مقومات وخصائص الخطبة الناجحة
02-08-2016, 10:20 AM
مقومات وخصائص الخطبة الناجحة
د. هند بنت مصطفى شريفي

الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:

الخطابة هي:" فن مخاطبة الجماهير بطريقة إلقائية، لإقناعهم بهدفٍ سامٍ، ودفعهم واستمالتهم لتحقيق هذا الهدف".[1].
وهي من الوسائل البارزة من وسائل الدعوة، وبها بدأ النبي صلى الله عليه وسلم نذارته لأهل مكة، حين أمره الله تعالى أن يصدع بالدعوة فخطب على الصفا (فهتف: يا صباحاه. فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا إليه، فقال: ((أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل، أكنتم مصدقي؟))، قالوا: ما جربنا عليك كذبا. قال:(( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد))[2].
وبها أعلن حكمه لمكة وانضواءها تحت لواء الإسلام، وأعلن وحدانية الله تعالى وتحكيم شرعه على الملأ.
وقد تعددت خطبه صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فكانت مشاعل هداية للناس، فقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، كما أوتي الحكمة، ومن خلال خطبه صلى الله عليه وسلم يستنبط الدعاة مقومات وخصائص الخطب الناجحة، ومن ذلك:

1 - مراعاة الكلام لمقتضى الحال: فيتوسم الداعية حال السامعين، ليعرف مبلغ طاقتهم وقدر استحقاقهم وإقبالهم على الانتفاع ليعطيهم ما يتحملون، ويمسك عما لا يطيقون، ويوجز إذا خشي الملالة والانصراف[3]، وقد روى جابر بن سمرة [4]رضي الله عنه قال: (كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت صلاته قصدا وخطبته قصدا)[5]، كما اعتبر صلى الله عليه وسلم قصر خطبة الرجل من علامات فقه الرجل، فقال:(( إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته، مَئِنَّةٌ[6] من فقهه، فأطيلوا الصلاة، اقصروا الخطبة))[7]، وذلك بأن يوجز الخطبة مع الاستيعاب لجميع عناصرها.
كما كان صلى الله عليه وسلم يأمر في خطبته بمقتضى حال المدعوين، فتجده لما سأله عمه العباس رضي الله عنه أن يبيح لهم الإذخر، وبين له حاجة الناس واضطرارهم إليه، قال: (( إلا الإذخر))، ولما سأله أبو شاه أن يكتب له الخطبة ليحملها معه إلى قومه، أمر الصحابة أن يكتبوا له، وقال: (( اكتبوا لأبي شاه))[8].

2 - التفاعل الصادق المخلص أثناء الخطابة[9]، فإن هذا مما يثير المشاعر النفسية عند المدعوين، ويلفت أنظارهم، ويجذب انتباههم، إضافة إلى المشاركة الوجدانية من الداعية مع المدعوين، وبيان تأثره بكل ما يتحدث به إليهم[10]، وقد ورد عنه أنه كان إذا خطب وأنذر بيوم القيامة: احمر وجهه وعلا صوته: كأنه منذر جيش، كما روى الإمام مسلم رحمه الله: (كان إذا خطب، احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول: صبحكم مساكم)[11]، وهذه الهيئة الخطابية مما يدل على صدقه صلى الله عليه وسلم، وابتعاده عن التصنع والتكلف.

3 - الوضوح: وهذا يعني اختيار الألفاظ المفهومة والعبارات السهلة، مع مراعاة مستوى السامعين الثقافي والتيسير عليهم، وتفصيل المجمل من الكلام وتوضيحه[12]، فيكون حديثه واضحا بينا، يفهمه السامعون، ولا ينتقل من فكرة أو من عنصر إلى آخر، إلا وهو متأكد من استيعابهم له ما أمكن، مع مراعاة الفروق الفردية في القدرة على الاستيعاب، وذلك بأن ينوع في طرق العرض، وأساليب الكلام، لتوضيح مقصده: كالتكرار والتأني في الكلام، ويراعي حسن النطق، وتجويد الكلمات والحروف[13].

4 - تميزت خطبه صلى الله عليه وسلم باشتمالها على عناصر الخطبة الجيدة[14]، مثل: تقسيمها إلى عناصر وأفكار رئيسية، فيبتدئ بالبداية الملائمة، ثم يذكر ما يريد، ثم ينهي بالخاتمة الملائمة، لأن الخطبة تحتاج إلى مقدمة تهيئ أذهان المدعوين لسماعها، ومما كان يبدأ به صلى الله عليه وسلم: حمد الله تعالى والثناء عليه والتشهد، ثم يعرض الموضوع ويفصله تفصيلا مناسبا.
وفي خطب الفتح: اشتملت خطبه على العديد من التشريعات المهمة، والتذكير بالله تعالى، والموعظة الحسنة وغير ذلك من العناصر، ثم ختمها بما يؤكد عرضه، ومما ختم به خطبته يوم الفتح: تكليفه السامعين بحمل أمانة التبليغ لمن وراءهم بقوله: (( وليبلغ الشاهد الغائب))[15].

5 - التنويع فيها تبعا لموضوعها، ومراعاة لحال المستمعين، فإذا كان المدعوون بحاجة إلى التخويف والترهيب: ذكرهم بعذاب الله، وإن رأى فيهم يأسا وقنوطا ووجلا شديدا: ذكرهم بعظيم رحمة الله وسعة رحمته، وأشاع في قلوبهم: ما يطمئنهم وينيب قلوبهم، كما فعل صلى الله عليه وسلم في أول خطبة له في مكة، حين أعطى الأمان لقريش، وقال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء))[16].

6 - استغلال هذه الوسيلة تربويا، فعند تأمل موقفه صلى الله عليه وسلم مع قضية المرأة المخزومية التي استشفع لها أسامة رضي الله عنه، يتبين له دور الخطبة في التربية، فقد أنكر صلى الله عليه وسلم على أسامة شفاعته قائلا:" أتشفع في حد من حدود الله!!؟"، ثم لم يكتف بهذا الاستفهام المشبع بالمرارة واللوم، لكنه بادر في عشية ذلك اليوم دون تأجيل وجمع القوم ووقف فيهم خطيبا وقال:" أما بعد، فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها".[17].‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎‎

7 -استعمال العوامل الموقظة لعقول السامعين، والمثيرة لحماسهم واهتمامهم، ومن ذلك: توجيه الأسئلة للمخاطبين، فذلك يهيئ أنفسهم للاستجابة والانقياد، - حيث أن المسئول غالبا في موقف أضعف من السائل - وهذا الشعور يحتاجه الخطيب: ليعي الناس كلامه وما يهدف إليه[18]، وذلك كسؤال النبي صلى الله عليه وسلم لقريش: (( ما ترون أني فاعل بكم؟)).

8 - استخدام الأساليب البلاغية، مثل:التوافق في تقسيم الجمل، كقوله صلى الله عليه وسلم:(( تؤخذ صدقاتهم في ديارهم، ويجير على المسلمين أدناهم، ويرد على المسلمين أقصاهم))[19].
واستخدام أسلوب التأكيد، كقوله صلى الله عليه وسلم:(( لقد قتلتم قتيلا لأدينَّه))[20].
وكذلك استخدامه القسم في قوله:(( والذي نفس محمد بيده))[21] مع المبالغة إلى جانب التأكيد على إقامة الحدود، بأن ذلك لو وقع من فاطمة رضي الله عنها - وهي أبعد الناس عن ذلك - لأقام عليها الحد.
استخدام أسلوب المقابلة، فذكر في خطبته الشريف، ثم ذكر الضعيف، وذكر البر التقي الكريم على الله، ثم ذكر الفاجر الشقي الهين على الله.
إلى غير ذلك من المزايا التي ساعدت على إنجاح هذه الوسيلة، مما جعلها ذات آثار مباركة في تبليغ الدعوة.
وقد اتخذ أصحابه من بعده وسيلة الخطابة: لإصلاح الناس، ولقطع دابر الفتن[22]، فهذا سهيل بن عمرو رضي الله عنه، لما بلغته وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وساورت أهل مكة الشكوك، وفكروا في الارتداد عن الإسلام، قام رضي الله عنه خطيبا فيهم وقال:" من كان يعبد محمدا، فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت".[23]، فحفظ الله تعالى أهل مكة من الارتداد، وثبتوا على دين الحق.

هوامش:
[1] بتصرف، الخطابة في موكب الدعوة: محمود محمد عمارة ص 9، دار الخير بيروت - دمشق، ط:1، 1413هـ - 1993م، وانظر الدعوة والخطابة: علي عبد العظيم ص 10 دار الاعتصام القاهرة، ط: 1، 1399 هـ - 1979 م.
[2] صحيح البخاري كتاب التفسير باب سورة تبت يدا أبي لهب وتب 6/ 94 واللفظ له، وصحيح مسلم كتاب الإيمان باب في قوله تعالى: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214] 1/ 194 ح 207.
[3] بتصرف، هداية المرشدين ص 121. وانظر الدعوة الخطابة علي عبد العظيم من ص 42 - 52
[4] هو جابر بن سَمُرة بن جُنادة بن جُندب العامري السُّوائي، حليف بني زهرة، أمه خالدة بنت أبي وقاص أخت سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، شهد فتح المدائن ونزل الكوفة، توفي رضي الله عنه في ولاية بشر على العراق سنة 74. بتصرف، سير أعلام النبلاء 3/ 186، و الإصابة 1/ 212.
[5] صحيح مسلم كتاب الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة 2/ 591 ح 866، وسنن النسائي في صلاة العيدين باب القصد في الخطبة 3/ 191 ح 1582.
[6] أي علامة. صحيح مسلم بشرح النووي 6/ 158.
[7] صحيح مسلم كتاب الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة 2/ 594 ح 869.
[8] سبق تخريجه ص 145.
[9] انظر الدعوة الإسلامية، أصولها ووسائلها ص 420 و ص 421.
[10] بتصرف، المنهج الدعوي في أصول المحاضرة الدعوية، بحث تأصيلي بين التجربة الميدانية والدراسة النظرية: هشام يوسف محمد بنان ص 261، دار المجتمع للنشر والتوزيع، جدة ط:1، 1413هـ 1992م.
[11] كتاب الجمعة باب تخفيف الصلاة والخطبة 2/ 592 ح 867، رواه النسائي في سننه كتاب صلاة العيدين باب كيف الخطبة للعيدين 3/ 188 ح 1578 وقال: ( كان إذا ذكر الساعة) وكذلك رواه الإمام احمد في مسنده عن ابن الزبير 1/ 167.
[12] بتصرف، الدعوة والخطابة: علي عبد العظيم ص 45.
[13]انظر المنهج الدعوي في المحاضرة الدعوية ص 251 - 255.
[14] للاستفادة انظر الدعوة والخطابة من ص 56 - 61.
[15] سبق تخريجه ص 144.
[16] سبق تخريجه ص 142.
[17] سبق تخريجه ص 160.
[18] بتصرف، بحث بعنوان: البلاغة والنبوية وأثرها في النفوس: د. حسن جاد ص 157، مجلة البحوث الإسلامية المجلد الثاني العدد الأول 1400.
[19] سبق تخريجه ص 143.
[20] سبق تخريجه ص 146.
[21] سبق تخريجه ص 160.
[22] انظر أصول الدعوة د. عبد الكريم زيدان من ص 474 - 476. وللاستفادة انظر الدعوة الإسلامية أصولها ووسائلها من ص 419 - 422، وكيف ندعو الناس من ص 44 - 60.
[23] سبق تخريجه ص 562.