ذي المجاز، فتقيم فيه إلى أيام الحج؛ انظر: ياقوت الحموي: معجم البلدان؛ مرجع سابق - 4: 142.
[4]مصداقًا لدعوة أبي الأنبياء إبراهيم الخليل عليه السلام، قال تعالى: ﴿رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾.
[5]نزلت في ذلك سورة قريش، حيث الرحلات التجارية في الشتاء إلى اليمن، وفي الصيف إلى الشام، قال تعالى: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ*إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ*فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ*الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾.
[6]شوقي ضيف: العصر الجاهلي - ط 12 - القاهرة: دار المعارف، 1988م - ص: 131 - 137 - (سلسلة تاريخ الأدب العربي؛ 11).
[7]الكشكشة: إلحاق الشين بكاف المخاطبة في الوقف، وفي الوصل أحيانًا؛ مثل: رأيتكش، والكسكسة: إلحاق السين بكاف المخاطبة في الوقف، وفي الوصل أحيانًا: مثل: رأيتكس، وقد تحذف الكاف، وتحل الشين أو السين محلها: مثل: رأيتش، ورأيتس، والطمطمانية: هي إبدال لام التعريب ميمًا؛ مثل: امصيام، في الصيام، والعجعجة: جعل الياء المشددة جيمًا، مثل علج في علي، والعنعنة: جعل الهمزة عينًا في بعض الكلمات: مثل: دأني في دعني، والفحفحة: جعل الحاء عينًا، مثل عتى في حتى، والتضجُّع: هو إمالة العين نونًا مثل أنطني، في أعطني، والتلتلة: هي كسر التاء، في الفعل المضارع: مثل تعلمون، والوهم: هو كسر الهاء، في ضمير الغائبين، مثل منهم وعنهم، والوكم: هو كسر الكاف في ضمير المخاطبين إذا سبقها ياء أو كسرة، مثل عليكم وبكم؛ انظر: شوقي ضيف: العصر الجاهلي، المرجع السابق - ص: 121 - 130، ويؤثر عن الرسول محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم أنه سئل: "هل من امبِرِّ امصيامُ في امسفرِ؟ فقال: ((ليس من امبرِّ امصيامُ في امسفرِ"؛ انظر: الفتح الرباني ترتيب مسند الإمام أحمد/ ترتيب وتأليف أحمد عبدالرحمن البنا - 24 ج - القاهرة: دار الشهاب، د.ت - 10: 107.
[8]فيلب حتي وإدوارد جرجي وجبرائيل جبور: تاريخ العرب - ط 7 - بيروت: دار غندور، 1968م - ص: 128 - 1599.
[9]كارل بروكلمان: تاريخ الأدب العربي - ج 1، نقله إلى العربية عبدالحليم النجَّار - القاهرة: دار المعارف، (1983م) - ص: 41 - 433.
[10]لم أعثر على آثار في مظانها تؤيد هذا.
[11]فاضل محمد الحسيني: أثر الترجمة في رفد الحضارة العربية الإسلامية - تاريخ العرب والعالم ع 180 مج 19 (تموز (يوليو) 1999م/ ربيع الأول - ربيع الآخر 1420هـ) - ص: 44 - 600.
[12]شوقي ضيف: العصر الجاهلي؛ مرجع سابق - ص: 111، وانظر أيضًا: فيليب حتي وإدوارد جرجي وجبرائيل جبور، تاريخ العرب؛ مرجع سابق - ص: 399.
[13]قال ياقوت الحموي (4: 311): القدس اسم للبيت المقدسي، وأورد فيه آثارًا كثيرة، كلها تحتاج إلى تحقيق وتخريج وتوثيق، وفيه المسجد الأقصى، وقبة الصخرة، وكان قبلة المسلمين الأولى، أطنب في ذكره ياقوت الحموي في: معجم البلدان؛ مرجع سابق - 5: 166 - 172، يقع الآن تحت الاحتلال اليهودي.
[14]انظر: سعيد عبدالفتاح عاشور: الحركة الصليبية - 2 ج - القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1976م - 2: 11266.
[15]أنطاكية: من الثغور الشامية، توصف بالنزاهة والحسن، وطيب الهواء، وعذوبة الماء، وكثرة الفواكه، وسمة الخير، تقع على نهر العاصي؛ انظر: ياقوت الحموي: معجم البلدان؛ مرجع سابق - 1: 3666 - 370، وهي الآن من الأراضي التركية قرب الحدود السورية.
[16]عبدالله منسي السعد العمري: تاريخ العلم عند العرب - عمان: دار مجدلاوي، 1410هـ/ 1990م - ص: 2566.
[17]انظر في تفصيلات هذه الظاهرة من حيث مفهومها، وتاريخها، وأطوارها، وغاياتها، وآثارها: أحمد سمايلوفتش: فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر - القاهرة: دار الفكر، 1418هـ/ 19888م - 780ص، لا سيما الباب الأول من ص: 13 - 240؛ وانظر أيضًا: علي بن إبراهيم الحمد النملة: ظاهرة الاستشراق: مناقشات في المفهوم والارتباطات - الرياض: مكتبة التوبة، 1424هـ/ 2003م. 210ص؛ وانظر كذلك: ساسي سالم الحاج: نقد الخطاب الاستشراقي: الظاهرة الاستشراقية وأثرها في الدراسات الإسلامية - 2 مج - بيروت: دار المدار الإسلامي، 2002م.
[18]انظر في نسب الإنتاج الفكري لهذه اللغات وغيرها: حشمت قاسم: خدمات المعلومات: مقوماتها وأشكالها - القاهرة: مكتبة غريب، (1404هـ/ 1984م) - ص: 555.