السلسلة الذهبية في الآداب النبوية الحلقة:(6): آداب الجوار:(ب)
27-01-2014, 08:25 AM
السلسلة الذهبية في الآداب النبوية
الحلقة:(6): آداب الجوار:(ب)
حقوق الجار في الإسلام:
إن حقوق الجار متعددة وكثيرة، ومما ذكره العلماء في حقوق الجار: إذا استعانك فأعنه، وإذا استقرضك فأقرضه، وإذا افتقر عد إليه، وإذا مرض فعده، وإذا أصابه خير فهنئه، وإذا أصابته مصيبة فعزه، وإذا مات فاتبع جنازته، ولا تستطل عليه بالبنيان فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها، وإن اشتريت فاكهة فأهد له، فإن لم تفعل فأدخلها سراً؛ لأن ذلك من الإيذاء النفسي، فهذا يرى جاره يدخل الكراتين، وهو ليس عنده شيء، لا كيلو ولا حبة من الفواكه، فإذا لم ترد أن تعطيه منها فأدخلها سراً، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده، فهذا ولده يخرج وفي يده الحبة الكبيرة من الفواكه وولد ذاك مسكين ليس عنده شيء، فلا تجعل ولدك يغيظ ولد جارك، بأن يخرج إليه بشيء لا يملك مثله، فيتألم الغلام الآخر.
وكذلك من الحقوق: إيصال الخير إليه بكل الطرق، مثل كف الضرر عنه بكل طريقة، ثم البدء بالسلام؛ لأنك لا بد أن تلقاه على باب البيت كثيراً، هو يدخل ويخرج، وأنت تدخل وتخرج، فابدأه بالسلام، ولا تطل معه الكلام بحيث تضايقه، ولا تجمع له الزلات ثم تحاسبه عليها كما تحاسب موظفاً أو سائقاً أو خادماً عندك، وأظهر السرور بما أسره، واصفح عن زلاته، ولا تطلع على عوراته، ولا تضايقه بوضع الجذع على جداره، ولا تطرح القمامة أمام بابه، ولا تضيق عليه الطريق، ولا تقف بسيارتك أمام باب (الكراج) -كما في هذه الأيام- أو تأخذ مكان سيارته المظلل الذي أمام بيته؛ لأنه -الآن- هناك مواقف قد تكون مخصصة، كل عمارة مثلاً تخصص لكل شقة موقفاً للسيارة، أو يأخذ المكان الذي أمام البيت بالضبط، أو يسد عليه مكان الخروج، واستر ما انكشف من عوراته.

حفظ دار الجار في غيبته:
ولا تغفل عن ملاحظة داره عند غيبته، فقد يسافر ويرجع ويجد البيت كله مسروقاً، قال: والله رأينا سيارة شركة جاءت وحملت، فقلنا: يمكن أنك نقلت! والمشكلة الآن أنهم لا يدرون عن أحوال بعضهم، فهذا ينقل من المنطقة ولا تدري عنه أنه سينتقل من البيت، ثم بعد ذلك يقول: فكرنا أنك نقلت من البيت، وما هو إلا لص محترف، أتى بسيارة شركة وقال: عندي بيت، ومن الشركة التي تتأكد أن هذا بيت ملك فلان؟ بمجرد أنه عرف أن هذا البيت قد غاب صاحبه، فتح الباب وأتى بشركة، وقال: انقلوا الأثاث، وهو من بعيد لو وقع شيء لهرب، وإذا لم يقع شيء أخذ الأثاث، وهذا جاره يقول: أنا لا أدري، ظننتك نقلت، الجار نقل، خبر كبير كيف لا يدرى عنه؟! فلذلك إذا سافر الجار؛ من حق الجار عليه أن يلاحظ داره في غيبته، ولو رأى شيئاً أمام بيت الجار كأناس غرباء واقفين، فإنه يسألهم: ماذا عندكم؟ ماذا تريدون؟ لا بد أن تعتبر بيته مثل بيتك.
ولا تسمع كلاماً فيه بدون دليل، ولا تسمح لأحد أن يوغر صدرك عليه.

غض البصر عن نساء الجار:
وغض بصرك عن نسائه؛ لأن الجار لا يخلو أن تخرج نساء بيته أو بناته من الدار، إذا خرجن فربما تكون المرأة لم تعدل ملابسها بعد، فبعض النساء تخرج وتعدل على الطريق، من قلة الدين تجد بعض النساء وهي خارجة تكمل لبس العباءة، وهي قد صارت في الشارع، ومن المفترض أنها قبل أن تخرج من بيتها يكون الحجاب قد اكتمل كله، لكن مع الأسف بعض النساء لا تكمل لبس حجابها إلا وهي في الشارع، فما على الجار إلا أن ينصح وأن يغض بصره.
كذلك تقف السيارة -مثلاً- أمام باب الجار فتنزل منها نساؤه، والمرأة إذا نزلت لا تخلو أن تنكشف ساقها مثلاً، فغض البصر عن نساء الجيران وهن يدخلن ويخرجن، وهن ينزلن من المركبة وهن يصعدن إليها.
كذلك بعض الخادمات تخرج لرمي القمامة مشمرة فلابد من نصح الجار أن الخادمة التي عنده لابد أن تحتشم، وخروجها لإلقاء القمامة في البرميل لابد أن يكون بحشمة وحجاب، وإذا لم تحتشم فإنه يمنعها من الخروج، ويجعل السائق أو هو بنفسه يخرج القمامة، فإذا خرجت الخادمة غض بصره لحق الجار؛ لأن هذه خادمة الجار، وبعض الناس يقول لك: خادمة الجار ليس لها قيمة، لو أننا عبثنا معها هي سيرلانكيه.
حتى وإذا كانت سيرلانكية، هل يعني هذا سقطت الحرمة؟! فمن حقوق الجار أن تحترم حتى حرمة خادمته وتقوم بالنصيحة.
وأن تتلطف مع أولاده؛ لأن من المشكلات الكبيرة أن بعض الناس يعتبر أن له الأحقية في معاقبة أولاد الجيران، فتجده يأخذ راحته في ضرب ولد الجار، كأن يكون الولد يلعب بالكرة، وهو ولد من طبيعته اللعب، فالأشياء العادية تحتمل، وإذا كان قد زودها فلا بأس أن تحتمل أنت، وإذا أصبح الأمر لا يطاق كلم أباه، لكن أن تعطي لنفسك الأحقية بضرب ولد الجار فوراً بدون إعلام ولا إخبار أبيه فهذا غير صحيح، والإنسان المطلوب منه أن يتحمل.
والآن حق الجار أن يتحمل أذاه، وليس أن يرصد له تحركاته.
جاء واحد من الإخوان، قال: يا أخي -والله- أنا لا استريح لهذا الجار، لا أجدهم إلا يحركون الستارة، وإذا نظرت لهم يغلقون الستارة طول الوقت، يكشفون الستارة وينظرون إلى مدخل البيت وإلى شبابيكه، فهذا في الحقيقة قلة دين وقلة مروءة، وضعف في الأخلاق.

نصيحة الجار وتعليمه أمور الدين:
ثم إن من حقوق الجار أن تعلمه أمور دينه، وأن ينصح في الأشياء التي فيها واجبات، مثلاً ينصح بصلاة الجماعة، ويزار ويكلم ويناصح ويوعظ، وكذلك إذا جعل منكراً في بيته ينصح بإزالته، وهذه المسألة من المسائل التي تكلم فيها العلماء، وهي قضية إنكار منكر الجار، نقل عن مهنا الأنباري رحمه الله عن أحمد أنه سمع صوت طبل عند جيرانه، فأرسل إليهم ونهاهم.
فيرسل إليه الولد ويقول: لو سمحتم! لا تشغلوا هذا المنكر في البيت، فإن أذاه قد وصل إلينا، فاتقوا الله.
وأما بالنسبة للمنكرات التي في قعر بيت الجار، فهذه لها تعامل خاص، جاء عن الإمام أحمد رحمه الله في رواية محمد بن أبي حرب في الرجل يسمع المنكر في دار بعض جيرانه، قال: يأمره، فإن لم يقبل جمع عليه الجيران ويهول عليه، يقول: يا فلان! بيت فيه كذا، ويخرج منه كذا، ويدخل إليه كذا، نحن الآن في شارع وحي واحد، وهناك نساء أجنبيات من أشكال وألوان مختلفة داخلات خارجات، إما أنك ترى لك حلاً وإلا نرفع بك إلى المحكمة، فإذا صار بيت الجار موضع اشتباه يوعظ ويخوف بالله، وإذا ما اتعظ يجمع عليه الجيران ثلاثة أو أربعة أو خمسة ويذهبون معاًَ؛ لأنه قد لا يخاف من الواحد لكن يخاف من المجموعة، فإن لم؛ هدده، فيقول: سأشتكي وأرفع الأمر إلى القاضي، لأن مصلحة الجار في الحقيقة أن يكف عن المنكر، إذا أردت أن ترحمه؛ فعليك أن تسعى لمنعه من المنكر الذي يعذب بسببه في الآخرة، وتدرأ عنه عذاب الآخرة بنصيحته.
وأما بالنسبة لقضية التجسس، لو قال واحد: جاري أخاف أن يكون عنده بلاء، أريد أن أتجسس، نقول: المسلم الذي ظاهره العدالة لا يجوز التجسس عليه، لا يوجد هناك قرائن على الفساد، ولا رأيت مناظر وأشياء مريبة، فلا يجوز أن تقول: يمكن أن هناك شيئاً وأنا لا أدري، ما الذي أدخلك في الموضوع؟ لا يجوز لك أن تتجسس مطلقاً في هذا الجانب، لقول ابن مسعود رضي الله عنه: [إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به].

احتمال أذى الجار:
وكذلك من حقوق الجار: ليس كف الأذى، وإنما احتمال الأذى، فأنت تكف أذاك وتحتمل أذاه، وأن تبتدئ معه بالخير، وأن تحذر من إتباع النظر إليه فيما يحمله إلى داره، وتحذر من الاستماع إلى كلامه.
والآن بسبب تقارب هذه البيوت بعض الجيران عندهم أخبار الجيران كلها بالتفصيل، الخصومات التي بينه وبين زوجته بالتفصيل، والخصومات التي بين زوجة الجار والخادمة بالتفصيل، وكل الأشياء، مثلاً: افرض أن هناك غرفة يصل إليك منها الصوت، وصار عندهم كلام خاص حتى لو كان مشكلة بين الرجل وزوجته فإن عليك أن تخرج إلى غرفة أخرى لكيلا تستمع الكلام، ولو سمعت شيئاً لا تنقله في المجالس، فتقول: عندنا جارنا فلان يقول لزوجته كذا، وهي ترد عليه كذا، وتنقل الحوارات الخاصة؛ لأن هذه من أسرار البيوت في الحقيقة، فينبغي حفظ سره، وقضاء حاجات أهل الجار إذا غاب.

عدم إزعاج الجار بالأصوات العالية:
وكذلك الحذر من إزعاجه بالأصوات، فإن بعض الناس يشغل أقصى ما يمكن من صوت المسجل ونحوه ويؤذي جاره، وهذا مشاهد وكثير، وبعض أنواع البيوت قد تكون أسقفها مشتركة فالصوت يصل بسرعة للاشتراك في السقف أو البناء، فيكون ما يشغله من أصوات في بيته واصل إلى الجار، سواءً كان طاعة أو كان معصية، أو كان شيئاً مباحاً، فلا يجوز الإزعاج به مطلقاً، قد يكون في وقت القيلولة، وقد يكون في وقت الليل، وقت نومه وراحته.
وكم من جيران يرمون قماماتهم أمام أبواب جيرانهم، وكم من جيران يستعيرون بعض المتاع من جيرانهم ثم لا يردونه، وكم من جيران لا أمانة لهم على أموال جيرانهم، وكم من رجل فاضل هجر داره من أجل جاره المؤذي، وربما وسط الإنسان وسائط لكي يكف الجار أذاه.

دعوة الجار إلى الخير
وكذلك فإن من حقوق الجار أيضاً: أن الإنسان يدعوه إلى الخير، افرض جارك شيخاً أو عالماً أو إمام مسجد، تذكره بالخير في دعوته ليحضر معك في هذا، فتوصل إليه نفعاً، مثلاً: أهل الحي لهم مجلس يأتون فيه بأمور من الخير، فإذاً ينبغي عليك أن تدعو جارك ليستفيد من الخير، ولو غاب وقد تناقلوا فيما بينهم كتاباً مفيداً أو شريطاً إسلامياً نافعاً فخذ نسخة لجارك، تقول: فلان غائب نصيبه وحصته عندي، من الوفاء له أن تتذكره في غيبته لتأخذ له ما يستفيد منه.
والإنسان أحياناً إذا آذاه جاره لا يستطيع أن يرد الأذى بالأذى، لكن قضية تأليب الناس الآخرين عليه كعامل ضغط -الذي سبقت الإشارة- بأن يجمع الجيران مثلاً، هذا العامل من الضغط قد نبه إليه النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً قد آذاه جاره، والحديث عند أبي داود وهو حديث صحيح، أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو جاره، قال: (اطرح متاعك على الطريق) يقول للمُؤْذَى الذي أُوذي: أنزل عفشك على الرصيف، فهذا الرجل امتثل لأمر النبي عليه الصلاة والسلام وأنزل متاعه على الرصيف، فجعل الناس يمرون به لما طرح متاعه على الطريق، ويسألونه: لماذا وضعت متاعك على الطريق؟ يقول: جاري هذا مؤذ، ولم أستطع تحمله، فجعل الناس يلعنون هذا الجار، يقولون: فعل الله به وفعل الله به، فجاء إليه جاره فقال: ارجع لا ترى مني شيئاً تكرهه.
فبعض الناس لا يخافون من الله، ولكن يخافون من الرأي العام، ومن عموم الناس، ومن ضغط المجتمع إذا اجتمع عليهم الناس، وهذا الذي نبه إليه صلى الله عليه وسلم هذا الرجل ليتخلص من أذية جاره.
وكذلك فإن الجيران يختلفون في الأحوال من جهة الصلاح وعدمه، قال ابن حجر رحمه الله: ويفترق الحال في ذلك بالنسبة للجار الصالح وغير الصالح، والذي يشمل الجميع إرادة الخير له، وموعظته بالحسنى، والدعاء له بالهداية، وترك الإضرار له، إلا في الموضع الذي يجب فيه الإضرار له بالقول والفعل، والذي يخص الصالح هو جميع ما تقدم، وغير الصالح كفه عن الذي يرتكبه بالحسنى، على حسب مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعظ الكافر بعرض الإسلام عليه، ويبين محاسنه والترغيب فيه برفق، ويعظ الجار الفاسق بما يناسبه بالرفق أيضاً، ويستر عليه زلله غيره، وينهاه برفق، فإن أفاد فيه وإلا فيهجره قاصداً تأديبه.

أناس عرفوا قيمة الجوار:
ويروى أن جاراً لـ ابن المقفع أراد بيع داره في دين ركبه، وكان ابن المقفع يجلس في ظل داره، فقال: ما قمت إذاً بحرمة ظل داره إن باعها معدما، فدفع إليه ثمن الدار وقال: لا تبعها.
وكذلك يروى أن رجلاً أراد أن يبيع داره، فلما أراد المشتري أن يشتري، قال: لا أسلمك الدار حتى تشتري مني الجوار، قال: جوار من؟ قال: جوار سعيد بن العاص.
جاره أراد أن يبيع بيته، فمن غلاوة الجوار، قال: أنا أبيع بيتي وأبيع الجوار، من الذي يشتري جوار سعيد بن العاص؟ وتزايدوا في الثمن، فقال له شخص: هل رأيت أحداً يشتري جواراً أو يبيعه؟ قال: ألا تشترون جوار من إن أسأت إليه أحسن إليّ، وإن جهلت عليه حلم عليّ، وإن أعسرت وهب لي حاجتي، فبلغ ذلك سعيد بن العاص، فبعث إليه بمائة ألف درهم.
فكان الجار يباع قبل الدار، قالت امرأة فرعون: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً} [التحريم:11] عندك أولاً ثم بيتاً.
أين هؤلاء من أكثر جيران زماننا، الذي لا تكاد تهدأ أذيتهم وشتائمهم وسبهم وهجرانهم ومشاجراتهم وتقاطعهم وكيد بعضهم لبعض رجالاً ونساءً وأولاداً؟! قال بعض من بلي بجار السوء:
ألا من يشتري جاراً نئوماً ÷ بجار لا ينام ولا ينيم
ويلبس بالنهار ثياب نسك ÷ وشطر الليل شيطان رجيم

يقول: أريد جاراً ينام، فأنا جاري لا ينام بل يسعى في الشر.
قال علي بن أبي طالب للعباس: ما بقي من كرم إخوانك؟ قال: الإفضال على الإخوان، وترك أذى الجيران.
وقال بعضهم:
سقياً ورعياً لجيران نزلت بهم÷ كأن دار اغترابي عندهم وطني
إذا تأملت من أخلاقهم خلقاً ÷ علمت أنهم من حلية الزمن

فالجيران خصوصاً في بلد الغربة، كهؤلاء الجيران الذين جاءوا من بلدان أخرى للعمل في هذه البلاد، أناس جاءوا من مصر والشام واليمن وأفريقيا وباكستان والهند ومن غيرها، فما الذي يهون عليهم المعيشة في بلد الغربة؟ إن أهم شيء -في الحقيقة- يهون عليهم لهو الجار، إذا كان جاره طيباً ظن كأنه في وطنه، كما قال هذا الرجل:
سقياً ورعياً لجيران نزلت بهم÷ كأن دار اغترابي عندهم وطني
كأني أصبحت في وطني، بل يمكن أحسن، وهذا بسبب هؤلاء الجيران، مما رأى من الخير أصبح مثل وطنه أو أحسن.

من أحكام الجوار:
تعلق التزكية بالجار:
وكذلك فإن مما يتعلق بالجوار من الأحكام، أن التزكية عند العلماء غير الشهادة، فالتزكية لها شروط، إذا أردت أن تزكي شخصاً، وانتبه لهؤلاء الذين يذهبون للمحكمة، يقول: احضر لنا شهوداً فيحضر مزكين، فما أسهل التساهل بقضية المزكين! يقول أهل العلم في التزكية: لابد للتزكية من أمرين زيادة على ما يشترط في الشاهد -أي: من العقل والضبط والعدالة إلخ- أحدهما: معرفة أسباب الجرح والتعديل؛ لأنه يشهد بهما، والأمر الثاني: خبرة باطن من يعدله أو يجرحه بصحبة أو جوار أو معاملة.
القاضي الذكي الفاهم إذا جاءته قضية تزكية -والتزكية مهمة- قال: أحضر لي أناساً من جيرانك يزكونك.
ولكن انظر الآن في المحكمة، يأتي بعض الناس في طرقات المحكمة، يقول: ماذا تريد؟ يقول: أريد مزكياً، يقول: وأنا أريد شاهداً، تعال أزكيك وأنت اشهد لي، سبحان الله! لا يعرفه، كيف يزكيه؟! لا يجوز، لابد أن يكون قد عايشه ورافقه وجاوره وسافر معه، وأمضى معه وقتاً طويلاً، وشاركه في مال أو في شيء، كيف يزكي شخصاً لا يعرف حقيقته؟! لا يجوز ذلك مطلقاً.

الزوجة في السكن بين جيران صالحين:
وكذلك مما ذكر أيضاً في موضوع إسكان الزوجة، قالوا: إن من شروط شرعية المسكن الزوجي أن يقع بين جيران صالحين تأمن فيه الزوجة على نفسها.
أي: لو أن الزوج أسكن زوجته وسط أناس سيئين؛ فإن لها الحق أن تذهب إلى القاضي وتقول: ما سكني السكنى الشرعية، فالسكنى الشرعية يجب أن تكون بين أناس صالحين، هذا سكني وسط أناس سيئين، أنا لا آمن على نفسي، هذا زوجي إذا ذهب إلى العمل يضربون عليَّ الباب والهاتف، وهذا يناديني من الشباك، طبعاً إذا كانوا أهل فسق وهكذا.

عظم إثم الزنا بزوجة الجار:
ولذلك كان الزنا بزوجة الجار من أعظم الكبائر عند الله، ويتفاوت إثم الزنا ويعظم جرمه بحسب موارده، فالزنا بذات المحرم أو بذات الزوج أعظم من الزنا بأجنبية أو بمن لا زوجة لها؛ لأن فيه انتهاكاً لحرمة الزوج وإفساداً لفراشه، وتعليق نسب عليه لم يكن منه يدخل عليه ولد وليس من أولاده، سيضاف إلى نسبه، وهذا أعظم إثماً وجرماً من الزنا بغير ذات البعل والأجنبية، فإن كان زوجها جاراً انظم له سوء الجوار، وإيذاء الجار بأعلى أنواع الأذى، وذلك من أعظم البوائق، لو كان الجار أخاً أو قريباً من الأقارب، وانظم إليه قطيعة الرحم فيتضاعف الإثم، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه) ولا بائقة أعظم من الزنا بامرأة الجار، فإن كان الجار غائباً في طاعة الله والعبادة وطلب العلم والحج والجهاد؛ تضاعف الإثم، حتى إن الزاني بامرأة الغازي في سبيل الله، يوقف له يوم القيامة فيأخذ من عمله ما شاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حرمة نساء المجاهدين على القاعدين كحرمة أمهاتهم، وما من رجل من القاعدين يخلف رجلاً من المجاهدين في أهله فيخونه فيهم، إلا وقف له يوم القيامة فيأخذ من عمله ما شاء، فما ظنكم؟) أي: ما ظنكم أن يترك له من حسناته؟ يمكن يأخذها كلها، لأنه يقال: خذ ما تريد من حسناته، والناس محتاجون إلى حسنة واحدة.

أحقية الجار المحتاج بالصدقة وحقوق أخرى:
ثم إن الجار المحتاج أولى بالصدقة، نص على ذلك العلماء، كما قالوا في مسألة الصلاة في المساجد: المسجد المجاور لك أولى لحرمة الجوار، ثم قالوا في مسألة انتشار الحريق إلى بيت الجار: إذا انتقل بتفريط، مثلاً: شخص أوقد شرارة في يوم عاصف، وهو يعلم أن الريح تنقل الشرر، فاحترق بيت الجار، فإنه يضمن ذلك.
ثم من أثر الجيرة في مسألة القرض، أن الإنسان المقرض لا يجوز له أن يقبل هدية من المقترض في فترة القرض، إلا إذا جرت العادة من قبل القرض بهدايا بينهما، وذكروا مثالاً للجيران، أي: يهدونا طعاماً نهديهم طعاماً، أنا اقترضت من جاري فأهديته فيجوز أن يقبل هديتي؛ لأن بيننا علاقات سابقة في الهدايا، لكن إذا ما كانت هناك علاقات سابقة ولا جوار، فلا يجوز أن يقبل أصلاً هدية ولا أن يأخذ المقرض من المقترض هدية في وقت القرض.
هذا ما تيسر ذكره مما يتعلق بالجيران.
ونسأل الله تعالى أن يجعلنا من القائمين بحقوق جيراننا، وأن يهدينا سبل السلام، ويخرجنا من الظلمات إلى النور، وصلى الله على نبينا محمد.