فصل اللغة عن الدين!!؟
10-11-2016, 02:25 PM
فصل اللغة عن الدين!!؟
أبو بكر خالد سعد الله
أستاذ جامعي قسم الرياضيات / المدرسة العليا للأساتذة- القبة



صدر يوم 29 أكتوبر مقال مطول في صحيفة:"لو سوار دالجيري" (الناطقة بالفرنسية) عنوانه:" لننقذ مدرستنا!!؟"، والمهم ليس العنوان، بل مضمونه ومكانة كتّابه البالغ عددهم خمسة من المثقفين الجزائريين المرموقين، وقد قدموا أنفسهم في المقال كالتالي:(ننقله حرفيا):
أحمد جبار: (رياضي ومؤرخ للعلوم، أستاذ فخري بجامعة العلوم والتكنولوجيا، لِيل، وزير التربية سابقا)؛ عبد الرزاق دوراري:(لسانياتي، أستاذ بجامعة الجزائر)؛ محمد حربي:(مؤرخ وقائد سابق في جبهة التحرير الوطني)؛ وسيني لعرج:(كاتب وأستاذ الأدب الحديث بجامعة الجزائر وباريس 3- السوربون الجديدة)؛ خولة طالب الإبراهيمي:(لسانياتية، وأستاذة بجامعة الجزائر)؛ هواري تواتي:(مؤرخ، ومشرف على الدراسات بمدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية، باريس).
ينبّه الكتّاب في البداية إلى أنهم لا يشكلون لجنة ولا منظمة لكنهم يعبرون عن رأيهم في هذا المقال المشترك، وبعد أن أكد المقال أن اللغة العربية "تثير العواطف وتهيّج الجدل" في الجزائر أكثر من أي بلد عربي آخر، لاحظ بأن هذه اللغة لا نتكلمها ولا نتعلمها جيدا في الجزائر، والسبب هو: أن هذه اللغة:"بدون مضمون وفقيرة وجافة كجفاف مجرى ماء هزيل في الصحراء!!؟".
ومن ثمّ:" فبقدر ما نعبر عن سخطنا على حالها بقدر ما ندفعها إلى الشيخوخة والتقهقر!!؟".
لقد بذلنا جهدا كبيرا لفهم المقصد من هذا الكلام، ففشلنا.
وددنا هنا أن يوضح لنا المقال من ذا الذي لم يتعلم العربية جيدا ولا يتكلمها جيدا!!؟.
أليسوا هم: القائمون على قطاع التربية بالدرجة الأولى!!؟.
وما ذنب التلميذ إن كان رب البيت على الدف ضاربا!!؟.
ثم ما معنى أن من يدافع عن لغة يزيدها تقهقرا!!؟.
وبعد ذلك يوضح المقال أن:"الشعوب لا تستحق اللغات التي تتبناها إلا إذا عملت على إثرائها، وتقاسمت ما تقطفه من ثمارها مع باقي العالم".
ويختتم هذه الأقوال الجميلة بالسؤال: "ما حال الثقافة العربية في الجزائر؟"، ويجيبون:" رديء، وهذا لأن الجزائريين منقطعون عن التراث الأدبي الكلاسيكي لهذه اللغة، بمن فيهم جل النخبة المثقفة".
وفي هذا السياق اعتبر المقال الجاحظ والمعرّي كمثال لمن ينبغي دراسة نصوصهم، إلخ، ثم جاء في النص: "خلال الـ60 سنة الماضية: لم تُدَرّس المدرسة الجزائرية أي شيء من هذا القبيل".
لا شك أن هذا الكلام مردود على أصحابه، إذ كنا في الثانوي في شعبة الرياضيات عند الاستقلال، ودرسنا الجاحظ والمعري وامرؤ القيس وأبا نواس والهمذاني، وغيرهم كثيرون، المشكل أن مبدأ "الجزأرة" كما يراه مسؤولوا اليوم وقُبيْل اليوم: جعلهم يقررون أن تكون جل نصوص مناهج المدرسة في اللغة العربية بأقلام جزائرية.

المنطق إغريقي المنبع!!؟:
ومن جهة أخرى: تم التأكيد في المقال على أن الثقافة العربية الكلاسيكية قد: "نجحت فيما لم تنجح فيه الثقافة العربية الحديثة، وهو: تزويد العرب المسلمين بثقافتين، إحداهما دينية والأخرى "دنيوية"، ففي القرون الماضية كان بالإمكان أن يقضي الإنسان عمره في دراسة إحدى الثقافتين دون الأخرى"، والسبب هو أن الإسلام لم يكن فقط "دينا بل كان أيضا ثقافة".
ويسترسل المقال: "لو ظل الإسلام مجرد دين: لَمَا تطوّر، لأن كل العلوم تتطلب التحكم في الفكر النظري الذي لا يمكن اكتسابه وتطويره في غياب المنطق، لكن المنطق ليس عربيا ولا إسلاميا بل هو إغريقي!!؟".
وتابع النص موضحا أن: "المدافعين المزيفين عن اللغة العربية عندنا، وهم المسؤولون عن هلاكها في المدرسة لا يعلمون –طبعًا- بأنهم مدانون للثقافة الإغريقية حتى في طريقة تعلمهم قراءة وكتابة اللغة العربية، وهي الطريقة ذاتها التي حافظت عليها المدارس القرآنية عبر العصور!!؟".
لنترك المدافعين "المزيفين" يدافعون عن أنفسهم، فالزيف موجود في الواقع لدى كل الفئات، بما فيها فئة من شارك في كتابة هذا المقال، علينا أن نُقرّ بأننا عجزنا عن استيعاب هذا المنطق وتسلسل أفكاره رغم سلامة بعضها، ومن بين تلك الأفكار الغريبة: القول بأن الإغريق هم أصل "المنطق"، وكأن المنطق لم يلد به الإنسان، ولم يترعرع معه ومع حضاراته المتعاقبة إلى اليوم، هذا إذا عرّفنا المنطق بأنه ما يجعلنا نميّز بين الخطأ والصواب في القضايا كما تطرحها الرياضيات، ألا يعلم أصحاب المقال: أن البحث في المنطق لا زال متواصلا، وعالم المنطق بول كوهين Paul Cohen الذي حصل فيه على أعلى وسام في الرياضيات عام 1966 لم يرحل إلا منذ بضع سنوات، بل لازال حاضرا معنا بأعماله وتلاميذه!.

عاش من عرف حدود علمه:
وبعد ذلك: غاص المقال في الفتاوى الدينية حتى تخيلنا أننا نقرأ نصا في الفقه الإسلامي!!؟، وراح يفصل في البديهيات مثل: إثبات عدم صحة الادعاء بأن مقولة "العربية لغة الجنة" حديث شريف، بل أشار هنا إلى حادثة "المعلمة صباح"، واعتبرها المؤلفون عملية "استفزازية!!؟".
كل ذلك للوصول إلى فتوى تقول بوجوب فصل اللغة عن الدين، والتشديد على عدم تقديسها، وعلى أن:"الخطاب الذي يدافع عن المدرسة باسم الدين" يؤدي إلى ظاهرة "هذا حلال/وهذا حرام"، ثم استعرض المؤلفون عضلاتهم الفقهية لتوضيح "الواجب" و"الفرض" و"المستحب" و"المكروه" و"السنة"، و"الفاسد" و"الباطل" و"المشروع" و"الجائز"، إلخ، وتابعوا التحاليل في المذاهب الحنفية والمالكية والإباضية والسلفية الحديثة: مؤكدين بأن المذهب الأخير دمّر الكثير في بلدنا!!؟.
نحن هنا نسرد ولا نتجرأ على الفتوى لأننا لسنا أهلا لها، وعاش من عرف حدود علمه.
دعنا الآن نقرأ هذا المقطع الوارد في المقال:
"هذه اللغة (العربية) التقنية، قبل أن تكون تعبيرا متميزا للقرآن، كانت لغة الشعر والبلاغة والخطابة ولغة الكهنة وعبادة الأصنام عند العرب، إنها جميلة ونحن نحبها لأنها جميلة!!؟".
ليسمح لنا أصحاب المقال بالتعبير عن تساؤل صار لا يفارقنا منذ عقود كلما تغنى أحد مثقفينا أمامنا بجمال اللغة العربية، وهو:
ماذا قدم هذا المعجَب لهذه اللغة!!؟.
وفي معظم الأحيان: نكتشف أن الإشارة إلى جمال اللغة: مجرد ذر الرماد في عيون المعجبين الحقيقيين!!؟.

شخصيتان لا ثالثة لهما!!؟:
إنه من الصعب أن نلخص كل ما جاء في هذا المقال المعقد البنية والمبعثر الأفكار، ربما لأن الكثير من الأقلام تدخلت فيه وتداخلت، لكن ما شدّ انتباهنا أيضا: أن المؤلفين لم يجدوا من كل وزراء التربية من يستحق الإشادة سوى المرحوم "المفكر اللامع" مصطفى الأشرف الذي استقال (حسب المقال) عندما لم يقف بومدين إلى جانبه بعد تعيينه وزيرا للتربية عام 1977 ضد تهجم "المحافظين" عليه!!؟.
نذكّر بهذا الصدد أن:" الأشرف" ظل في السلطة حتى التسعينيات، وبعدها أسس حزب التحالف بمعية رضا مالك (الذي كان وزيرا للثقافة عندما كان هو وزيرا للتربية)، ومن المعلوم: أن الأشرف كان مقربا من بومدين، حيث كان مستشاره خلال الفترة 1970-1974 في الشؤون التربوية والثقافية.
والغريب أننا قرأنا رثاء محمد حربي (أحد كتاب هذا المقال) لصديقه الراحل الأشرف جاء فيه أنه (أي حربي) تدخّل بقوة لدى بن بلة عام 1963 طالبا منه تعيين الأشرف وزيرا للتربية، فقبل بن بلة، لكن الأشرف رفض!، وفي ذات الوقت: نقرأ أن محمد حربي سجنه بومدين عام 1965 حتى فرّ من سجنه عام 1973، أي في الوقت الذي كان فيه الأشرف مستشارا خاصا لبومدين!!؟.
إننا نجد صعوبة في تقييم العلاقة بين الرجلين الصديقين في ضوء هذه المعلومات... ونحن نقرأ في هذا المقال أن الأشرف أفضل وزراء التربية!!؟.
لا شك أن أصحاب المقال على صواب عندما ينددون بتسييس المدرسة وأدلجتها، لكن من الواضح: أنهم لا يدركون بأن هذا التسييس يأتي من الجانبين، بل يرونه قادما من جانب واحد!!؟.
على سبيل المثال: ألم يسمعوا بالحماقات التي ارتكبها المرحوم الأشرف بمجرد توليه الوزارة عندما تخلص بين عشية وضحاها من كبار إطارات وزارته كمن يقوم بعملية انتقامية!!؟.
وظلت كارثة المدرسة قائمة (حسب المقال) 20 سنة بعد استقالة الأشرف حتى ظهور لجنة إصلاح المنظومة التربوية عام 2000 التي قيّمت المدرسة، و"أعلنت عن أنها منكوبة!!؟"، وأشار المؤلفون إلى أن اللجنة كانت تحت رئاسة "أستاذ نابغة"، وقد وجدنا في هذا الوصف غلوا ومبالغة فاقت حدود مستلزمات اللياقة!!؟، فالأستاذ المحترم رئيس اللجنة نبغ في مجال السياسة، وهو الآن في مجلس الأمة، أما نبوغه في التعليم والبحث العلمي، فهذا شأن آخر!!؟.
ليس سرا أنه إذا ما رجعنا إلى أكبر قاعدة بيانات أمريكية -التي تحصي الكبيرة والصغيرة في العالم حول ما ينشر في مجال البحث الرياضي- لن نجد فيها سوى عدد هزيل من البحوث للمعني، معظمها نشر قبل عام 1970.
لم يشر المقال بالإيجاب أو المدح إلا لهاتين الشخصيتين في المجال التربوي، ولهذا، وبالنظر إلى ما تقدم، نقول إن المقال -رغم ما فيه من حقائق وتحاليل صائبة أحيانا- يحمل بين طياته كمًا وافرًا من التسييس والأدلجة لموضوع المدرسة... تماما كما هو الحال في "المعسكر الآخر" الذي يدينه أصحاب المقال، ولذا نردد لهؤلاء بيت أبي الأسود الدؤلي (الذي درسناه في المدرسة الجزائرية إلى جانب الجاحظ والمعري):
لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله÷ عارٌ عليك إذا فعلت عظيم