هجمة البعوض
06-03-2015, 10:12 AM
هجمة البعوض
-" ليس هناك غيره ليخلصني من المشكلة، التي تعترض طريقي، هو الوحيد الذي يستطيع أن يبيّض وجهي ووجه المدينة: "هو رجل خدوم وصديق للمظلومين، ومناصرهم...وأنا، بالنظر إلى ما أنا فيه، مظلوم بكل المقاييس والاعتبارات. أليست المشاكل المتهالكة علي، في هذا الظرف بالذات، كافية دليلا؟ لا! لن يخيّبني.. سأتصل به فورا.
-" رقم النجدة.. رقم النجدة..أين هو في هذه السلسلة الطويلة من الأرقام.. أين هو؟ ها هو..وجدته أخيرا!
-" ألو..أين أنت يا صديقي؟ من مدة لم أسمع أخبارك، كنت أنتظر منك زيارة مفاجئة، لتهنئني على نجاحي، في اعتلاء عرش المدينة، ويبدو أنك ماسك علي تأخري عن عدم دعوتك رسميا، لحضور حفل التنصيب. لا تلمني، فقد نسيت، حتى نفسي نسيتها، ولك أن تضحك علي.. نعم، فقد نسيتها يومها، وأنا في خضم ترتيب أموري، لإرساء قواعد العرش، والاستعداد لبدء حياة جديدة.
-" ومنذئذ، يا صديقي، لم أعش يوما واحدا مثل سائر الناس، فوقتي كان كله موزعا بين المكتب، الذي تتكدس فوقه يوميا، أكوام من الملفات ،التي تنتظر الإمضاء المستعجل، وبين الفنادق التي نعقد فيها صفقات الأعمال، أضف إلى ذلك، الاجتماعات الدورية والاستثنائية، واستقبال وفود الرسميين، وغير ذلك مما يبتلع الوقت بدون حساب.
-" تصوّر! حتى عائلتي، قلّما استطعت أن أسرق بعض اللحظات لزيارتها..نعم، مجرد زيارة قصيرة فقط، مثلما نزور مريضا في المستشفى لدقائق، ثم نغادر.أما الأصدقاء.. فلا أعلم ما حدث لي تحديدا! لقد وجدت حولي عالما جديدا أبهرني، وألهاني عن عالمي السابق، بل أدخلني في متاهات، من الصعب فيها أن تعود أدراجك.
-" صدّقني! عندما يكون أحدنا في هذا المنصب، الذي لا أتمناه لعدوّ، وما بالك بصديق، يشعر أنه مختلف كل الاختلاف عن سائر البشر، يحس أحاسيس لم تكن تخطر بباله من قبل، ويجد نفسه يعيش حياة، تبتعد به يوما فيوما عن حياته القديمة، فيألفها وتألفه، وتتشابك الحبال وتتعقد، لتكوّن نسيجا متلاحما متماسكا، يصعب معها انفكاك الخيوط عن بعضها، ثم يتحوّل النسيج حجابا حاجزا بينه وبين الأحبة من الأهل والخلان، إلا من احتواهم النسيج، أو علقوا عنوة بحباله كالعناكب.
-" والحقيقة أنني مسكين..أنا رئيس البلدية! لقد ظلمني الحاسدون، الذين يقولون أنني أتقلّب في النعماء..والأصح هو أنني أشقى فيها شقاوة الجحيم، ولكن ما باليد حيلة، ذلك هو قدري، وعلى الناس أن يفهموا بأنني خلقت لهذه الحياة كما خلقوا هم، لحياتهم تلك!ٍ
-" وأقول لك، وبكل صراحة، ورغم كل شيء، فقد انسجمت مع هذه الحياة، التي وجدتها على مقاسي، بل هي مناسبة جدا، لطموحاتي الطويلة والعريضة. وليس سرا، إن قلت لك أيضا، بأن تعلقي الشديد بهذه الدار الكبيرة، قد امتدّ إلى أثاث مكتبي الفسيح، ذي الأرائك الوثيرة، والجدران المبطنة بعوازل الصوت، وإني أراني اليوم، كالعاشق المسكين المتشبث بتلابيب معشوقه، الذي ينتظر توديعه عما قٍريب.ٍ
-" من الصعب، يا صديقي، أن أنفطم عن هذا الحب، هل تتصوّر ذلك؟ أصاب بجنون، لو فقدت – لا سمح الله – هذه المملكة دفعة واحدة، ثم إن المواطنين سيخسرون أيضا، وكثيرا، بذهابي. أليس من الأفضل لهم أن يعيدوا انتخابي، حتى أحقق لهم أمنيتهم الكبيرة، التي طالما انتظروها..أن تصبح مدينتهم، مدينة بأتم معنى الكلمة.. مدينة لا يخجلون من الانتساب إليها، كما قال أحدهم ذات يوم. والحق يقال، فهم على صواب..وهذه الحقيقة، لم أدركها إلا اليوم، لأنني اليوم فقط، ومنذ أكثر من أربع سنوات، أرى المدينة بعين المواطن العادي، وأقف على حقيقة الواقع المرة، وأدرك حجم الكارثة." الناس هواة تهويل ومبالغة" كنت أقول عندما تصلني شكاياهم وشكاواهم، المترددة على مكتبي، الذي يشهد، بأنني أقرأ بكثير من المتعة انشغالاتهم الكثيرة.. ولأنها من الكثرة، التي لا تعدّ ولا تحصى، كان من المستحيل الالتفات إليها، وهو أمر مفهوم، بالنظر إلى التزاماتي المتعددة والمتشعبة.
-" ألو ! ..هل أنت معي؟ لا تقفل الخط، أرجوك! أعرف بأنني مهذار مكثار، ولكن، أترجاك أن تحمل ثقلي، لأنني في أشد الحاجة إلى خدماتك الجليلة، فأنا في ورطة كبيرة، والمدينة في خطر..وأنا عاجز لا أعلم ما أفعل. النفايات تحاصر المدينة، وأنا هنا، سجين في هذا المكتب، لا حول لي ولا قوة، وفيالق البعوض والذباب قد أعلنت حربا شعواء لا هوادة فيها ولا رحمة.
-" ألو.. سوبرمان ! هذه جحافل البعوض مدججة بالسلاح الفتاك، ألمحها من النافذة، تتقدم بكل حزم وثبات نحو القصر،..ألو..ألو.. الخطر يداهمني..وهذه فيالق الذباب، أراها تملأ الأفق هديرا..لقد أظلمت الدنيا من حولي..النجدة..النجدة..من يخلصني ؟ هل من منقذ يا عالم! أين أنت يا منقذ المظلومين؟
كانت يدي على سماعة التلفون الرابض بجانب سريري، عندما استيقظت من النوم مذعورا، وسيول من العرق البارد تغرقني، فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم، ودعوت الله أن يجعل الكابوس خيرا. وبعد أن استرجعت هدوئي، واستتب الاطمئنان في نفسي، دخلت الحمام لأغتسل، فإذا المرآة تعكس وجها غير وجهي، من أثر لسعات البعوض الذي وجد طريقه، للانتقام من جسمي الهزيل، وهو ما جعلني للحظة، أشك في حقيقة شخصي، فحسبتني " المير " فعلا.
وكان علي بعد ذلك، أن ألتحق بعملي، غير أني - وأنا على ما أنا عليه من بشاعة المنظر - فضلت المكوث بالبيت. فتحت النافذة المطلة على الشارع العام، كي أشم قليلا من الهواء الجديد، علّه يكون اليوم منعشا، فإذا عيني تقع على رجل، يعلّق على الجدار المقابل إعلانا إشهاريا، مكتوب عليه بخط بارز :" منتخَبُون في خدمتكم "، قرأت العبارة مرات ومرات، ولكن لساني يأبى إلا أن ينطقها :" منتخِبُون في خدمتكم ".
وانطلق خيالي، بعد ذلك، يسبح ويسبح كالغريق يطفو طورا ويغوص طورا آخر، في بحر " لا أدري "، إلى أن انتشلني صوت ربة البيت من الغرق الوشيك، وهي تقول لي: " خذ معك الكيس الأسود وأنت خارج"، فقلت لها دون انتباه:" حاضر..سوبرمان! ناسيا أني ممنوع من الخروج.
-" ليس هناك غيره ليخلصني من المشكلة، التي تعترض طريقي، هو الوحيد الذي يستطيع أن يبيّض وجهي ووجه المدينة: "هو رجل خدوم وصديق للمظلومين، ومناصرهم...وأنا، بالنظر إلى ما أنا فيه، مظلوم بكل المقاييس والاعتبارات. أليست المشاكل المتهالكة علي، في هذا الظرف بالذات، كافية دليلا؟ لا! لن يخيّبني.. سأتصل به فورا.
-" رقم النجدة.. رقم النجدة..أين هو في هذه السلسلة الطويلة من الأرقام.. أين هو؟ ها هو..وجدته أخيرا!
-" ألو..أين أنت يا صديقي؟ من مدة لم أسمع أخبارك، كنت أنتظر منك زيارة مفاجئة، لتهنئني على نجاحي، في اعتلاء عرش المدينة، ويبدو أنك ماسك علي تأخري عن عدم دعوتك رسميا، لحضور حفل التنصيب. لا تلمني، فقد نسيت، حتى نفسي نسيتها، ولك أن تضحك علي.. نعم، فقد نسيتها يومها، وأنا في خضم ترتيب أموري، لإرساء قواعد العرش، والاستعداد لبدء حياة جديدة.
-" ومنذئذ، يا صديقي، لم أعش يوما واحدا مثل سائر الناس، فوقتي كان كله موزعا بين المكتب، الذي تتكدس فوقه يوميا، أكوام من الملفات ،التي تنتظر الإمضاء المستعجل، وبين الفنادق التي نعقد فيها صفقات الأعمال، أضف إلى ذلك، الاجتماعات الدورية والاستثنائية، واستقبال وفود الرسميين، وغير ذلك مما يبتلع الوقت بدون حساب.
-" تصوّر! حتى عائلتي، قلّما استطعت أن أسرق بعض اللحظات لزيارتها..نعم، مجرد زيارة قصيرة فقط، مثلما نزور مريضا في المستشفى لدقائق، ثم نغادر.أما الأصدقاء.. فلا أعلم ما حدث لي تحديدا! لقد وجدت حولي عالما جديدا أبهرني، وألهاني عن عالمي السابق، بل أدخلني في متاهات، من الصعب فيها أن تعود أدراجك.
-" صدّقني! عندما يكون أحدنا في هذا المنصب، الذي لا أتمناه لعدوّ، وما بالك بصديق، يشعر أنه مختلف كل الاختلاف عن سائر البشر، يحس أحاسيس لم تكن تخطر بباله من قبل، ويجد نفسه يعيش حياة، تبتعد به يوما فيوما عن حياته القديمة، فيألفها وتألفه، وتتشابك الحبال وتتعقد، لتكوّن نسيجا متلاحما متماسكا، يصعب معها انفكاك الخيوط عن بعضها، ثم يتحوّل النسيج حجابا حاجزا بينه وبين الأحبة من الأهل والخلان، إلا من احتواهم النسيج، أو علقوا عنوة بحباله كالعناكب.
-" والحقيقة أنني مسكين..أنا رئيس البلدية! لقد ظلمني الحاسدون، الذين يقولون أنني أتقلّب في النعماء..والأصح هو أنني أشقى فيها شقاوة الجحيم، ولكن ما باليد حيلة، ذلك هو قدري، وعلى الناس أن يفهموا بأنني خلقت لهذه الحياة كما خلقوا هم، لحياتهم تلك!ٍ
-" وأقول لك، وبكل صراحة، ورغم كل شيء، فقد انسجمت مع هذه الحياة، التي وجدتها على مقاسي، بل هي مناسبة جدا، لطموحاتي الطويلة والعريضة. وليس سرا، إن قلت لك أيضا، بأن تعلقي الشديد بهذه الدار الكبيرة، قد امتدّ إلى أثاث مكتبي الفسيح، ذي الأرائك الوثيرة، والجدران المبطنة بعوازل الصوت، وإني أراني اليوم، كالعاشق المسكين المتشبث بتلابيب معشوقه، الذي ينتظر توديعه عما قٍريب.ٍ
-" من الصعب، يا صديقي، أن أنفطم عن هذا الحب، هل تتصوّر ذلك؟ أصاب بجنون، لو فقدت – لا سمح الله – هذه المملكة دفعة واحدة، ثم إن المواطنين سيخسرون أيضا، وكثيرا، بذهابي. أليس من الأفضل لهم أن يعيدوا انتخابي، حتى أحقق لهم أمنيتهم الكبيرة، التي طالما انتظروها..أن تصبح مدينتهم، مدينة بأتم معنى الكلمة.. مدينة لا يخجلون من الانتساب إليها، كما قال أحدهم ذات يوم. والحق يقال، فهم على صواب..وهذه الحقيقة، لم أدركها إلا اليوم، لأنني اليوم فقط، ومنذ أكثر من أربع سنوات، أرى المدينة بعين المواطن العادي، وأقف على حقيقة الواقع المرة، وأدرك حجم الكارثة." الناس هواة تهويل ومبالغة" كنت أقول عندما تصلني شكاياهم وشكاواهم، المترددة على مكتبي، الذي يشهد، بأنني أقرأ بكثير من المتعة انشغالاتهم الكثيرة.. ولأنها من الكثرة، التي لا تعدّ ولا تحصى، كان من المستحيل الالتفات إليها، وهو أمر مفهوم، بالنظر إلى التزاماتي المتعددة والمتشعبة.
-" ألو ! ..هل أنت معي؟ لا تقفل الخط، أرجوك! أعرف بأنني مهذار مكثار، ولكن، أترجاك أن تحمل ثقلي، لأنني في أشد الحاجة إلى خدماتك الجليلة، فأنا في ورطة كبيرة، والمدينة في خطر..وأنا عاجز لا أعلم ما أفعل. النفايات تحاصر المدينة، وأنا هنا، سجين في هذا المكتب، لا حول لي ولا قوة، وفيالق البعوض والذباب قد أعلنت حربا شعواء لا هوادة فيها ولا رحمة.
-" ألو.. سوبرمان ! هذه جحافل البعوض مدججة بالسلاح الفتاك، ألمحها من النافذة، تتقدم بكل حزم وثبات نحو القصر،..ألو..ألو.. الخطر يداهمني..وهذه فيالق الذباب، أراها تملأ الأفق هديرا..لقد أظلمت الدنيا من حولي..النجدة..النجدة..من يخلصني ؟ هل من منقذ يا عالم! أين أنت يا منقذ المظلومين؟
كانت يدي على سماعة التلفون الرابض بجانب سريري، عندما استيقظت من النوم مذعورا، وسيول من العرق البارد تغرقني، فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم، ودعوت الله أن يجعل الكابوس خيرا. وبعد أن استرجعت هدوئي، واستتب الاطمئنان في نفسي، دخلت الحمام لأغتسل، فإذا المرآة تعكس وجها غير وجهي، من أثر لسعات البعوض الذي وجد طريقه، للانتقام من جسمي الهزيل، وهو ما جعلني للحظة، أشك في حقيقة شخصي، فحسبتني " المير " فعلا.
وكان علي بعد ذلك، أن ألتحق بعملي، غير أني - وأنا على ما أنا عليه من بشاعة المنظر - فضلت المكوث بالبيت. فتحت النافذة المطلة على الشارع العام، كي أشم قليلا من الهواء الجديد، علّه يكون اليوم منعشا، فإذا عيني تقع على رجل، يعلّق على الجدار المقابل إعلانا إشهاريا، مكتوب عليه بخط بارز :" منتخَبُون في خدمتكم "، قرأت العبارة مرات ومرات، ولكن لساني يأبى إلا أن ينطقها :" منتخِبُون في خدمتكم ".
وانطلق خيالي، بعد ذلك، يسبح ويسبح كالغريق يطفو طورا ويغوص طورا آخر، في بحر " لا أدري "، إلى أن انتشلني صوت ربة البيت من الغرق الوشيك، وهي تقول لي: " خذ معك الكيس الأسود وأنت خارج"، فقلت لها دون انتباه:" حاضر..سوبرمان! ناسيا أني ممنوع من الخروج.