تسجيل الدخول

منذ يومين تحطمت مجاديف أحلامي فوق صخرة الواقع القاسي...تابعت أحلام كتابة رسالتها المطولة...
أجل سيدي رئيس البلدية منذ يومين أدركت أنني كائن مصيره أن يلتحف الأكفان و ينتظر قدوم المنايا...
منذ يومين سيدي نقبت عن اسمي في قوائم المستفيدين من المساكن عسى أن أظفر بسقف يأوي أولادي . لكنني رجعت بخفي حنين...
في تلك القوائم قرأت أسماء ناس موسرين...شاب تخرج من الجامعة حديثا.
راقصة مشهورة في ملهى ليلي. حفيد أحد المقاولين..و و و...
لكن تلك القائمة البغيضة تأبى أن تحمل اسمي. لست أدري ما هي الأسباب..
ربما لأنني فقيرة و لا ظهر يسندني. ربما لأن زوجي رحل مع المجاهدين إلى أفغانستان و يجب أن أدفع حساب خطيئته. ربما ربما...
لقد سافر الزوج إلى خط النار منذ سنوات و ترك أحلام تصارع أنياب المصير الذي لا يرحم..لقد انقطعت أخباره تماما. و تلاشى أخيرا من خلايا عقلها المرهق...
منذ عام أو يزيد قرأت أحلام في شاشات التلفزة أن عساكر – المارينز – ألقوا قنابل فتاكة على جبال –تورا بورا-
ربما هلك زوجها هناك تحت جحيم القنابل...لا أحد أكد مصرعه و لا أحد أكد أنه لا زال على قيد الحياة. وبقيت أحلام مثل المرأة المعلقة التي تلاحق خيوط السراب...
تابعت سرد رسالتها...سيدي الرئيس إن زوجي المفقود علق على رقبتي أربعة أولاد. هم جميع رصيدي في هذه الحياة فتكرم علينا بمنزل يجمع شتاتنا و يدفع عنا غوائل الزمن و عبث الأشرار و بطش الأعادي...
منذ أمد بعيد فصلوا أحلام من وظيفتها التي تتكسب منها قوت أبناءها.
ذات صباح وصلها بريد مستعجل من الشركة : بقرار من مدير الشركة تم الاستغناء عن خدماتك. و عن قريب سوف تتسلمين بقية مستحقاتك...
في اليوم التالي ذهبت لاستلام بقية المستحقات. و يا ليتها ما ذهبت ...همسات الزملاء و سخرياتهم كانت كما الرماح المسمومة. و زادتها هما على هم...
أحدهم همس بصوت مسموع : - أحلام أمست زوجة إرهابي مطلوب للعدالة –
و زميلتها رانيا همست لصديقتها في المكتب : - خسارة كبيرة و الله..أحلام قمعت جمالها و رونقها بذلك النقاب المقيت -
أحلام كانت تتلقى تلك الصدمات برباطة جأش...كانت مقتنعة أن زوجها سوف يعود يوما ليستخلصها من هذا المستنقع الآسن..
تزوجت ذلك الرجل عن حب صادق رغم اعتراض والدتها الشديد. و ارتدت النقاب نزولا عند رغبته. لكنه فرط فيها أخيرا و في أولاده و التحق بالبلاد البعيدة في أقصى الأرض دون أن يترك رسالة وداع. أو وردة حمراء للذكرى...
حين ارتدت أحلام النقاب لأول مرة في حياتها. جثمت أمام المرآة ساعة كاملة و راحت تتأمل ملامحها الجديدة بعد أن ابتلع النقاب شعرها السرمدي الجميل...
حينها همست بينها و بين نفسها : - وداعا سنوات الطيش و الطفولة و العبث و البراءة –
استأجرت حجرة حقيرة بعد أن طردتها حماتها من البيت ذات شتاء و تحت سماء مطيرة..
تحت زخات المطر و قصف الرعود قذفت الحماة دون تردد حقائب أحلام و أولادها قائلة :
- التمسي مأوى لكي و لأبنائك لأن المنزل ضيق و لا يسعنا جميعا –
بكاء الصغار و توسلات أحلام لم تفلح في كبح غلواء المرأة العجوز.
على العكس من ذلك فالحماة أصرت على موقفها و لم تحفل بوساطة الجيران و العقلاء.
عاشت أحلام في هذه الحجرة المتواضعة مع صغارها..تؤنس وحدة الجرذان و الصراصير و تصارع وحشية الرطوبة و البرد.
لكن رئيس البلدية يرسل لها خطابا مقتضبا ذات مساء:
- هناك عجز شديد في المنازل على تراب البلدية... سيدتي نأسف لرفض طلبك –
سخطت أحلام و تذمرت من قسوة الحياة و جفاء البشر..تطلعت إلى حافظة النقود و جحظت عيناها أمام تلك الدنانير الشحيحة المتبقية في قعر الحافظة...
حين تقدم الليل و نام الصغار. تخلصت أحلام من ذلك النقاب . صففت شعرها الذهبي بعناية فائقة... ومست الكثير من عطر – ريف دور -.
وضعت أحمر الشفاه و ارتدت أبهى فستان لديها و حملت محفظة يد حمراء اللون و خرجت إلى الزقاق الطويل وفي ملامح وجهها تراكم حزن خفي...