رسول الله في محنة!
20-02-2018, 01:38 PM
رسول الله في محنة!
د.حمزة الفتحي
الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:
• كلنا نكره الابتلاء ونكره مرارته، وقليلٌ من يصبر عليه ويتحمل ضره ويحتسب ثوابه سوى أنبياء الله وبعض الصالحين.
• اختار الله محمدا نبيا، فلا عجب أن يُمتحن ويُبتلى، ويعلم أمته كيفية التعامل مع البلايا والمحن:" إنما بعثتك لأبتليك وأبتليَ بك". رواه مسلم رحمه الله.
• ولد يتيما عليه الصلاة والسلام، ولم يلق أباه أمامه، فاحتمل ذاك، وكفله جده ثم عمه، وعوضاه شيئا منه، ولكنه صبر واحتسب وقاوم مرارات الحياة.
• وابتُلي بالفقر والعيش مع عمه وشاركه العمل، وأعف نفسه برعي الغنم: " كنتُ أرعاها على قراريطَ لأهل مكة".
• وابتلي بميولات المجتمع وملاهي أهل مكة زمن الشباب، فحُبب إليه الخلاء، وسلِمت فطرته، وصانه ربه تعالى من ذاك كله.
• وابتلي بالدعوة ونذارة المشركين، وابتدأ لوحده، فأعانه الله ويسر أمره وبارك مسيرته.
• وابتلي بالسخرية والاستهزاء أمام الناس على جبل الصفا:" تبا لك، ألهذا جمعتنا!؟"، فاحتمل كلام عمه، وتحلى بالأناة والصمت الجميل.
وتخيل أن يكذبك قريب لك في فضاء من الناس!!؟.
• ولم يزل في معترك البلاءات حتى قيّض الله له أعوانا على الطريق وحواريين يصبرون وينشرون دعوته.
• أوذي واعتدي عليه، وخنق في رقبته، فقابل كل ذلك بصبر متين، وتحمل شديد.( فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل ). سورة الأحقاف .
• ومر على صحابته، وهم في ساحات المعاناة، فقال:" صبرا آلَ ياسر، فإن موعدَكم الجنة".
• واشتكوا له شدة المشركين وأذاهم المستديم، فقال لخباب رضي الله عنه: " واللهِ ليُتمنّ الله هذا الأمر...."، ليريهم أن النصر لا يجتنى بسهولة، والصبر ضروري لمواصلة الطريق، والثبات عمدة المسيرة والتأثير:(وليُنصرن الله من ينصره ) سورة الحج .
• وذهب إلى (الطائف)، فاستلموه سخريةً وأذى وبلاء وشقاء، حتى أدموا قدميه، وجاءه (ملَك الجبال) يستأذنه لإبادتهم، فيرفض ويقول:" بل أرجو الله أن يُخرجَ من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا".
• ويتوعده أبو جهل بالمنع من الصلاة ودهسه بقدمه، لئن أعلن صلاته وضراعته إلى الله، فيقول الله له:( كلا لا تطعه واسجد واقترب).سورة العلق.
ويرد الله كيد الطاغية في نحره، ولا يرى إلا الملائكة ومحارق الموت:( فليدعُ ناديه سندع الزبانية)، أي: ملائكة العذاب.
• وحينما أِسري به في الإسراء والمعراج: سخروا وتهكموا، فأراهم البراهين على صدقه، وحاججهم حتى رد كيدهم وكشف عوارهم.
• وطاردوه يوم الهجرة، ووضعوا الجوائز للقبض عليه، فحماه الله في الغار، وأنزل عليه سكينته، وصانه من شر الفرسان:( إلا تنصروه فقد نصره اللهُ إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار) سورة التوبة.
• ولم يزل مطاردا جائعا حتى بلغه الله المدينة، ونجا من القوم الظالمين.
• وهنالك في المدينة ابتلي بتأسيس كيان إسلامي جديد، فبنى المسجد، وشرع المؤاخاة ليخفف من لأواء الحياة الجديدة لمهاجرين بلا مسكن ولا مال ولا استقرار، فتجاوز العقبات بفضل الله.
• وحصلت المواجهة في بدر، وبعدد قليل، أمام جيش أكثر عددا وعُدة، فثبت وأصحابه حتى بلغهم الله النصر وقطع دابر المعتدين:( قد كَانَ لكم آية في فئتينِ التقتا ). سورة آل عمران.
• وكان ثمة المنافقون الذين يدسون له الدسائس، ويتآمرون على الدعوة فعاملهم بالظاهر، ووكل سرائرهم إلى الله تعالى، وصبر على مكرهم وسخريتهم.
• وفي (غزوة أحد): أصيب في عاتقه، وشُج وجهه، وكُسرت رَباعيته، ولم يزل ثابتا راضيا بما كتب الله، وخرج بعد ثلاث إلى (حمراء الأسد) لتأديب المشركين المتوعدين بالاستئصال.
• وفيها قُتل عمه حمزة وخيرة صحابته رضي الله عنهم، وتألم ولكنه تجلّد، وعلم أمته الرضا بالقضاء والقدر، وأن النصر صبر ساعة، والعاقبة للمتقين.
• ولم يسلم من كيد اليهود ونقض العهود المعروف عنهم، فأجلى وغزا وطهّر المدينة من شرهم وبلائهم.
• وفي (صلح الحديبية): مُنع البيت هو وأصحابه، وصدوهم أن يطوفوا ويستمتعوا، وكان وعدهم بالعمرة، ورأى في ذلك رؤيا وشق عليهم، فصبر واحتمل، فأنزل الله:( إنَّا فتحنا لك فتحا مبينا ). سورة الفتح.
• وفي خَيْبَر تأخر فتحها، وحصلت خسائر في الجولات الأُول، إلى أن منّ الله بالفتح على يد علي رضي الله عنه، وأطعمته اليهودية سما لتقتله، فعصمه الله، حتى بلغ رسالته.
• ثم صوّب نحو مكة بعد نقض قريش للعهد، ودخلها منصورا سنة 8 للهجرة، واتجه بعد ذاك للطائف التي آذته في المرحلة المكية، وردوه ردا قبيحا، وحاصرهم حتى استسلموا، وغنم الغنائم الجمّة، بعد جولة من الابتلاء والاغترار المبدئي:( ويومَ حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغنِ عنكم شيئا ). سورة التوبة.
• وكان رأس المنافقين في المدينة: مصدرا للأذى والإزعاج، وتسبب في النيل من عرضه في (حادثة الإفك الشهيرة)، فاحتمل المرارة، وقاسى الشدة حتى أنزل الله الفرج، وحصحص الحق، وانكشفت القضية:( لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم ) سورة النور.
• وسمع بتجميع الروم له في (تبوك)، فتجهز واستعد غاية الاستعداد، وحدد وجهته، وهنالك قطع صحاري وقفارا، ومكث مدة ولم يحصل قتال، ونجم النفاق وتآمروا عليه، ورد الله كيدهم في نحورهم.
• وحضرت ساعة وفاته، ومكث أياما يشكو الحمى، وتعاظمت السكرات، واشتعلت الآلام، فكان يقول:" اللهم خفّف علي سكرات الموت، إن للموت لسكرات"، ولم تحل تلك المتاعب عن الخروج للصلاة أحيانا، وتذكيرهم في اللحظات العصيبة:" الصلاةَ الصلاةَ، وما ملكت أيمانكم".
• وفي كل ذلك: درس وعبرة لكل مبتلى وصحيح، وعامل للدعوة وعاطل، وجاد ومقصر، وشجاع ومتردد، ومقبل ومدبر.
• وأن أفاضل الناس يُبتلون، ثم تكون لهم العاقبة:( حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم كُذبوا جاءهم نصرنا فنُجي من نشاء ولا يُرد بأسُنا عن القوم المجرمين ). سورة يوسف.
• وأن في البلاء: صقلا وتربية وتمحيصا وكشفا للنفوس والأتباع.( ولنبلونّكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم ). سورة محمد.
• وهو امتحانُ ثباتٍ ورسوخ، من تجاوزه عز وتضاعف ثوابه، ومن تورط عليه المحاسبة والتوبة، واستدراك الأمور قبل الاستفحال، والله ولي التوفيق.
• وفي تكاثر محنه عليه الصلاة والسلام: عظة على عدم سلامة الطريق، وأن المصلحين عرضة للتنكيد والتتغيص، والحل بالصبر والمواجهة ومجاهدة النفس والخصم:( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ). سورة العنكبوت.
• وفيها أن الدعوة لا تحلو بلا صبر، وأن الابتلاء طريق للتمكين والنصر، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله:" لا يُمكّن حتى يُبتلى".
والله يتولانا بفضله ورحمته، ويجعلنا من عباده الصابرين.