نفوس أكبر من السرطان
02-02-2017, 12:22 PM
نفوس أكبر من السرطان!!؟
محمد حسن جباري
بَدَتْ ثيابُه على جسده أكبر من ذي قبل! بعد أن أهرقَ الكثير من أمواه عافيته في الطريق بين بلدته ومستشفى البلدة المجاورة؛ حيث كانت تَثْوِي بقايا ابنته الصغرى.

لم يبق منها على الفراش سوى رقعةٍ شاحبة، تزداد بَهتًا يومًا بعد يوم؛ فالمرض المستعصي يسعى سعيًا حثيثًا ليكشط البقية الباقيةَ منها بأنيابه الحديدية.

الأيام التي قضاها في عرضِ الطريق يستوقف السيارات لتُقِلَّه، كانت كفيلةً لتنحت في ذاكرته المخططَ الكامل للمكان بممهلاته، وإشاراته، وأشجاره، وحفره، بل يذكر حتى أماكن الفراغات التي خلَّفتها حبات منتزعة من الآجُرِّ في الرصيف.

مزيجُ الألوان الباهتة التي بقيت تئنُّ في شحوب وجهِه، ورثاثة ثيابه وحذائه، مع عينين زائغتينِ، تدوران في رأس ثائرة الشعر على غير هدى، يحمل ذلك كلَّه جثَّة متهدِّلة، تتهادَى كسفينة تائهة وسط المحيط، جعله يبدو كمجانين الطرقات.

مُرتَّبه النَّزْرُ يكفيه بالكاد لسد رمق أسرته، بَلْهَ شراء سيارة تُخفِّف عنه وطأة هذا العذاب!!؟.
بعد صلاة الظهر من كل يومٍ: يتجدَّد موعد هذه الرحلة، عُدَّته فيها أزاهير من الأمل ذاوية، وعزيمة صَدِئة، يسقي ذلك كله قطرات رطيبة من شوق ملتهب، يحلحل شيئًا من قساوة هذا الصقيع الجاثم.
ليل المواجع والفناءْ
فيه البكاء على البكاءْ
والبدر غادر بلدتي
والنجم أيضًا
ضوءُه
قد فرَّ من تلك السماءْ
يعقوبُ هلَّا أعرتَنِي ذاك القميصْ
أجلو به هذا العَمَى
وأذوق من أنوارهِ
ذاك البصيصْ
أم أنَّ دهرَ المعجزاتِ قدِ انقضى
فالنار ذات وقودها
لا ماءَ فيها، ولا هواءْ!!؟.

عرَفتُ حقيقة أمره بعد أن رأيتُه على هذه الحالِ أكثر من مرة، فسألت عنه: ماتت ابنته، وتوقفت الرحلة!؟.

إلى الآن لا أدري كيف كنتُ سأردُّ على أولئك الذين مرُّوا عليَّ بسياراتهم ولم ألقَ منهم أي مساعدة، لو كنت مكانه، وهل سأنتهج طريقة جديدة في التعامل مع الناس!!؟.

فالدرس الذي تعلَّمه صاحبنا كان قاسيًا جدًّا.
أما هو، فقد اشترى سيارةً، علَّم ولدَيْه القيادة، وسخَّر جزءًا من وقته لنقل المرضى إلى المستشفى على متنها.
سيارته بيضاء، واسمه (الطاهر).