ولأن مسألة:" الارتباط بين الجوهر والمظهر"، أو:" الباطن والظاهر": مسألة هامة جدا في شرائع الإسلام: وجب الكلام فيها ب:" تأصيل علمي": يكشف خبايا وأهميتها وآثارها، وهو ما سنحاول ذكره بشيء من التفصيل من كلام شيخ الإسلام:" ابن تيمية" رحمه الله، فإليكموه:
قال شيخ الإسلام:" ابن تيمية" رحمه الله في:" رسالة في علم الباطن والظاهر":(ص:33) في كلام نفيس جدا عن الارتباط الوثيق بين:" الظاهر والباطن"، حيث كتب:
" والْمَقْصُودُ هُنَا : أَنَّ الظَّاهِرَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ بَاطِنٍ: يُحَقِّقُهُ وَيُصَدِّقُهُ وَيُوَافِقُهُ، فَمَنْ قَامَ بِظَاهِرِ الدِّينِ مِنْ غَيْرِ تَصْدِيقٍ بِالْبَاطِنِ، فَهُوَ:" مُنَافِقٌ"، وَمَنْ ادَّعَى بَاطِنًا: يُخَالِفُ ظَاهِرًا، فَهُوَ:" كَافِرٌ مُنَافِقٌ"، بَلْ:" بَاطِنُ الدِّينِ": يُحَقِّقُ ظَاهِرَهُ وَيُصَدِّقُهُ وَيُوَافِقُهُ، وَ:" ظَاهِرُهُ": يُوَافِقُ بَاطِنَهُ وَيُصَدِّقُهُ وَيُحَقِّقُهُ، فَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ: لَا بُدَّ لَهُ مِنْ رُوحٍ وَبَدَنٍ، وَهُمَا مُتَّفِقَانِ، فَلَا بُدَّ لِدِينِ الْإِنْسَانِ مِنْ:" ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ": يَتَّفِقَانِ، فَالْبَاطِنُ لِلْبَاطِنِ مِنْ الْإِنْسَانِ، وَالظَّاهِرُ لِلظَّاهِرِ مِنْهُ .
وَالْقُرْآنُ مَمْلُوءٌ مِنْ ذِكْرِ أَحْكَامِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ، وَالْبَاطِنُ: أَصْلُ الظَّاهِرِ كَمَا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:" الْقَلْبُ مَلِكٌ، وَالْأَعْضَاءُ جُنُودُهُ، فَإِذَا طَابَ الْمَلِكُ: طَابَتْ جُنُودُهُ وَإِذَا خَبُثَ الْمَلِكُ: خَبُثَتْ جُنُودُهُ"، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ".
وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ:" الْإِسْلَامُ عَلَانِيَةٌ وَالْإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ"، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ }، وَقَالَ تَعَالَى:{ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إيمَانًا مَعَ إيمَانِهِمْ }، وَقَالَ تَعَالَى:{ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ }، وَقَالَ تَعَالَى:{ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ }، وَقَالَ تَعَالَى:{ إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }، وَقَالَ تَعَالَى:{ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ }، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ .
وَقَالَ فِي حَقِّ الْكُفَّارِ:{ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ }، وَقَالَ:{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ }، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ: أَنْ يُصْلِحَ بَوَاطِنَنَا وَظَوَاهِرَنَا، وَيُوَفِّقَنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مِنْ جَمِيعِ أُمُورِنَا بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَتَسْلِيمًا كَثِيرًا".
وفي معرض بيانه أسباب مخالفة المغضوب عليهم :وضح شيخ الإسلام:" ابن تيمية" رحمه الله في كتابه الفذ الرائع الماتع:" اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم":(ص:70 وما بعدها): بأن الانحراف نحو الكفار: قد يكون كفراً، وقد يكون فسقاً، وقد يكون معصية، وقد يكون خطأ، ويؤكد بأن:" الصراط المستقيم" هو:" أمور باطنة" في القلب من اعتقادات وإرادات وغير ذلك ، و:"أمور ظاهرة" من أقوال أو أفعال قد تكون عبادات، وقد تكون أيضاً: عادات في الطعام واللباس والنكاح .. وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينها ارتباط ومناسبة ؛ فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال: يوجب أموراً ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال: يوجب للقلب شعوراً وأحوالاً ، وقد شرع الله لنبينا من الأعمال والأحوال: ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين ، فأمر بمخالفتهم في الهدي الظاهر ؛ وإن لم تظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة لأمور منها:
1 - أن المشاركة في الهدي الظاهر: تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين يقود إلى:" موافقة ما في الأخلاق والأعمال"، وهذا الأمر محسوس؛ فإن اللابس ثياب أهل العلم: يجد من نفسه نوع انضمام إليهم ... إلخ .
2 - أن المخالفة في الهدي الظاهر تؤدي إلى:" مباينة ومفارقة": توجب الانقطاع عن موجبات الغضب، وأسباب الضلال، والانعطاف على أهل الهدى والرضوان، وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين، وأعدائه الخاسرين، وكلما كان القلب أتم حياة وأعرف بالإسلام: كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطناً وظاهراً أتم، وكان بعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين: أشد.
3 - أن مشاركتهم في الهدي الظاهر: توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التميُّز ظاهراً بين المهديين المرضيين، والمغضوب عليهم والضالين ؛ إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية، هذا إذا لم يكن ذلك الهدي إلا مباحاً محضاً لو تجرد من مشابهتهم، فأما إن كان من موجبات كفرهم كان:" شعبة من شعب الكفر"؛ فموافقتهم فيه: موافقة في نوع من أنواع معاصيهم؛ فهذا أصل ينبغي التفطن له".
ويؤكد:" ابن تيمية": بأن الأمر بموافقة قوم أو مخالفتهم:" قد يكون لأن موافقتهم مصلحة، وكذلك قصد مخالفتهم أو مخالفتهم نفسها مصلحة: بمعنى أن ذلك الفعل: يتضمن مصلحة أصولية للعبد أو مفسدة، وإن كان ذلك الفعل الذي حصلت به الموافقة أو المخالفة: لو تجرد عن الموافقة أو المخالفة: لم يكن فيه تلك المصلحة أو المفسدة، ولهذا نحن ننتفع بمتابعتنا نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم والسابقين في أعمال: لولا أنهم فعلوها، لربما قد كان لا يكون لنا مصلحة؛ لما يورث من محبتهم وائتلاف قلوبنا بقلوبهم، ويدعونا إلى موافقتهم في أمور أخرى؛ إلى غير ذلك من الفوائد . كذلك قد نتضرر بمتابعتنا الكافرين في أعمال: لولا أنهم يفعلونها: لم نتضرر بفعلها، وقد يكون الأمر بالموافقة والمخالفة؛ لأن ذلك الفعل الذي يوافق فيه أو يخالف: متضمن للمصلحة أو المفسدة، ولو لم يفعلوه، لكن عبر عن ذلك بالموافقة والمخالفة على سبيل الدلالة والتعريف، فتكون موافقتهم دليلاً على المصلحة، ومن تابع غيره في بعض أموره، فهو منه في ذلك الأمر؛ لأن قول القائل: أنا من هذا ، وهذا مني؛ أي: أنا من نوعه، وهو من نوعي؛ لأن الشخصين لا يتَّحِدان إلا بالنوع" .
ويذهب:" ابن تيمية" إلى القول بأن مشاركة الكفار في الظاهر ذريعة إلى الموالاة إليهم، وليست فيها مصلحة كما في المباينة والمقاطعة ؛ حيث يقول:" والموالاة وإن كانت متعلقة بالقلب، لكن المخالفة في الظاهر: أعون على مقاطعة الكافرين ومباينتهم.
ومشاركتهم في الظاهر إن لم تكن ذريعة أو سبباً قريباً أو بعيداً إلى نوع من الموالاة والموادة، فليس فيها مصلحة المقاطعة والمباينة مع أنها تدعو إلى نوعٍ ما من المواصلة كما توجبه الطبيعة، وتدل عليه العادة، ولهذا السبب كان السلف يستدلون بهذه الآيات ( المائدة 51 ، 55 ، 56 . المجادلة : 14 ، 22 . الأنفال: 72، 75)
على ترك الاستعانة بهم في الولايات".
وإذا كانت مخالفة المغضوب عليهم والضالين: أمرا مقصودا للشرع، فذلك لا ينفي أن يكون الفعل نفسه الذي خولفوا فيه: ينطوي على مصلحة مقصودة مع قطع النظر عن مخالفتهم؛ فإن هنا شيئين:
أحدهما : أن المخالفة ذاتها لهم في الهدي: مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين؛ لما في مخالفتهم من المجانبة والمباينة التي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم .
وإنما يظهر بعض المصلحة في ذلك: لمن تنور قلبه حتى رأى ما اتصف به المغضوب عليهم والضالون من المرض الذي ضرره أشد من ضرر أمراض الأبدان.
والثاني:أن ما هم عليه نفسه من الهدى والخلق: قد يكون مضراً أو منقصاً، فيُنهى عنه ويؤمر بضده لما فيه من المنفعة والكمال، وليس شيء من أمورهم إلا وهو: إما مضر أو ناقص؛ لأن ما بأيديهم من الأعمال المبتدعة والمنسوخة ونحوها: مضرة، وما بأيديهم مما لم ينسخ أصله؛ فهو يقبل الزيادة والنقص؛ فمخالفتهم فيه بأن يشرع ما يحصله على وجه الكمال، ولا يتصور أن يكون شيء من أمورهم كاملاً قط ، فإن المخالفة لهم تنطوي على منفعة وصلاح لنا في كل أمورنا، حتى فيما هم عليه من إتقان بعض أمور دنياهم؛ إذ قد يكون مضراً بأمر الآخرة، أو بما هو أهم منه من أمر الدنيا؛ فالمخالفة فيه صلاح لنا.
وبالجملة: فالكفر بمنزلة مرض القلب، ومتى كان القلب مريضاً: لم يصح شيء من الأعضاء صحة مطلقة؛ وإنما الصلاح: أن لا تشبه مريض القلب في شيء من أموره؛ وفساد الأصل: لا بد أن يؤثر في القلب، وإن جميع أعمال الكافر فيها خلل يمنعها أن تتم بها منفعة ، ولو فرض صلاح شيء من أموره صلاحاً تاماً، لاستحق بذلك ثواب الآخرة، ولكن أموره إما فاسدة وإما ناقصة.
فالحمد لله على
نعمة الإسلام؛ فقد تبين أن مخالفتهم نفسها: أمر مقصود للشارع في الجملة".انتهى كلام شيخ الإسلام:" ابن تيمية" رحمه الله.
وقال الشيخ العلامة:" الألباني" رحمه الله في كتاب:" مختصر كتاب جلباب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة"(ص:50) ما يأتي:
" وهذا ارتباط بين الظاهر والباطن مما قرره- صلى الله عليه وسلم - في قوله الذي رواه النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال:
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح، حتى رأى أننا قد عقلنا عنه، ثم خرج يوماً، فقال:
"عباد الله لتسونَّ صفوفكم، أو ليخالفن الله بين وجوهكم"، وفي رواية:" قلوبكم". رواه مسلم .
فأشار إلى أن الاختلاف في الظاهر ـ ولو في تسوية الصف!!؟ ـ مما يوصل إلى اختلاف القلوب، فدل على أن:" الظاهر له تأثير في الباطن"، ولذلك رأيناه - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن التفرق، حتى في جلوس الجماعة، ويحضرني الآن في ذلك حديثان:
1) عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: خرج علينا رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، فرآنا حِلَقَاً، فقال:مالي أراكم عزين؟".رواه مسلم.
ومعنى:" عزين" أي: متفرقين جماعة جماعة، وفيه: النهي عن التفرق والأمر بالاجتماع.
2)عن أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - قال: كان الناس إذ نزلوا منزلاً: تفرقوا في الشعاب والأودية، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" إن تفرقكم في هذه الشعاب والأودية: إنما ذلكم من الشيطان "، فلم ينزل بعد ذلك منزلاً إلا انضم بعضهم إلى بعض، حتى يقال: لو بُسِطَ عليهم ثوبٌ لعمَّهم". رواه أبو داود وابن حبان والحاكم وقال : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي .