أفعاله كذاته وصفاته: لا تشبه ما للمخلوقين:
كما قد ضل البعض في ذاته وصفاته،كذلك ضل آخرون في أفعاله.
ففى ذاته، لما رأى الفلاسفة: إيجاد شيء من لا شيء كالمستحيل في العادات، قالوا بقدم العالم!!؟.
وفى صفاته ، لما عظم عند المتكلمين: الإحاطة بكل شئ، قالوا: يعلم الجمل لا التفاصيل!!؟، ولما رأوا تلف الأبدان: أنكروا إعادتها!!؟.
وكل من قاس صفة الخالق على صفة المخلوقين خرج إلى الكفر.
كذلك فىأفعاله، فإن من حمل أفعاله على ما يعقل في العادات: رأى ذبح الحيوان لا يستحسن، والأمراض تستقبح، وقسمة الغِنى للجاهل، والفقر للعالم: أمراً ينافى الحكمة!!؟.
فهذا في الأوضاع بين الخلق، فأما الخالق سبحانه، فإن العقل لا ينتهى الى حكمته.
أليس قد ثبت عنده-أي العقل-: وجود الله ومُلكه وحكمته!!؟، فتعَرُضُه بالتفاصيل على ما تجرى به عادات الخلق: جهل!!؟.
ألا ترى أن أول المعترضين، وهو إبليس: كيف ناظر، فقال:[ أنا خير منه]،
وقول من غوى في شعره حين قال:
إذا كان لا يحظى برزقك عاقل ÷وترزق مجنونا وترزق أحمقا
فلا ذنب يا رب السماء على امرئ ÷ رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا
فنسأله تعالى توفيقاً للتسليم، وتسليماً للحكيم.
[رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا].
أترانا نقدر على تعليل أفعاله، فضلاً عن مطالعة ذاته!!؟.
وكيف نقيس أمره على أحوالنا!!؟، فإنا قد رأينا نبينا صلى الله عليه وسلم يَسألُ في أُمه وعمه، فلا يقبل منه، ويتقلب جائعاً، والدنيا ملك خالقه، ويقتل أصحابه، والنصر بيد مرسله!!؟.
أوليس هذا مما يحير!!؟.
فما لنا والاعتراض على مالك: قد ثبتت حكمته، واستقر ملكه!!؟.
وقد قال بعض المحبين في هذا المعنى:
ويقبح من سواك الفعل عندي÷ فتفعله فيحسن منـك ذاكـا
ولذلك: فإن قياس الغائب على الحاضر، وقياسصفات اللهوأفعاله وذاتهعلى المشاهد لنا هو: سبب ضلالكثير من الناس.
.
** فمنهم: من غلب عليه الحس، فلم يشاهد الصانع!!؟
جحدوا وجوده، ونسوا أنه ظهر بأفعاله!!؟،وأن هذه الأفعال لابد لها من فاعل.
** ومنهم: من أثبت وجوده، ثم قاسوا صفاته على صفات المخلوقين، فشبهوا حتى قالوا: ينزل إلى السماء، أي: ينتقل.
**ومنهم: من ضلوا فى أفعاله، فأخذوا يعللون، فلم يقتنعوا بشيء، فخرج منهم: من نسب فعله إلى ضد الحكمة - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا-.
وإنما يكون الجواب لمن أراد التوفيق والصواب أن يقال:
إذا أقررنا أن ذاته ليست كالذوات، وصفاته ليست كالصفات، فكذلك أفعاله لا تقاس على أفعال العباد، فإن أحدنا لو فعل فعلاً لا يجتلب به نفعاً، ولا يدفع عنه ضراً: عد عابثاً!!؟، وهو سبحانه: أوجد الخلق، لا لنفع يعود إليه، ولا لدفع ضر، إذ المنافع لا تصل إليه، والمضار لا تتطرق عليه.
فإن قال قائل:
إنما خلق الخلق لينفعهم: يبطله أن يقال: إنه خلق خلقاً منهم للكفر وعذبهم،وتراه يؤلم الحيوان والأطفال، وهو قادر أن لا يفعل ذلك.
فإن قال قائل:
إنه يثيب على ذلك، قلنا: وهو قادر على أن يثيب بلا هذه الأشياء، فإن السلطان إذا أراد أن يغنى فقيراً، فجرحه ثم أغناه: لِيم على ذلك، لأنه قادر على أن يغنيه بلا جراح.
لذلك، فالقاعدة هنا: أنه لا تطلب تعليلات أفعال الله كلها، والصواب: التعليل لما يمكن، والتسليم لما يخفى.
وذلك، لأن الحق سبحانه وتعالى لا تقاس أفعاله على أفعالنا، ولا تعلل إلا فيما ظهر لنا.
والذى يوجب التسليم: أن حكمته فوق العقل، فهي تقضى على العقول، والعقول لا تقضى عليها، ومن قاس فعله على أفعالنا: غلط الغلط الفاحش.
ولهذا قالت المعتزلة: كيف يأمر بشيء، ويقضى بامتناعه!!؟.
ولو أن إنساناً دعي إلى داره، ثم أقام من يصد الداخل: لعِيب!!؟.
وقد صدقوا فيما يتعلق بالشاهد، فأما من أفعاله، فلا تعلل، ولا يقاس بشاهد، فإنا لا نصل إلى معرفة حكمته.
فإن قال قائل:
فكيف يمكننى أن أقود عقلي إلى ما ينافيه!!؟:
قلنا: لا منافاة، لأن العقل قد حكم بالدليل الجلي: أنه حكيم، وأنه مالك.
والحكيملا يفعل شيئاً إلا لحكمة،غير أن تلك الحكمة لا يبلغها العقل.
وقد يتبادر سؤال:
إذا كنتم تقولون: إن صفاته وأفعاله لا تقاس على مثيلاتها لدى المخلوقين، فكيف تثبتون حكمته!!؟، إذ أنتم تقولون بما أنه خلق حكمة للبشر، فهو متصف بها!!؟.
يجيب الإمام:"ابن القيم" رحمه الله:
" الرب سبحانه وتعالى لا يدخل مع خلقه في قياس تمثيل ولا قياس شهوديستوي أفراده، فهذان الفرعان من القياس يستحيل ثبوتهما في حقه، وأما قياس الأولى، فهو: غير مستحيل في حقه، بل هو: واجب له ومستعمل في حقه عقلاً ونقلاً.
أماالعقل، فمثيل ذلك: استدلالنا أن معطى الكمال أحق بالكمال، ومن جعل غيره سميعاً بصيراً عالماً حياً قادراً رحيماً محسناً، فهو: أولى بذلك وأحق منه، ويثبت له من هذه الصفات: أكملها وأتمها، فكل كمال ثبت للمخلوق غير مستلزم للنقص، فخالقه ومعطيه إياه: أحق بالاتصاف به.
وكل نقص في المخلوق، فالخالق أحق بالتنزه عنه، كالكذب والظلم والسفه والعيب، بل يجب تنزيه الخالق عن كل النقائص والعيوب، وإن لم يتنزه عنها بعض المخلوقين.
وأماالنقـل، فهو مستفاد من قوله تعالى:
[ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاء مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ].
[وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ].
[ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ].
[تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ].
ومقصود الآيات:
أنه إذا كان العجز والعيب والنقائص: مستنكرة في حقكم، فكيف تنسبونها لله!!؟.
وفى الحديث أمثال ذلك، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"وأن الله أمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وإن مثل من أشرك كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله، وقال له : اعمل وأد إلي، فكان يعمل ويؤدى إلى غيره، فأيكم يحب أن يكون عبده كذلك!!؟".
فالله سبحانه وتعالى: لا تضرب له الأمثال التي يشترك هو وخلقه فيها: لا شمولاً ولا تمثيلاً، وإنما يستعمل في حقه: قياس الأولى كما أسلفنا.