جذورُ البلاءِ في فِكْر المستشرقين
31-05-2018, 10:23 AM
جذورُ البلاءِ في فِكْر المستشرقين
المستشار: سالم عبد الهادي
الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:
كان لابد أَنْ نشيرَ إلى(جذور البلاءِ في فِكْر المستشرقين)، إبراءً للذِّمَّةِ أمام الله عز وجل من جهةٍ، ونصحًا لمن يقف عليه من المستشرقين من جهةٍ ثانية، وبيانًا للمسلمين من جهةٍ ثالثةٍ.
ولسنا نريد بذلكَ أولئك المستشرقين اللذين وقفوا على الحقيقةِ، فذكروها كما هي، عن علمٍ ودرايةٍ، وإِنْ كانوا أقلَّ وأندر مِن الكبريت الأحمر كما يُقال، ثم أكثر أولئك الصِّنْف مِنْ المغمورين بالنسبة للصنف الثاني الآتي هنا.
لكنَّا نقصد الكثرة الغالبة على المستشرقين، مِمَّن لا حَظَّ لهم في عِلْمٍ ولا دراسةٍ، ثم هم في وادٍ سحيقٍ، بعيدًا عن المنهج العلمي الرصين، والقواعد العلمية التي تتفق عليها عقول العقلاء مِنْ البشر.
لسنا نعني بذلك: أن ينطلق المستشرقون مِنْ إيمانهم بالإسلام؛ لأنهم لو آمنوا بالإسلام ودخلوه لم يكن ثمة مشكلة، ولكنَّا نكتب ذلك لعلَّ الله يهدي أحد المستشرقين للوقوف على كلامِنا، فيتجنَّبَ أوجه القصور، وجذور البلاء في فِكْر سابقيه ودراساتهم، أثناء البحث في إسلامنا العظيم، ليهلك مَنْ هَلَك عن بيِّنَةٍ، ويحيى مَنْ حيّ عن بيِّنةٍ.
كما نكتُبه ليستبين المسلمون جذور البلاء في فِكْر المستشرقين وأبحاثهم عن الإسلام.
وليست العبرة عندنا هنا: سرد الأقوال والمذاهب الاستشراقية في موضوعٍ ما، والاستغراق في ذلك جدًا، وإنما العبرة هنا: برصد مواطن البلاء في أبحاث المستشرقين وأفكارهم من خلال أطروحاتهم، مع لزوم التدليل على هذا من خلال واقعهم وكلامهم هم على سبيل الاختصار من أجل الوصول إلى منبع البلاء الذي أدى إلى انحرافهم فكريًّا وبحثيًّا وسلوكيًّا وغير ذلك أثناء كلامهم عن الإسلام، مكتوبًا ومسموعًا، سواءٌ في عصرنا، أو ما تقدَّمه من عصور الاستشراق.
وعلى أولئك المستشرقين اللذين يكتبون للمسلمين أو عنهم: أن يعطوا للأمر أهميَّتَه اللائقة به، كما على أولئك المخدوعين بالمستشرقين مِنْ المسلمين: أن يتدبَّروا ما بأصحابِهم مِنْ بلاءٍ!!؟.
وسأضع هنا ما يفتح الله به وييسر كتابته عبر توالي الأيام والليالي غير ملتزمٍ بزمنٍ ولا قضيةٍ بعينها، سوى ما ذُكِرَ في ترجمة الموضوع وعنوانه: (جذور البلاء في فِكْر المستشرقين)، والمراد تلك الأسباب التي أَدَّتْ إلى انحرافهم فكريًّا ودراسيًّا أثناء البحث في الإسلام، للكتابة له أو عنه.
وآمل مِنْ العلماء الأماجد، والأساتذة الأفاضل، والقراء الكرام؛ إضافة ما لديهم بخصوص القضية المذكورة هنا تباعًا حسبما يرونه صالحًا، لعل الله عز وجل ينفع به أقوامًا ويضرّ به آخرين.
والله مِنْ وراء القصد، وهو يهدي السبيل، ولنبدأ الآن على بركةِ الله.
حَـضَـــارة الـمـــــادَّةِ
(كلمة عن مناهج البحث لدى المستشرقين)
النظرية الغربية المعاصرة لا تعرف سوى المادة، ولا تقيم وزنًا بروحٍ أو معنويٍّ، فما لديها سوى تصورات المادة، ومتطلبات المادة، وبعبارة أخرى: لا تملك سوى حُكْم المادة وقانونها.
وبناءً على هذا التصوُّر المقلوب نشأ أبناء النظرية الغربية المعاصرة (والمسمَّاة زورًا وبهتانًا بالحضارة!!؟): نشأ هؤلاء على مفاهيم معكوسة، وفي ظلِّ رُؤًى مقلوبة مغلوطة، لا أساس لها من الصحة، غير أنها من المسلمات لديهم!!؟؛ لأنها مما تفرضه المادة أو تؤكده.
ومن هنا: ظهرت لدى الغرب تلك النظريات المشبوهة القائمة على غير أساسٍ علميٍّ متينٍ، يجمع بين الروح والمادة، ويُعالج أركان الإنسان جميعها، فرأينا من يؤمن ببطلان الفكرة إذا لم تُنْتِج نفعًا!!؟، كما رأينا من لا يعرف سوى نتائج الحفريات وفقط في نظرته للتاريخ، حتى لو خالفت الحفريات كافة المتعارف عليه!!؟.
حتى بلغ ببعضهم: أن يُنْكِر وجود الإسلام كدين في شبه جزيرة العرب بناءً على نتائج الحفريات!!؟.
يقول موراني في كلامه في:(شبكة التفسير):
" أما Nevo فلم يفهم فكرة Wansbrough فهما صحيحا، نظريته باطلة من أولها الى آخرها.
الفكرة الرئيسية لديه: أن عدم وجود ذكر محمد في الكتابات القديمة ما قبل عام 71 هـ , كما هو الحال في النقوش في صحراء النقب (Negev ) دليل على وجود فكرة التوحيد فحسب، ولا يثبت وجود الإسلام في ذلك الوقت .....لا أريد أتدخل في هذه التفاصيل الباطلة إذ هناك عدد من المستشرقين قد رفضوا هذا المظنون الخاطئ منهم من يحسن اللغات القيمة السائدة في تلك الفترة في المناطق شمال الحجاز، والتي لم يعرفهاNevo.
لقد أتيحت الفرصة لي أن أتحدث إليه، وأناقش معه شخصيا هذه الآراء الخاطئة، وعدم صلاحية الأخذ بآراء Wansbrough لديه, وذلك قبل ما ألقى محاضرته في جامعة القدس التي انتهت بخروج المشاركين القائلين:
هذا كارثة عظيمة!!؟.
توفي Nevo عام 1992 ونشرت دراسته عام 1994 على 32 صفحة في المجلة الاستشراقية بالقدس .
وهناك دراسات نقدية على ما جاء به على يد بعض المستشرقين في الولايات المتحدة وانجلترا، وهي تبين عدم صلاحية هذه النظرية التي بنيت على نتائج عدة من الحفريات في شمال الحجاز وفي النقب بتجاهل عديدا من الكتابات التي نشرت قبل العقود من نواحي المدينة المنورة ومن المناطق الأخرى القريبة منها.
في النهاية: أود أن أذكر أن Nevo لم يدرس المواد الاستشراقية ولم يتعمق في قراءة كتب القدماء في التأريخ, بل كان صاحب الحفريات.
هناك عدد كبير من المخطوطات وألواح متبقية من مصاحف من القرن الأول الهجري ( مثلا باليمن) وغيرها مكتوبة على البردي، وكلها دلائل قاطعة على عدم صلاحية الفكرة الرئيسية لدى هذين الرجلين.
الـدكتور م . مــورانـي مستشرق . كلية الآداب . جامعة بون . ألمانيا ".
وبناءً على ذلك: كان من الصعب جدًا على أبناء هذه النظريات المقلوبة من المستشرقين وغيرهم؛ كان من الصعب عليهم: فَهْم قضايا الإسلام بناءً على نظرتهم، وما وُلِدوا وتربّوا عليه!!؟.
نعم؛ وسيظل من المستحيل عليهم: فهم الإسلام بناءً على نظرياتهم هم!!؟.
وعليهم إن أرادوا فَهْمه على حقيقتِه: أن يأخذوه من منابعه، ويفهموه كما أراد هو أن يُفْهَم، لا كما أرادوا هم فَهْمَه، وشتَّان بين الأمرين!!؟.
وهذا بعينه ما أخطأ فيه المستشرقون قديمًا، ولا زالوا!!؟.
وليتهم عَدَّلوا أو غَيَّروا من نظرتهم للإسلام، ومن طريقتهم في فهم علومه، لكنهم لا زالوا على ما هم عليه في طريقة الفهم والدراسة للإسلام كله، ولعلوم القرآن خاصة.
يقول موراني في كلامه عن إدوارد سعيد:
" غير أنه قال كلمة حق ولم يرد بها إلا الحق عندما زعم أنّ موقف المستشرقين لم يتغير في جوهره عن موقف أسلافهم, يعني بذلك في الدرجة الأولى موقف المستشرقين من النبي ومن القرآن. إلا أنه أخطأ عندما زعم أن منهجية الأبحاث لم تتغير. انه كان عاجزا من أن يرى أن المنهجية والاقتراب من العلوم الإسلامية قد تغيّر كما تغيرت الأوضاع بظهور المصادر الجديدة التي لم يتناولها الأسلاف بسبب عدم وجودها في بداية القرن 20 م مثلا.
أما الموقف المبدئي من القرآن، فهو لم يتغير".[مستند رقم (5) السابق في المستندات المنشورة في موضوعي:(مع المستشرق موراني حول دعوى تحقيق القرآن...)]، فليُنْظَر:هنا
والمنهجية التي تغيرت في كلام موراني بالطبع ليست هي منهجية البحث أو الدراسة؛ لأنه لو تغيرت منهجية البحث أو الدراسة لديهم: لتغيرت نظرياتهم أو أفكارهم أو نتائجهم أو بعضها على الأقل، لكن شيئًا من هذا لم يحدث بدليل قول موراني نفسه:" إن موقفهم ونظرتهم لم تتغير"، فلزم من ذلك، وبناءً عليه: أن يكون المُتَغَيِّر هنا منهجية أخرى غير منهجية البحث، وهي منهجية تقديم الأفكار والتشويشات للمسلمين.
وبعبارة عامية ومثل عامي، فهم كشرطي المرور الذي قد يغير ملابسه صيفًا وشتاءً، لتناسب ظروف الطقس، لكنه لم يغير وظيفته المرورية، ولا تخلَّى عن وظيفته، كما أن تغيير الملابس لا يعني تغيير الوظائف لأي شخصٍ!!؟.
فهذا هو ما تغير عندهم، أعني: شكل وإطار تقديم رؤيتهم المقلوبة، ونظرياتهم المعكوسة، فبدلاً من المصادمة مع المسلمين مباشرة، لا مانع لديهم من تقديم رؤيتهم وتغليفها في ثوبٍ آخر أكثر قابلية، وهو:" ثوب البحث العلمي المزعوم، أو الدراسة العلمية المزعومة!!؟"، ولذا لا زال الاستشراق عاجزًا حتى الساعة عن فهم كثيرٍ من قضايا الإسلام!!؟.
ولنأخذ مثالاً قريبًا على ذلك في علوم القرآن، وخاصةً في:" الاعتماد على السماع والحفظ لا الكتابة والمصاحف" في نقل القرآن الكريم.
فالحفظ يستدعي الحرص على المحفوظ، ويستلزم دافعًا داخليًّا يؤدِّي إلى حفظِ المحفوظ، ولا ينشأ الحفظ لمجرد إرادة الحفظ، كما لا ينشأ الحفظ لمجرَّدِ أهمية المحفوظ؛ فقد يكون مهمًّا لدى بعض الناس دون بعضٍ، فيحفظه بعضُهم، ويتركه الآخرون.
فما الذي دفع الملايين من المسلمين إلى حفظ القرآن الكريم والعناية بنقله محفوظًا!!؟.
هذا ما لا تعرفه النظرية المادية الغربية بمادِّيَّتِها وحفريَّاتها الملموسة!!؟.
لأنه (يعني: الْحِرْص على الْحِفْظِ) ينبع من إيمان المسلمين، وحُبِّهم للقرآن الكريم، وحِرْصِهم عليه، وعلى نقلِه وتبليغِه، تنفيذًا لأمر الله عز وجل لهم، ورجاءً لِمَا عند الله عز وجل من ثوابٍ على حفظِ القرآن وتبليغه، ثم هو قبل هذا وبعده: ينبع مِنْ وَعْد الله عز وجل بحفظِ كتابه الكريم.
والمراد في المثال المذكور هنا:(قضية الحرص على الحفظ) يعني: الدافع وراء حِرْصِ المسلمين على حِفْظ القرآن الكريم جيلاً بعد جيلٍ، وليس المراد الكلام عن أبعاد قضية نقل القرآن العلميَّة وكيف كانت!!؟، فهذه قضية أخرى وقد سبق الكلام فيها مفصلاً بحمد الله تعالى أثناء موضوعي الآخر:(مع المستشرق موراني حول دعوى تحقيق القرآن...).
وكل هذا ممَّا لا صلة للنظرية المادية الغربية بمعرفتِه ولا بفهْمِه من قريبٍ أو بعيدٍ.
نعم؛ لا تفهم النظرية المادية الغربية شيئًا عن الإيمان، ولا صِلَة لها بالعناية بالحفظ رجاء الثواب أو خشية العقاب؛ لأنها بعبارة وجيزة: قد خلعت رباط الإيمان والدين من أعناقها من قديمٍ.
نعم؛ لم يَعُدْ للكنيسة أية سلطة روحية أو حتى مادية على أبنائها، كما فَقَدَ الحاخامات اليهود سلطتهم من قديمٍ.
كل هذا حصل من أول يومٍ دخل فيه التحريف والتزييف إلى التوراة والإنجيل، وذلك قبل الإسلام العظيم.
وشيئًا فشيئًا بدأت المسافة بين الدين والإيمان وبين الحياة اليهودية أو النصرانية تزداد، حتى صارت أبْعَدَ ممَّا بين المشرق والمغرب!!؟.
ومن هنا: وصل الغرب إلى ما هو عليه الآن بنظريَّتِه المادية المتغلغلة في كل أركانه، ضاربًا بالدين والإيمان عرض الحائط، بل وصارت محاولة العودة للدين أو لسلطة الحاخامات اليهود، أو الرهبان الكنسيين؛ تطرفًا عند الغرب نفسه!!؟.
نعم؛ هذا هو واقع الغرب من قديمٍ، وليس جديدًا عليه، ولا زال يحياه حتى الساعة، رغم الادِّعاءات الفارغة بالعناية بالأديان أو غير ذلك مما لا تُؤكِّده نظرية، ولا يؤيده دليل!!؟.
وبناءً على هذا الانقلاب والفَصْل التَّعَسُّفِي بين الدين والحياة؛ وبناءً على تحكيم المادة في كل المجالات حتى في مجال العلم والبحث؛ وبناءً على اعتماد الحفريَّات في تلَقِّي علوم الماضي، وإثبات ما كان في الزمن القديم؛
بناءً على هذا كله: لم يَعُد بإمكان الرجل الغربي فَهْمَ القضايا القائمة على الإيمان، أو التي يكون أساسها الحرص الديني، تنفيذًا لأمر الله عز وجل، أو رجاءً في ثوابه المنتظر في الآخرة!!؟.
ومن هنا: لم يفهم المستشرقون معنى حِرْص المسلمين على حفظ القرآن الكريم، ولا عنايتهم بذلك، كما لم يفهم المستشرقون كَثْرَة الحُفَّاظ من المسلمين، فجاء المستشرقون هنا بقوانين ونظريات يمكن رصدها في أمرين:
1ـ التشكيك في قدرة الإنسان على حِفْظ القرآن بكامله، واحتمال الوهم والغلط على الإنسان في نقْلِه وحِفْظِه!!؟.
2ـ الكلام عن مخطوطات المصحف، بكل ما يحمله ذلك من لغطٍ استشراقيٍّ معروفٍ.
فلا هم فهموا قضية الْحِرْصِ على الحفظ بأبعادها المنهجية العلمية فضلاً عن فهم بأبعادها الإيمانية القلبية، ولا هم فهموا قضية المخطوطات بأبعادها العلميَّة!!؟.
خاصةً مع ما يعتري منهجهم في البحث من قصورٍ وخللٍ في أصوله وفروعه، بناءً على اعتماد المادة، وحُكْم المادة!!؟، وهذا يجرُّنا إلى الكلام عن:(نظرة المستشرقين للقرآن والنبي صلى الله عليه وسلم).
يتبع إن شاء الله.