العقون والأطرش
02-02-2017, 12:43 PM
العقون والأطرش

محمد الهادي الحسني


فأما العقون في قاموسنا الدارج، الذي تسعى "الديماغوجية" ابن غبريط لفرضه على تلاميذنا، فهو: الأبكم، أو الذي لا يكاد يبين كأكثر مسؤولينا، وأما الأطرش في لغة الضاد التي لم تبق من جوامع للعرب إلا هي، فهو: الذي فقد السمع بإحدى أذنيه، فإن فقده بكلتيهما فهو أصمّ.
وفي بعض آي الذكر الحكيم، فإن الأصم والأعمى والأبكم هو: من اغترَّ بنفسه، واستنكف أن يكون عبدا لله، أو أمَة له، كتلك التي أنطقها الشيطان بأن الصلاة "تعلِّم العبودية!!؟"، بينما العبودية في اتخاذ الهوى إلاها..
وهؤلاء الذين سمّاهم القرآن الكريم:( العُمي والصم والبكم) هم الذين لهم أجهزة البصر والنطق والسمع، ولكنهم لم يريدوا أن يسمعوا كلمة الحق، ولم يشاءوا أن ينطقوا بها، وعموا عن رؤية آيات الله من الجِمال إلى الجبال إلى الرمال، الدالة على وجوده سبحانه وتعالى، وقد اعتبرهم القرآن الكريم كالأنعام، بل هم أضلّ، حيث يقول عزَّ من قائل:[ لهم قلوبٌ لا يفقهون بها، ولهم أعينٌ لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام، بل هم أضل، أولئك هم الغافلون].
والعقون المقصود في هذه الكلمة هو: الشاعر عبد الكريم العقون "1918-1959)، وما هو بعقون، ولكنها فرنسا التي لم ينجُ من فسادها أي شيء في الجزائر، بما في ذلك ألقاب الجزائريين التي مسختها: انتقاما واحتقارا واستهتارا، وما يزال "ورثتُها" في إدارتنا يصرُّون على هذا المسخ.. فأهون عليهم: أن يمسُّوا القرآن بسوء، والعياذ بالله، ولا يمسُّوا ما تركته فرنسا من مسخ..
لقد فتق الله –عز وجل- لسان عبد الكريم العقون على أفصح لسان، وأجمل بيان، وأبلغ كلام، الذي تضايق منه "العقاقن" الحقيقيون، وإن خُيِّل من سحرهم وتلاعبهم لمراهقينا ومراهقاتنا: أنهم على شيء من: "الفكر والأدب!!؟"، فاتهموه – اللسان العربي- بكل ما فيهم من عيوب ونقائص وقصور ورذائل.. وإن إذا رأيتهم تعجبك أجسامُهم وإن يقولوا تسمع لقولهم، فما هم في حقيقتهم إلا: "خُشبٌ مسندة".. ولا ذنب لهذه اللغة الشريفة إلا أنها تأبى أن تكون لغة:"كباريهات" الذين هم أحلاسها، وتأبى أن تكون لغة الروايات التي تشيع الفاحشة، والتي يخجل كل ذي مِرَّة أن يقرأها لوحده، فضلا عن أن يُدخلها إلى بيته.. ويطلع عليها أبناؤه الطاهرون وبناته الطاهرات.
وقد كان عبد الكريم العقون من جنود الجزائر والإسلام والعربية في المعركة الحضارية التي قادتها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ضد الصليبية الفرنسية في الجزائر، فعلَّم في مدارسها، وخطب في نواديها، وأرشد في مساجدها، وهدى في جرائدها، فتحرَّرت عقول أكثر الجزائريين من:"الفكر الميِّت" و"الفكر القاتل" أي الفكر الموروث، والفكر الوارد، وقد عادت دولتُهما!!؟.
وقد خطت الأقدار في صحيفة عبد الكريم العقون: أن يكون ممن اتخذهم الله –عز وجل- شهداء، حيث قتله -وهو الأعزل من كل سلاح- أشد الناس عداوة للجزائريين، وأكثرهم مكرا بهم، أعني الفرنسيين، الذين "يلهث" بعضنا للعق أحذيتهم..
وأما الأطرش هنا، فهو فريد الأطرش المطرب المعروف، وهو من دروز سوريا، والدروز عرب، ولكن "إسلامهم" مدخول، وهم أقرب للشرك منهم للتوحيد.. وقد ثار زعيمهم سلطان باشا في سنة 1925 ضد الفرنسيين.
كانت فرنسا لخبثها ومكرها الكبار تجتهد لمنع أي اتصال بين الجزائريين وإخوانهم العرب والمسلمين، ولمنع هؤلاء من الاتصال بإخوانهم الجزائريين، حتى ينسى بعضهم بعضا، حتى وصل الأمر بسفيهٍ من سفهاء فرنسا، وهو: الأميرال الصليبي دوقيدون أن يمنع الجزائريين عندما كان حاكما عاما فرنسيا على الجزائر من أداء فريضة الحج، حتى لا يختلطوا بإخوانهم العرب والمسلمين، ويخبروهم عن جرائم فرنسا.
ولهذا كان الجزائريون كلما وقع اتصالٌ بينهم وبين إخوانهم العرب والمسلمين اعتبروا ذلك "عيدا" ابتهجوا به، وحفِلوا به، وبثُّوهم أحاسيسهم ومشاعرهم.
وفي سنة 1951 زار المغربَ العربيَّ المطرب السوري فريد الأطرش، وكان قد غنى أغنيته المشهورة "بساط الريح" واكتفى بذكر تونس والمغرب "مراكش فين، وتونس فين"، ولم يذكر الجزائر، ولا ندري إن كان "القفز" على الجزائر من مؤلِّف الأغنية أم من المطرب نفسه؟.
وقد كان لذلك وقعٌ أليم على نفوس الجزائريين، لأنهم كانوا يريدون أن يؤكدوا عروبتهم ولو بأغنية، وأنهم ليسوا فرنسيين، والموت الزؤام أهونُ عليهم من أن يكونوا فرنسيين، يأبى عليهم ذلك دينُهم الحنيف، وأصلهم الشريف، ومجدُهم تالده والطريف.
وقد نسيت من أخبرني: أن فرنسا اشترطت على فريد الأطرش بأنها لن تأذن له بدخول الجزائر إلا إذا تعهَّد بعدم ذكر اسم الجزائر في أغنيته.
عندما زار المطرب المذكور الجزائر أعدَّ الشاعر عبد الكريم العقون قصيدة بهذه المناسبة تحت عنوان: "مرحبا بالبلبل الغريد"، وقد نشرتها جريدة "البصائر" في عددها (165) الصادر في 30-7-1951 ص 7 وقد قدَّمتها الجريدة بقولها: "قدَّم شاعرُنا الأستاذ عبد الكريم العقون هذه القصيدة الرائعة إلى فنان الشرق، الأستاذ فريد الأطرش، بمناسبة زيارته للجزائر في الربيع الماضي، كتحية جزائرية لحضرته وللشرق كله، فتقبَّلها الأستاذ فريد قبولا حسنا، وعدّها خير وسام تقلده الجزائر إياه.." ومما جاء في هذه القصيدة ذات التسعة والعشرين بيتا:
مرحبا بالبلبل الغريد في ** أيكنا، يشدو بأحلى النغمات

يا "فريدًا" في المغنين الألى ** بعثوا الأطياف تترى حائمات

جئتَ تشدو في ربوع مسها ** ألم الظلم فأمست يائسات

إن في ألحانكم تضميد ما ** جرحت تلك الأيادي الآثمات

مرحبا بالشرق في أشخاصكم ** مرحبا "بالضاد" عنوان الصلات

احملوا منا إلى ذاك الحمى ** شوق "شعب" وتحايا عاطرات

يبدو أن الشاعر عبد الكريم العقون كان يودُّ إلقاء قصيدته على مسامع فريد الأطرش وجمهور الحاضرين، ولكن أمرا ما حال دون ذلك، وقد ذكر الأستاذ محمد الشريف شايب، جامع ديوان عبد الكريم العقون: أن الشيخ محمد الأخضر السائحي حدَّثه: أن الشاعر قدَّم القصيدة للفنان فريد الأطرش في قاعة الحفل ليقرأها على الحضور، فتسلمها منه ووضعها في جيبه مباشرة، وهو يردِّد في طرافة:"العقون ما تحدَّث والأطرش ما سمع".
وقد يسلق بعض الغلاة الشيخ عبد الكريم العقون على قصيدته بألسنةٍ حداد، ويعتبرونه قد جاء شيئا إدّا، كأنهم ما اقترفوا إثما، ونسوا أن رسول الرحمة، عليه الصلاة والسلام، قال ما معناه لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وجاء بمن يذنبون، فيستغفرون، فيغفر الله لهم، فاللهم اغفر للمسلمين والمسلمات ما علموا وما أنت أعلم به منهم.

1) ديوان عبد الكريم العقون جمع وترتيب الأستاذ محمد الشريف شايب. دار الخلدونية ص 46