الحرب بالفواحش
14-07-2018, 11:04 AM
الحرب بالفواحش
محمد بن سعيد
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وآله وسلم.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:70].
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّـهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فإنَّ دينَ الإسلامِ العظيمِ هو: دينُ الطَّهَارة، دينُ طهارةِ الباطنِ والظاهرِ على السواء، أَمَرَ اللهُ ربُّ العالمين بطهارةِ القلوبِ والأرواحِ والأنفُسِ، وأمرَ اللهُ ربُّ العالمين بطهارةِ الأبدانِ والثيابِ والأمْكنة، وهو دينُ العِفَّةُ ودينُ العفافُ، ينفي الفاحشةَ ويُحاربها ويَسُدُّ المسالكَ التي تؤدي إليها
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33].
فحرَّم اللهُ ربُّ العالمين كبائرَ الإثمِ والفواحش كالزنا، واللواط، وإتيان النساء النساء، وما سوى ذلك مما حَرَّمَهُ اللهُ ربُّ العالمين من تلك الفواحشِ التي تتعلقُ بالأبدانِ ظاهرًا، وحرَّمُ اللهُ ربُّ العالمين ما بطنَ من الفواحشِ أيضًا من النفاقِ ومن الحقدِ والحسدِ والغِلِّ والضغينةِ ومِن العُجْبِ ومن محبةِ المَحمدةِ والسُّمعة، وما سوى ذلك مما يتعلق بالقلوب:
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33].
فحرَّمَ اللهُ ربُّ العالمين الفواحش، وسَدَّ اللهُ ربُّ العالمين المسالكَ المؤديةَ إليها، ومعلومٌ أنَّ للوسائلِ حُكْمَ المقاصد سواءً بسواء، فإذا كانت المقاصد مُحرَّمة؛ فإنَّ الوسائلَ التي تؤدي إليها مُحرَّمةُ بلا امتراء، وقد تظاهرت على إثباتِ ذلك نصوصُ الكتابِ والسُّنَّة.
واللهُ ربُّ العالمين أخبرنَا على لسانِ نبيِّنا الأمين –صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم- عن عِظَمِ فضيلةِ الحياءِ، وأنَّ اللهَ ربَّ العالمين جعل هذا الخُلُقَ خُلُقَ الإسلام، وخَلَّقَ النبيَّ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- منه بالنصيبِ الأوفى وجعلَ له فيه القِدْحَ المُعَلَّى، وجعلَهُ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أحيا الخَلْقِ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
وجعل اللهُ ربُّ العالمين الحياءَ حاجزًا عن الوقوعِ فيما حرَّمَ اللهُ ربُّ العالمين، وجعلَ الحياءَ من خُلُقِ الملائكةِ المُطَهَّرين.
ففي حديثِ عائشة عند مسلمٍ –رضي الله تبارك وتعالى عنها- و-رحمه الله- أنَّ النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لمَّا دخل عليها في ليلتها؛ فكان على فراشهِ، ثم قام؛ فخرجَ رُويدًا، ثم أجافَ البابَ ثم مضى، فمضت خلفَه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، فذهب إلى البقيعِ –بقيعِ الغرقدِ-، فدعا اللهَ ربَّ العالمين طويلًا يستغفرُ لأهلِ البقيع، ثم عاد، فعادت قبلَه.
ثم كان ما كان من القصةِ التي حَكَتْها –رضي الله تبارك وتعالى عنها-، ثم أخبرها النبيُّ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- حقيقةَ الخبر.
فكان مما قال –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((إنَّ جبريلَ قد جاءني فناداني فأخفيتُه منكِ، فأجبتُهُ فأخفيتُه عنكِ، وما كان ليدخلَ عليكِ وقد وضعتِ عنكِ ثيابكِ)).
فأخبر النبيُّ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنَّ الملائكةَ تستحيي هذا الحياءَ العظيم، وأنَّ جبريلَ وهو مُقَدَّمُ الملائكةِ ما كان ليدخلَ على النبي –صلى الله عليه وسلم- وعائشةُ في فراشِها قد وَضَعَت عنها ثيابَها؛ فاستحيا، فنادى النبيَّ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- نداءً خَفيًّا، فأجابه النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- بمِثْلِ ما ناداهُ به إجابةً خَفيَّة، وكلُّ ذلك لأنَّ النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- كان قد ظنَّ أنها قد نامت، وخشيَ –صلى اللهُ عليه وسلم- أنْ تستيقظَ فتستوحشَ إذ يخرجُ عنها –صلى الله عليه وسلم- و-رضي الله عنها-.
فاستحيا جبريلُ وما كان ليدخلَ عليها وقد وضعت عنها ثيابَها، فالملائكةُ يستحيونَ هذا الحياءَ العظيم.
والنبيُّ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في وصفه في خُلُقِ الحياءِ الذي كان عنده: ((أنه كان أحيَا من العذراءِ في خِدرِها –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-)).
ومن ذلك ما روته عائشةُ أيضًا، وهو عند مسلمٍ –رحمهُ الله-: أنَّ امرأةً جاءت تسألُ النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- كيف تَتطهرُ من حَيْضِها؟.
فأخبرها النبيُّ –صلى الله عليه وسلم- عن كيفيةِ طُهرِها، ثم قال: ((خذي فِرسةً مُمسَّكَةً فتتطهري بها))، أي: خذي قطعةً من القُرصفِ –من القطن أو من القماشِ- فاجعلي عليها شيئًا من المِسكِ أو مِن الطِّيبِ ثم تَطَّهري بها.
فقالت: يا رسول الله، كيف أتطهرُ بها؟.
قال سفيانُ: فوضعَ يدَهُ على وجههِ –صلى الله عليه وسلم- حياءً، وقال: ((سبحان الله، تطَّهري بها)).
قالت عائشةُ –رضي الله عنها-: فَعَرفْتُ مرادَه، فأخذتُ بيدها، فقلت لها: تَتَّبعي بها أثرَ الدَّم.
فاستحيا النبيُّ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- هذا الحياءَ العظيم، وقد سألتْهُ المرأة: كيف أتطهرُ بها يا رسول الله؟.
قالت عائشة: تتبعي بها أثرَ الدمِ.
النبيُّ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان بهذا الوصف، وأمهات المؤمنين كُنَّ أيضًا على هذا الخُلُقِ العظيم، فهذه عائشةُ، وفي روايةٍ أنها أيضًا وقعت لأمِّ سَلَمَةَ –رضي الله عنهما وعن أمهات المؤمنين-.
وذلك أنَّ أمَّ سُليمٍ جاءت إلى النبيِّ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، فقالت: يا رسول الله، هل على المرأةِ غُسْلٌ إذا هي احتلمت؟.
قال: ((نعم، إذا رأت الماءَ)).
فغطَّت أمُّ سَلَمَة وجههَا، وقالت: يا رسول الله، وهل تحتلمُ المرأة؟.
فقال النبيُّ –صلى الله عليه وسلم-: ((تَرِبَت يَمينُكِ، ففيما يُشبهُها وَلَدُها إذن؟!)).
فاستحيت؛ فوضعت يديها على وجهِها حياءً، ثم قالت: يا رسول الله، أوتحتلمُ المرأة؟، فأخبرها –صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم-.
فالملائكةُ على هذا الخُلُقِ العظيم، والنبيُّ الكريم، وأمهات المؤمنين، وكذلك كان الصالحون مِن هذه الأمة وما يزالون على هذا الخُلُقِ العظيم.
والنبيُّ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يدُلُّنا عليه عندما سُأل: عورَاتُنا ما نُبدي منها وما نُخفي يا رسول الله؟.
قال: ((أخفي عورَتك، وَوَارِها إلا عن زوجتِك)).
فقال: إنَّ القومَ يكونون معًا يختلطون.
فقال: ((إنْ استطعتَ ألَّا يرينَّها أحدٌ فلا يرينَّها أحد)).
قال: فالرجلُ يكونُ وحدَه، أفيضعُ عنه ثيابَه؟.
قال: ((فاللهُ أحقُّ أن يُستحيا منه من الناس)).
فإنْ كنتَ خاليًا؛ فالحياءَ الحياء، ((فاللهُ أحقُّ أن يُستحيا منه من الناس)).
بيَّنَ ذلك نبيُّنا –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، وبيَّنَ نصًّا بتحديدٍ في الحديثِ المتفقِ على صحتهِ، قال –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((الإيمان بضعٌ وسبعون –وفي رواية: وستون- شُعبة، أعلاها قولُ: لا إله إلا الله، وأدناها إماطةُ الأذى عن الطريق، والحياءُ شُعبةٌ مِن الإيمان)).
ورأى النبيُّ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- رَجُلًا يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ.
فَقَالَ: ((دَعْهُ فَإِنَّ الْحَيَاءَ لا يأتِي إلَّا بِخَيْرٍ)).
هذا الخُلُقُ هو خُلُقُ الإسلامِ العظيم، وهو من تلك المسالكِ التي جَعَلَهَا اللهُ ربُّ العالمين مؤديةً إلى العِفَّةِ والعفافِ، وحاجزةً عن الفُحشِ والتَّفَحُّش.
والنبيُّ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- حدَّدَ لنا أمورًا هي:
أنَّ المجتمعَ إذا ما انهارت أخلاقُهُ، وإذا ما سقطت أخلاقُهُ في الحمئةِ الوبيلة، المجتمع إذا ظهرت فيه الفاحشة؛ فَكَبِّر عليه أربعًا، المجتمعُ لا يُحاربُ بِمِثْلِ ما يُحاربُ بنشرِ الفاحشةِ والرذيلةِ بين أبنائِه، وما تَمكَّنَ أعداءُ الإسلامِ في داخلٍ ولا خارجٍ يومًا من المسلمين إلا بالعبثِ بأخلاقِهم وبثِّ النَّزَواتِ والشهواتِ مفتوحةً بمصارعِ أبوابِها أمامَ شهواتِهم ومَلذَّاتِهم.
فإذا انهارت الأخلاقُ؛ انهارَ المجتمعُ لا محالة، وقد عَلِمَ أعداءُ الإسلامِ: أنهم لن ينالوا بالمواجهةِ العسكريةِ بينهم وبين المسلمين شيئًا ذا بال؛ ولذلك كان التركيزُ كلُّهُ على بَثِّ الشُّبهاتِ بين المسلمين، وعلى إثارةِ نوازعِ العصبيةِ بين أبناءِ الإسلامِ العظيم، وبإثارةِ الشهواتِ وبَعْثِ النَّزَوَاتِ مِن مكامنِها، فإذا انهارت الأخلاقُ؛ انهارَ المجتمعُ لا محالة.
لذلك تجدُ الإسلامَ العظيم أشدَّ حِرْصًا على سَدِّ المَسَالكِ التي تؤدي إلى الوقوعِ في الرذيلةِ والفاحشة؛ مِن كلِّ ما يُمكنُ أنْ يتصورَ المرءُ حاجزًا عن الوقوعِ في ذلك أو مؤديًّا إليه، حتى ضربَ اللهُ ربُّ العالمين لنا الأمثال بأطهرِ القلوبِ على الأرضِ بعد الأنبياءِ والمرسلين.
* فقال ربُّنا -جلَّت قدرتُهُ- في كتابهِ العظيم:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ}.[الأحزاب: 53].
والضمير هاهنا: يعود إلى الأصحابِ –أصحابِ النبيِّ الكريم –صلى اللهُ عليه وسلم- وإلى أُمهاتِ المؤمنين، وإذا سألتم يا أصحابَ مُحمد،{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ} أي: سألتم أمهاتِ المؤمنين {مَتَاعًا} فيما يكونُ مِن أواني الدنيا التي تُستعملُ في حاجاتِها.
{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ}: مِن غيرِ رؤية، وإنما هو سؤالٌ هكذا على صَوتٍ يُسمع وإجابةٍ تأتي بلا مزيد، {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ} يا أصحابَ مُحمد؛ إذا سألتم أمهات المؤمنين؛ إذا سألتم أزواجَ مُحمدٍ الأمين –صلى الله عليه وسلم- و-رضي الله عنهن-، {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا}: وهو الشيءُ من أواني الدنيا وما يُستعملُ فيها، {فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ}، ثم أتى التعليل {ذَٰلِكُمْ}: يعني ذالكم السؤال ُعلى ذلك النحو المذكور؛ بالسؤالِ صوتًا من غيرِ رؤيةٍ ولا دخول، {أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ} يا أصحابَ مُحمد، {وَقُلُوبِهِنَّ} يا أزواجَ النبيِّ الأمين.
فهذه أطهرُ القلوبِ طُرًّا؛ ومع ذلك أمرَ اللهُ ربُّ العالمين عند السؤالِ بهذا الاحترازِ المتين؛ لأنهن قدوة وأسوة لسائرِ النساء، وكذلك أصحابُ النبيِّ –صلى الله عليه وسلم- قدوةٌ وأسوةٌ لسائرِ الرجال من أمةِ مُحمدٍ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
فإذا كان الله ربُّ العالمين قد أمرَ بهذا أصحابَ النبيِّ –صلى الله عليه وسلم- وأُمهاتِ المؤمنين، فكيف بالرجالِ في الأمةِ بعد الأصحاب؟، وكيف بالنساءِ في الأمةِ بعد أمهاتِ المؤمنين؟، وعقلُ الواحدِ مِن المتأخرينَ وإيمانُه وثباتُهُ ويقينُهُ بالنسبةِ إلى أصحاب النبي الأمين –صلى الله عليه وسلم-، وعقلُ الواحدةِ من النسوةِ من المتأخراتِ والمُتقدَّماتِ بالنسبةِ إلى عقلِ أمهاتِ المؤمنين وإيمانِ أمهاتِ المؤمنين وثباتِ أمهاتِ المؤمنين؛ كتَفلةٍ في بحر، كحبَّةِ رملٍ في فلاة، ومع ذلك يقول الله:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53].
فهذا هذا، فكيف يكونُ الجوابُ حتى لو كان مِن أمهات المؤمنين –رضي الله عنهن-؟.
يقولُ ربُّنا –جلَّت قدرته- في حقهنَّ –رضي الله عنهن-:{يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا} [الأحزاب: 32].
فأخبر اللهُ ربُّ العالمين نساءَ النبي الأمين –صلى الله عليه وسلم- أنهنَّ لسنَ كأحدٍ من النساء إنْ اتقينَ اللهَ –تبارك وتعالى-، فمَقامُهنَّ لا يُمكنُ أنْ يُسامى فضلًا عن أنْ يُسامتَ، فضلًا عن أن يلحقَ بهن أحدٌ من نساءِ الأمة، فهو مقامٌ عالٍ جدًا لا يرتقي إليه واحدةٌ من نساءِ الأمةِ بعد أمهاتِ المؤمنين –رضي الله عنهن-.
{فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ}: باللينِ فيه وترقيقِ النَّبْرةِ، فنهى اللهُ ربُّ العالمين عن الخضوعِ بالقول؛ فيطمع الذي في قلبهِ مرض، كيف يعرفُ الرجلُ أنَّ في قلبهِ مرضًا؟، فإنْ وجدَ عند سماعِ النَّغْمةِ التي تلينُ به المرأة وتُرَقِّقَها شيئًا من الشهوةِ الخفيَّةِ يتحركُ في قلبِهِ؛ ففي قلبِهِ مرض، فالفرارَ الفرار، وإلا تورط تَورُّطًا.
يقول ربُّنا –تبارك وتعالى-{فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ}: فإذا كلمتُنَّ أحدًا من غيرِ المحارمِ؛ فلا تخضعن بالقول، والخضوع بالقول عندما تخضعُ به المرأةُ يأتي في ضِمنهِ اللين؛ ولذلك لم يقُل ربُّنا –تبارك وتعالى- فلا تَلِنَّ بالقولِ، وإنما نهى عن الخضوعِ بالقول، بل مدح اللهُ ربُّ العالمين نبيَّه الكريم –صلى الله عليه وسلم- بلينِ القولِ وباللينِ للمؤمنين: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159].
وأمَرَ اللهُ ربُّ العالمين هارونَ كما أمرَ موسى الكليم أنْ يذهبا إلى فرعون وأنْ يَعِظَاه وأنْ يُذِّكراهُ وأنْ يدعواهُ إلى توحيدِ ربِّ العالمين، وأنْ يقولا له قولًا ليَّنًا.
فنهى اللهُ ربُّ العالمين عن الخضوعِ بالقولِ وفي ضِمْنهِ اللينُ فيه، ولمَّا كان النهيُ عن الخضوعِ بالقولِ مَظَنَّةَ أنْ يُظَنَّ أنَّ ذلك إنما هو داعٍ إلى الإغلاظِ في القولِ والعُنفِ مع الخشونةِ فيه؛ قال ربُّنا –جلَّت قُدرتُهُ-:{وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا}.
فأمرَ اللهُ ربُّ العالمين بعدمِ الخضوعِ بالقولِ من النساء، فعلى المرأةِ ألَّا تُرَقِّقَ صوتَها، وألَّا تَلينَ بقولِها، وألّا تخضعَ بالقولِ مع غيرِ محارمِها، فإنَّ ذلك مما نَهَى اللهُ ربُّ العالمين عنه أشرفَ النساءِ طُرًّا، وهُنَّ أزواجُ النبيِّ الكريم –صلى الله عليه وسلم- و-رضيَ اللهُ عنهن-.
وأما الآن؛ فإنك تَرَى النساءَ يخضعنَ بالقولِ مع غيرِ المحارمِ ما لا يفعلن مع المحارم؛ ما لا يفعلن مع زوجٍ -مع زوجٍ له حق-، فيأتي الخضوعُ بالقول: في هاتفٍ يُهاتَفُ به مَنْ لا يَحلُّ أنْ يكونَ الكلامُ معه على هذا النَّحْوِ ولو كان استفتاءً في دينِ ربِّ العالمين، فيا لله كم سُفِحت أعراضٌ وكم انتُهكت، وكم كُشِفَت سوءاتٌ وكم عُرِيَّت؛ مِن أجلِ هذا الخضوع بالقولِ عند غيرِ المحارمِ بمخالفةِ ما أمرَ اللهُ ربُّ العالمين ألَّا يُخالفَ من امرأةٍ لا ينبغي أنْ تخضعَ بالقولِ عند غيرِ الزوجِ.
واللهُ ربُّ العالمين جعلَ هذا الدينَ دين الطُّهْرِ؛ دين الطهارة؛ دين العفافِ والعِفَّة، ينفي الفواحش، ينفي الخَبَث، فمَن تمسكَ به ظاهرًا وباطنًا؛ كان طاهرًا ظاهرًا وباطنًا، فيُطَهِّر القلبَ والروح، ويُطَهِّرُ الجسدَ –يُطَهِّرَ البدن-، يُطَهِّرُ الثيابَ، يُطَهِّرُ المكانَ، والنبيُّ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- جعلَ الطهارةَ في الأمكنةِ علامةً لهذه الأمة فارقة، فأمرَ بتنظيفِ الأفنية، وقال: ((إنَّ اليهود لا يفعلون))، فجعل ذلك لهذه الأمةِ المرحومة –أمةِ مُحمدٍ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
لقد حجزَ الإسلامُ العظيم المرءَ المسلمَ عن التَّورطِ في الفاحشةِ إذا أسلمَ المرءُ المسلمُ زمامَهُ للشرعِ الأغَرِّ، وسَدَّ اللهُ ربُّ العالمين بالنصوصِ التي جاءَ بها النبيُّ –صلى اللهُ عليه وسلم- كتابًا وسُنَّة جميعَ المسالكِ التي تؤدي إلى التَّورطِ في الفُحشِ والفاحشة.
القرآنُ العظيم كما رأيتَ في حقِّ أشرفِ النساءِ طُرًّا يأمرُ بهذا الذي مَرَّ ذِكْرُهُ؛ مِن عدمِ رؤيةِ الأبدان:{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ}؛ والسائلُ هو مَن هو، والمسئولُ هو مَن هو، ومع ذلك يأتي التعليلُ: {ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53].
ثم إذا ما وقع جوابٌ عن سؤال، فكيف نَغْمَةُ الصَّوت؟، وكيف يكونُ الأداءُ فيه؟.
بغيرِ خضوعٍ في القولِ وبغيرِ لينٍ فيه، مع القولِ المعروف مِن غيرِ نُطقٍ بما يَسوء، ولا إغلاظٍ ولا فُحْشٍ فيه، فهذا هو الانضباطُ الأمثل في هذا الأمرِ ضربَهُ اللهُ ربُّ العالمين بأشرفِ النساءِ طُرًّا مِثالًا يُحتذَى لنساءِ الأمة.
والنبيُّ –صلى اللهُ عليه وعلى آله وسلم- يقول –كما في حديثِ عُقبة بن عامرٍ –رضي الله عنه-، وهو حديثٌ متفقٌ على صحته، قال عقبة –رضي الله عنه-: قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: ((إياكم والدخولَ على النساء)).
قال: فقال رجلٌ من الأنصارِ: أفرأيتَ الحَموَ؟.
قال: ((الحمو الموت)).
والحمو: أقاربُ الزَّوْج ممن ليس بمحرمٍ للزوجة، فإنَّ أصولَ الزوجِ وإنْ عَلَت؛ هم من المحارمِ، وكذلك فروعُهُ وإنْ سَفُلُوا؛ هم من المحارمِ، وأما الحواشي؛ فمِن الأجانبِ عن المرأة؛ كالأخِ وابن الأخِ، وكذلك ما يتأتى بعد ذلك من أولئك الذين يدخلون من أقاربِ الزوجِ على المرأة، الحَمْو !!؟، فقال:((الحمو الموت)): أي كما ينبغي عليك أنْ تَفِرَّ مِن أسبابِ الموتِ إذا ما رأيتها نازلةً عليك، فكذلك ينبغي عليك أنْ تَفِرَّ مِن الجمعِ بين نسائك وأقاربك من الرجال ممن لم تَثْبُت لهم المَحْرَمية، وأما أبو الزوجِ وابنُهُ من غيرِ المرأةِ؛ فهؤلاء من المحارمِ، وأما الحواشي؛ فهؤلاء يقول عنهم النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: ((الحمو الموت)).
((إياكم والدخولَ على النساء)).
قال: أفرأيتَ الحمو؟
قال: ((الحمو الموت)).
فجعل النبيُّ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- هذا السِتْرَ مَضروبًا لعفافٍ وعِفَّة وطُهرٍ وطهارة، فأما إذا ما رُفِعَ؛ فحينئذٍ يتأتى الفُحْشُ والفاحشة، ولا ينبغي لأحدٍ أنْ يَثِقَ بنفسِهِ في أمثالِ هذه الأمور كائنًا ما كان أَمْرُه، فإنَّ أسبابَ الغوايةِ لا تنضبط، وإنَّ المخذولَ لمَن خَذَلَهُ اللهُ ربُّ العالمين، والمرءُ إذا تلوثت صفحتُهُ بالوقوعِ في الزِّنا والتورطِ في الفاحشة؛ فقد تَلَوَّثَ، وإنَّ الإيمان ليرتفعَ عنه كما قال النبيُّ –صلى الله عليه وعلى آلهِ وسلم- حتى يَرجعَ –حتى يُقْلِعَ-، فإذا أقلعَ عاد، وأما في حالِ مواقعتهِ لفُحْشهِ وفاحشته، فالإيمانُ فوقَ رأسِهِ كالظُّلَّة.
والنبيُّ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يمنعُ مِن هذا الاختلاطِ على هذا النَّحو، وكثيرٌ من الخَلْقِ يتساهلون، فلا يلومنَّ امرؤٌ إلا نَفْسَه، والنبيُّ –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يأتي بهذا التعبير، الذي لا أبلغَ منه في مِضمارِهِ وفي مجالهِ، يقول : ((الحمو الموت))، الموتُ الأحمر!، فحذارِ ثم حذارِ، هو أخوك وشقيقُك وقد بَلَغَ، وقد احتلمَ، وهو مع المرأةِ –مع امرأتِك- في بيتك، فَتَدَعُهُ معها وتمضي، وتَدَعُ الشيطانَ ثالثَهما كما أخبرَ رسولُ الله –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، ولا تدري، فأسبابُ الغوايةِ لا تنضبط.
يتبع إن شاء الله.