تسجيل الدخول تسجيل جديد

تسجيل الدخول

إدارة الموقع
منتديات الشروق أونلاين
إعلانات
منتديات الشروق أونلاين
تغريدات تويتر
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية صفاء ص
صفاء ص
عضو فعال
  • تاريخ التسجيل : 31-08-2009
  • الدولة : الجزائر
  • العمر : 29
  • المشاركات : 103
  • معدل تقييم المستوى :

    15

  • صفاء ص is on a distinguished road
الصورة الرمزية صفاء ص
صفاء ص
عضو فعال
الذاكرة المجروجة
27-12-2011, 11:14 AM
<<<<<
مواعيد يدبّرها لنا القدر دون أن نعرف...مواعيد تجمعنا في لقاء مع الذاكرة...في لقاء مع الألم...تحت نغم جراح ترفض أن تندمل.

مواعيد يدبّرها لنا القدر في ديار المهجر...في مدينة غريبة تلبس الغرابة و تدين بها...في مدينة أنجبت من أحيانا و من قتلنا...في مدينة هي نواة ألمي و بسمتي...نواة ألمنا و بسمتنا معا...معا جميعا...مدينة جعلتنا أشقّاء أكثر من ذي قبل...مدينة علّمتنا البوح و البكاء و الحلم بعد أن وهبتنا الألم...مدينة وهبتني شرف اللّقاء بك لنصبح بعدها الأصدقاء الأشقّاء في ديار الغربة.


ما زلت أذكر عبارتك الأولى التي أسمعتني إياها في حفل أسميتُه *حفل الاعتراف*...كان في الأصل حفل توقيعك لروايتك

الدليل-:-La preuve المفرنسة

-لستُ أدري لماذا قد تقدم امرأة بمثل سنّك على اشتراء ذاكرة قد تكون ذاكرتها.

أجبتك مباشرة:

-إنّنا نقدم على شراء ذاكرة الآخرين لندثّر ذاكرتنا علّها تنام.

ابتسمتَ:

-أن تنام الذاكرة هو ضرب من الخيال أما أن نشفى منها فهو أمر واقعي.

-كيف ذلك؟

تجيبني:

-لكلّ شخص طبيب يقصده للشّفاء أمّا أنا فطبيبي هو القلم،أقصد الكتابة كونها وسيلة تفريغ بسيطة رغم عظمتها.



ذكّرتني حينها بقول روبرت ماك أحد قُوّاد أميركا في الحرب العالمية الثانية* لي ثقة في عظمة البساطة و بساطة العظمة...إنّ أبرز الشّخصيات الذين عرفتهم هم في غاية البساطة و التواضع و عدم الالتواء و لقد وجدتُ مرضى العظمة و النّفخة الكذابة قوما ضعفاء و أنانيين*


أترى وقعت أعيننا على نفس هذه العبارات التي عاشت؟...أمّ أنّ أبناء الحروب لهم لغة واحدة و عبارات مشتركة؟


ثمّ أضفتَ بعد أن لبّيتَ رغبة قارئ آخر:

-إنّ عظمة الأشياء تكمن في بساطتها إذن كلّما كان ألمك عظيما اختاري له الشيء الأبسط لقتله...خاصّة إذا كان ألم ثورة.

سألتُك بارتباك و بكلمات استعرتها من لغتك:

-هل رائحة أعماقي الحزينة قويّة حتى اكتشفتني؟ أم أنّ واقعك كابن حركي جعلك تعرف الضحايا الآخرين للمستعمر و أتباعه؟

و بسمتك البيضاء ما زالت مرسومة على شفتيك أجبتني:

-ربّما واقعي كابن حركي هو الذي جعلني أكتشفك و أرغب أكثر في معرفة قصّتك.

-إنّها طويلة و...

قاطعتني:

-إذن يلزمنا أكثر من لقاء.

أسألك بنبرة حزينة:

-أيّها الشّقيُّ ماذا تريد أن تعرف؟ألا يكفيك ما عشتَ و ما تعيش؟ لماذا تريد أن تحفر في ذاكرة غيرك و أنت لم تشف بعد من ذاكرتك؟

تجيبني بعد صمت جُلتَ خلاله أرجاء المكان:

-إنّ الذاكرة التي تحملينها ليست ذاكرتك وحدك...إنّها ذاكرتنا جميعا...ذاكرة ذاك الوطن الذي يختفي وراء البحر......ذاكرة حرب شريفة و نزيهة أطاحت بالخونة قبل الأعداء... ذاكرة الجزائر و من حقّ الجميع أن يعرفها.


نعم محمّد...نعم يا من لقّبوك بابن الحركي...إنّ الذاكرة التي نحملها ذاكرة مشتركة تخضّبت بالدّم و القلوب التي في صدورنا تعيش على وقع الألم...الأولى ترفض أن تنام و ما بعدها لا تستطيع النسيان...إنّها بقايا الحروب التي أكرهها أشدّ الكره لأنّها لا تأت بغير الأحزان ..لأنّها لم توجد لغير معاداة الإنسانية و الكيان.

نعم محمّد...لك الحقّ في أن توقظ ذاكرتي التي هي في الأصل لم تنم...لعلّ التعبير الأصحّ هو أنّك زدتها لهيبا و جنونا ...زدتها شهوة في تقطيع آخر الشّرايين...لأنّك الماضي الذي يعيش الحاضر أو ربّما الحاضر الذي يحمل عاهة الماضي.


أحمل حقيبتي الصّغيرة و أقول لك باستسلام:

-نعم سيكون لنا أكثر من لقاء نرتشف فيه أحداث الماضي الموجعة تفاصيله.

سمعتني صديقتك الفرنسية كريستين أقول ذلك فقالت:

-أتسمع يا رضا؟هذه الجزائرية ستخطف منّا صديقنا محمّد...يجب أن نحتاط منها.

قلتَ لها حينها:

-الجزائري للجزائري.


لستُ أدري كيف تخيّلتك تقول لها:

-الدزيري لدزيري يا لالة.

تلك اللّهجة التي أشتاق لسماعها من يوم رحيلي...اشتقتُ إلى تلك البلاد و هوائها و أناسها الرّائعين الذين كلّما ازدادوا جنونا ازدادت روعتهم...اشتقتُ لكلمة *بزاف...علاه...واش راك*...اشتقتُ و لستُ أدري كيف أعبّر.


يسألني رضا:

-هل لنا أن نعرف اسمك الكامل.

أجيبه:

-فاطمة الزهراء قدادرة من ولاية باتنة الجزائرية.

يبتسم:

-ناس الشاوية...مرحبا بك.أنا رضا شابّي من الكاف التونسية إنّها حدودية مع بلادكم.

-أنا كريستين فرانسوا فرنسية من مرسيليا حيث أنت الآن لكن أقيم مع خالي بسانت تروبيز و كذلك مع محمّد.

-تشرّفت بمعرفتكم جميعا...الآن عليَّ أن أذهب على أمل أن ألقاكم مرّة أخرى.

تسألني باهتمام:

-ولقاؤنا؟متى يكون؟

-كدتُ أنسى.

ثمّ فتحتُ حقيبتي السّوداء و أخرجتُ منها رقم هاتفي:

-تفضّل...هذا رقم هاتفي...اتّصل بي عندما تكون مستعدّا لمقابلتي و غير مشغول.


أيُّ لقاء هذا الذي نجتهدُ لتجسيده؟...أيّ حفرة من الأسئلة نسعى للوقوع فيها؟...أذاكرتنا المشتركة تريد أن تزيد جنوننا أم أنّ هذه المدينة تريد أن تعمّق جراحنا؟...صراحة لم أكن أريد ذاك اللّقاء لولا أنّك كنت مصرّا فقد مللتُ الحديث و الالتفات إلى الوراء في كلّ مرّة ألتقي بها جزائريا أو متطوّعا في خدمة الجزائر المستعمَرة...مللت حقّا.

تتّصل بي ذات مساء بارد:

-هل لنا بلقاء بعد ساعة؟

أسألك:

-هكذا فجأة؟أنا لم أرتّب الذاكرة حتّى أروي تفاصيلها لك بمصداقية.

تضحك:

-ستترتّب من تلقاء نفسها...فقط قولي نعم و أعطيني عنوان المطعم الذي سنلتقي فيه.


-لكن...

-هل سنلتقي أم لا؟إن قلت لا أغضب منك.

أجيبك:

-نعم.


التقينا إذن في زاوية أحد مطاعم مارسيليا الباردة...أسألك:

-لماذا أنت مستعجل في لقائي؟

تجيبني:

-أخاف أن أعود إلى الجزائر دون ذاكرتك.

-هل سترجع إلى الجزائر؟

-هذا ما أريده الآن و سأستشير أصدقائي في ذلك.

أحمل كأس الماء ثمّ أضعه دون أن أشرب:

-جيّد أنّ لك أصدقاء تستشيرهم في الصّغيرة قبل الكبيرة.

-أليس لديك أصدقاء؟

أجيبك:

-كان لي صديق جزائري يعمل صحفيا في جريدة الخبر لكنّه توفّي مغتالا برصاصات الغدر...رحل و ترك في نفسي جرحا عميقا رفقة أصدقاء آخرين كعمر أورتيلان و...

-كثيرون فقدوا أحبّائهم في تلك البلاد.

تغزو الدّموع عينينا في حديث عن حبيبة اسمها الجزائر:

-صعب جدا أن أرى بلادي تتخبّط في دمائها و أنا أتفرّج من بعيد...أخجل من نفسي كهاربة من تهديد...أخجل بكياني.

تمسح دموعي:

-ما تبكيش يا بنت لبلاد...غدوة يتبدّل كلشي.

أبعد يديك:

-نعم سيتغيّر اقتصادنا و مظهر بلادنا لكن لن تتغيّر قلوبنا التي عاشت أشدّ الأزمات...لماذا شعب الجزائر بالتّحديد من يعاني؟ لماذا نحن بالذات...لماذا؟

-لا اعتراض على القدر يا فاطمة.

-اللّهم لا اعتراض.

أمسح دموعي رغبة في خوض حوار أحسن:

-لماذا أنت عصبي؟كنتَ ستلغي لقاءاتنا لمجرّد أن أرفض عرض اليوم.

-ببساطة لأنّي جزائري.

تضيف بعد شيء من الصّمت:

-أزماتنا هي التي علّمتنا أن نكون عصبيين و ذاك الحليب الذي رضعناه من عند أمّهاتنا كان قد اهتزّ من وقع الفجائع و ارتعب من مناظر دم الأحباب أمامه...لكن نبقى رغم كلّ شيء طيّبين في تعاملاتنا و الحمد لله....آه كدتُ أنسى نحن هنا من أجل قصّتك و ليس من أجل ندوة عن نفسية الجزائري.

-صحيح...و لكن من أين أبدأ؟

-من البداية.


أتكلّم بعد لحظات:

* قصّتي اكتشفتُ وقائعها في ليلة كليلتك التي عرفت فيها حقيقة والدك إلاّ أنّنا لا نتشابه...كنت أعيش مع أبي و أمّي أو المرأة التي ظننتها أمّي...كنّا نعيش بطريقة عادية إلى أن بلغت سنّ الخامسة عشر و في أمسية باردة كأمسية اليوم قال لي أبي بصوت منخفض:

-فاطمة...آن لك أن تعرفي الحقيقة.

اقتربتُ منه أسأله:

-حقيقة ماذا؟

أجاب بنبرة حزينة:

-إنّ الحروب يا ابنتي ليست صاحبة مبدأ و إنّما هي صاحبة هدف تريد تحقيقه دون مبالاة بما قد ينجرّ عن ظلمها و إنّ الجزائر أمّ لا يجب أن نفرّط فيها فذلك يعني التفريط في الدين و الكرامة و الجذور التي ننتمي إليها لذلك كان واجبا علينا أن نهب كلّ ما نملك لنحافظ على ثنائي الإسلام و الجزائر فمنا من بعث ابنه للجهاد و آخر كافح حتى بُترت قدمه و كثيرون قدّموا الأكثر و الأعزّ إلى ربّ العزّة و بلد العزّة.

سألتُه:

-و أنت ماذا قدّمت من أعزّ ما تملك؟

-ماذا قدّمت؟...أنا كافحتُ بالسّلاح في جبال الأوراس و...


ثمّ سكت عجزا عن الإكمال...حينها أدركت أنّ الحقيقة التي يجب أن أعرفها تكون بعد تلك الواو...

نظرتُ إليه أن أبي تكلّم.أن أبي أريد معرفة ما تخفيه...هربت عيناه مني كصغير يفرّ من توبيخ أمّه...هو يفرّ من توبيخي و توبيخ الأيّام و الزّمن و و و...تشجّع بعد جهاد مع الذات ثمّ قال:

-أنا قدّمتُ أمّك...لم أقدّمها بل هي التي قدّمت نفسها و كان واجبا عليّ أن أوافق فخسرتُها بذلك إلى الأبد.

-أبي كيف ذلك ؟أمي تعيش برفقتنا و هي الآن عند أهلها لأنّ والدتها مريضة.


يذرف الدّمع...كانت تلك المرّة الأولى التي أرى فيها رجلا يبكي:

-عائشة لا تكون أمّك.


تسمّرتُ في مكاني...أنتظر أن يوقظني أحد من الحلم...نعم،كنتُ أظنّه حلما فكلّ شيء قد حدث فجأة و دون تمهيد...


أكملَ:

-حدث اجتماع طارئ عام واحد و ستين،كان الهدف منه الإطاحة بأحد أكبر الحركيين الذي سرّب إلى فرنسا معلومات عن مخطّطات المجموعة الجهادية كونه كان أحدنا و له المكانة الأعلى بيننا...كان يجب أن نكتشف خباياه و نسايره حتى نطيح به لكن كيف؟

لم نجد حلاّ غير أن نزوّجه بما أنّه أعزب،لكن بمن؟ فعمليّة كهذه تحتاج إلى دقّة و ثقة.... أو يكون مصيرها الفشل.


فاجأتني أمّك عشيّة ذاك الاجتماع بقولها:

-سي الشريف...طلّقني.

كنتُ وقتها أنظّف سلاحي...وضعته بجانبي و قلتُ لها:

-ما هذا الكلام؟هل مللت العيش معي في الجبل؟ إن كان كذلك فمستعدّ لإرجاعك عند أهلك دون اللّجوء إلى الطّلاق.

أجابتني دون أن تنظر إلي:

-ليس هذا...ليس هذا...كلّ ما في الأمر أني.


-أنّك ماذا؟

تبكي:

-لماذا نحن هنا؟

أجيبها:

-الجزائر إسلامية...الجزائر جزائرية و لن تكون لغير الجزائريين.

-هل نختار الأهل أم الدين و الوطن و الكرامة؟

-الدين و الوطن و الكرامة طبعا.

-أيّهما أغلى الوطن أم أرواحنا؟

-الوطن.

ترفع رأسها و تبادلني نظرات عسلية:

-إذن من أجل الوطن سنفترق...أنا من ستتزوّج ذاك الحركي و من ستطيح به...لن تذهب دماء إخوتي هكذا دون عقاب.ذاك الحقير سينال جزاءه و على يديّ هاتين.

أمسكتُ يديها:

-أنت لست مضطرّة فلك بنت تحتاجك...سنجد له امرأة أخرى...قد تكون عائشة هي الأنسب لهذا العمل...هي لن ترفض.

-عائشة ستكون الأنسب لك و ليس لذاك الحقير...ستكون هي أمّ ابنتي.

ابتعدتُ عنها:

-سي الشريف طلّقني و اقتنعت بما طلبت...الآن سي الشريف تزوّج عائشة.هذا لن يحصل.إذا كان من أجل فاطمة فأنا مستعدّ لتربيتها.

-هل ستترك الجبهة من أجل فاطمة؟...هذا لن يحصل.ابنتي لن تعيش يتيمة و عائشة من ستكون أمّها،شئت أم أبيت.

تضيف بعد أن مسحت عبراتها المنهمرة:

-هذا هو قانون الحرب الذي علّمتني إيّاه،لا مكان للمشاعر.لا مع صديق و لا حبيب...ثمّ إنّه من غير المنطقيّ أن نزوّجه بعائشة.الجزائر لم تنجب الحسناوات لتُقدّمن كبش فدى للخونة...الجزائر أنجبتهنّ ليصنعن مجدها ببطولاتهن كلالة فاطمة نسومر و لتنجبن أبطالا كديدوش مراد و العربي بن مهيدي...أنجبتهنّ لذلك فقط.

-و أنت؟ألست امرأة؟ألست أمّا لها صغيرة تحتاجها؟

-أنا جنديّ له وطن يحتاجه...فقط.

-إذن اذهبي و عندما تنتهي المهمّة أتزوّجك من جديد و تنتهي الحكاية.

-إنّ الذي نريد الإطاحة به محميّ من طرف أكبر قوّة استعمارية اسمها فرنسا يعني أنّ نسبة النجاح تكاد تنعدم و نسبة وفاتي هي التي تطغى و حاجة الوطن إليك ستزداد مع التحرّكات الجديدة في مناطق البلاد ما سيجعلك تبتعد عن فاطمة و هو ما يخفيني.

-إذن أرسلها إلى أهلك.

تتأفّف و يطغى الغضب على وجهها:

-سي الشريف رجاء افعل ما أطلبه...مصير ما تبقى من خطط الجبهة بين يديك...إنّه مصير بلادك التي أنت هنا لأجلها.

أتّجه نحو الباب و قبل خروجي أقول لها:

-أنت طالق...افعلي ما تشائين.


كان أبي يسرد تفاصيل الفراق بغيظ كبير...إنّه ألم مفارقة المرأة الرّجل التي تحمّلت معه كلّ ويلات الحرب حين الحرّ و القرّ...حين الانتصار و الهزيمة...امرأة لا يعزّ عليها غير دينها و وطنها...امرأة هي في الأصل أمّي التي أحبّتني بطريقتها الخاصة...وهبتني أمّا أخرى لم تبخل عليًّ في شيء...أمّا أشكرها عليها شكرا كبيرا.


قاطعته...سألته سؤالا لم أكن قد خطّطتُ له قبلا:

-هل تحبّها أكثر من أمي عائشة؟

أجاب:

-بكثير و عائشة تعلم ذلك...إنّ نسيان امرأة كأمّك هو الشيء الأصعب في حياتي.


تسألُني كأنّك تريد تحريك أوتاري بأكثر مما تحرّكت:

-فاطمة...هل علمت بطريقة وفاة والدتك؟

أجيبك:

-لا...و لست أريد...أحبّ القصص التي تكون نهايتها مفتوحة.

تضيف سؤالا آخر:

-و هل لمت والدك لأنّه لم يخبرك بالقصّة قبلا؟

أجيبك:

-لا...بل إنّي فضّلت أن لا يخبرني بها فهي بالنّسبة لي حدث عادي أو ربّما نقطة مزعجة عكّرت حياتي.

متعجّبا:

-كيف ذلك؟...لعلّ ما قامت به أمّك أكبر شرف لك و لعائلتك و للمرأة الجزائرية عموما.

- أنا أخجل عندما أقول إنّ أمّي تزوّجت حركيا من أجل الوطن...تركتني من أجل الوطن...وهبتني أمّا أخرى من أجل الوطن...أنتم تستمتعون لقراءة بطولاتها و أنا أتألّم لأني لا أعرف عنها أكثر مما تعرفون...لأني لم أشرب من حنانها و روعتها مثلما شرب الوطن الذي سلبها مني...الجزائر حرمتني من أمي يا محمّد.

تبتسم:

-هل تغارين من الوطن؟

أجيبك باكية:

- أشعر أحيانا أنّ الجزائر أنانية بقدر جمالها...تنفرد بكلّ ما هو جميل في حياة الفرد البشري...لا تحبُّ أن نشاركها روعة ما تشتهي...تؤمن بالإنفراد لا غير.

-إنّ الجزائر لم تسلبك شيئا و إنّما الحرب هي التي فعلت ذلك...الجزائر تركت أبناءها أحرارا إنّ هم أرادوا الحفاظ عليها شكرت و إنّ هم أرادوا بيعها بكت دون أن تسمعهم...إنّها ترى سعادتهم في سعادتها.

-دعنا نخرج عن هذا الموضوع رجاء فذلك يزيدني حزنا...أنا ابتعدت عن الجزائر لأنسى لا لأتذكّر.

-ستنسين كلّ ما يخصّ الجزائر ما عدا ثورتها و ما خلّفت...مهما نسيت يأت يوم تقف فيه الوقائع أمامك تحكي لك عن ماضي يريد أن يعيش حاضرك.

-محمّد رجاء كفى...مللت.

-عليك أن تعودي إلى الجزائر...سنعود معا.

-لا...

-لماذا؟

-لأنّها لم تعد لي أمّي...أمّي التي حرمتني منها.

تمسك يدي:

-فاطمة...أنت لست صغيرة لتفكّري بهذه الطّريقة...أنت امرأة مثقّفة تعمل صحفية في إذاعة محترمة و توقن أنّ التّضحية واجبة في سبيل الوطن...أم أنّك لا تحبّين الجزائر و كنت تفكّرين في أن تكون أمّك حركية.

-لا...ليس هذا...أنا فقط مللت رؤية الدّم على أرضها...ستبقى روح أمي و عمر أورتيلان تجولان أمامي و أنا أخاف ذلك...أخاف.

-لا يجب أن تخافي فأنت في دارك...الجزائر لا تؤذي من تحبّ،تؤذي فقط أولئك الذين يعادونها.

-و هل سأقول لأمي أنّك أنجبت جبانة تهرب من تهديد الإرهاب؟هل سأقول لعمر أورتيلان أني خنت عهد المواجهة في الصّحافة و هربت؟

تبتسم:

-قولي لأمّك و عمر أورتيلان أنّك خرجت من الجزائر لتحضري لها خبرة سنوات لتثري رصيد المدرسة الجزائرية للصّحافة...قولي لهما أنّ الجهاد ليس بالسّلاح فقط...أورتيلان يعرف ذلك...الجهاد يكون بالقلم أيضا ضدّ كلّ من يعادي الإنسانية و حرّية المعتقد...أنت أيضا عانيت في فرنسا ألم الغربة و واجهت من يعادي حرب الجزائر و الإسلام في أكثر من مناسبة...أنت حملت هنا اسم الجزائر و قلت أنّك تخرّجت من مدرسة جزائرية...أنت وقفت في أروقة الإدارات بحجابك و إسلاميتك دون أن تخافي...بل بفخر كنت تقولين أنا جزائرية مسلمة.

* * *


تفجّرت في لقائنا ذاك ينابيع الدّموع كأنّنا ما زلنا نعيش الحرب و تفاصيلها...كنتَ تحسّ مثلما كنتُ أحسّ بألم العيش بعيدا عن وطن نحبّه حدّ التطرّف...كانت أوجاعك تستيقظ و أوجاعي أيضا.

إنّها الأوجاع القاتلة التي أورثنا إيّاها الماضي...إنّها فواصل حزن جزائرية و أوجاع ثورية ترفض أن تنام...إنّها الذاكرة عندما ترفض الدّخول في طيّ النّسيان.

من قال إنّ تفاصيل الألم قد انتهت عام اثنين و ستين تسع مئة و ألف قد أخطأ و من قال إنّ أجيال ما بعد الثّورة ستنسى ما فعلته فرنسا بالجزائريين أيضا قد أخطأ...ربّما قال ذلك و هو يحلم.

إنّ الماضي يبقى يرشقنا بحجارته و لو بعد قرون فالقرن الذي عاشته فرنسا بالجزائر لم يكن مجرّد نزهة بل كان دمارا أراد إذابة أحفاد طارق بن زياد و شيشناق الأمازيغي...ليس آباؤنا وحدهم من علّمونا حبّ الجزائر بل فرنسا أيضا شاركتهم ذلك دون قصد...لقد أنشأت أجيالا من المعاقين برقّان يموتون ليخلفهم جيل أكثر ألما و أكثر حزنا...فرنسا و غيرها لم يعلموا أنّ الجزائريّ إذا حرّضته ضدّ شيء يصبح عاشقا له أكثر،خاصّة الوطن و أنّ دمه السّاخن يصبح مغليّا إذا أحسّ بمحاولة غير بريئة للتقرّب من البلاد ثمّ امتلاكها.

عذرا فرنسا و عذرا أعداء الجزائر أنتم لا تعرفون طريقة تفكيرنا التي مازلنا نحن لم نعرف منهجيتها...ربّما كلّ ما نعرفه أنّ حبّنا لوطننا هو سلاحنا الذي لم يدخل في خانة المحظور بعد.

أنا لم أكره فرنسا يوما بل أحببتها كأيّ أرض أخرى...أنا كرهتُ فقط أولئك الذين دخلوا الجزائر بغية القتل و ليس السّكن...أولئك الذين أرادوا مسح الأرض بنا ثمّ رمينا جثثا لكلابهم...مخطئ من يقول أنّي أكره فرنسا أو أيّ بلد في العالم...أنا أكره المجرمين فقط حتى إن كانوا من بلدي..ليست بلاد العرب فقط أوطاني إنّما كلّ العالم هو وطني الذي أعشقه...أعشق البلدان باختلاف راياتها و دياناتها و ألوانها...أكره فقط أولئك الذي شوّهوا سمعتها و لم يعرفوا قيمتها...


أقول لك:

-لقاؤنا جعلني أكتشف كم أنا محتاجة للكلام.

تقول لي:

-.إنّنا نظنّ أحيانا بأنّ براكين الأحزان الثّورية في أعماقنا قد خمدت إلى الأبد لكنّنا نكتشف العكس عندما نرى الأحمر و الأبيض و الأخضر...عندما نرى من يتكلّم بذات لهجتنا في بلد لا يتكلّم لغتنا و لا يدين بديننا...يا لالّة.

06-12-10


bleh
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية djazayri
djazayri
مشرف
  • تاريخ التسجيل : 18-06-2009
  • الدولة : djazayri
  • المشاركات : 7,989
  • معدل تقييم المستوى :

    23

  • djazayri will become famous soon enoughdjazayri will become famous soon enough
الصورة الرمزية djazayri
djazayri
مشرف
رد: الذاكرة المجروجة
27-12-2011, 11:30 AM
ماشاء الله...
يبدو أن الأيام ستكشف لنا عن موهبة قصصية متميّزة وقلم سيّال...
أعجبتني قصّتُك وأسلوبك في نسج الحوار، أشجعك على المواصلة معنا...في إنتظار جديدك.
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية صفاء ص
صفاء ص
عضو فعال
  • تاريخ التسجيل : 31-08-2009
  • الدولة : الجزائر
  • العمر : 29
  • المشاركات : 103
  • معدل تقييم المستوى :

    15

  • صفاء ص is on a distinguished road
الصورة الرمزية صفاء ص
صفاء ص
عضو فعال
رد: الذاكرة المجروجة
27-12-2011, 11:34 AM
أخ Djazayri مرورك من هنا شرف لي و تعليقك تشجيع،أتمنّى أن أكون عند حسن الظن.شكرا لك
bleh
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية علي قوادري
علي قوادري
مشرف شرفي
  • تاريخ التسجيل : 30-07-2008
  • المشاركات : 4,559
  • معدل تقييم المستوى :

    20

  • علي قوادري is on a distinguished road
الصورة الرمزية علي قوادري
علي قوادري
مشرف شرفي
رد: الذاكرة المجروجة
27-12-2011, 12:23 PM
اهلا بالكاتبة صفاء صيد
قراتها من قبل لاادري من اين فموهبة كهذه لاتنسى ابدا..
نص مميز يتماهى ورائعة ذاكرة الجسد.
نثبتها حتى تجد حقها من القراءة ونتمنى ان نرى جديدك وتفاعلك مع الزملاء.
تقديري
الديمقراطيه الأمريكيه أشبه بحصان طرواده الحريه من الخارج ومليشيات الموت في الداخل... ولا يثق بأمريكا إلا مغفل ولا تمدح أمريكا إلا خادم لها !
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية صفاء ص
صفاء ص
عضو فعال
  • تاريخ التسجيل : 31-08-2009
  • الدولة : الجزائر
  • العمر : 29
  • المشاركات : 103
  • معدل تقييم المستوى :

    15

  • صفاء ص is on a distinguished road
الصورة الرمزية صفاء ص
صفاء ص
عضو فعال
رد: الذاكرة المجروجة
28-12-2011, 01:16 PM
الأستاذ علي قوادري،شكرا على مرورك و الشكر الأكبر على تثبيت الموضوع فهذه خطوة مشجعة حقا من طرفكم.شكرا
bleh
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية بـــروال آمـــال
بـــروال آمـــال
عضو متميز
  • تاريخ التسجيل : 02-02-2012
  • الدولة : باتنة/الجزائر
  • العمر : 28
  • المشاركات : 670
  • معدل تقييم المستوى :

    13

  • بـــروال آمـــال is on a distinguished road
الصورة الرمزية بـــروال آمـــال
بـــروال آمـــال
عضو متميز
رد: الذاكرة المجروجة
09-02-2012, 07:17 PM
بارك الله في هذا القلم المبدع الذي سيق إلينا

أخت صفاء ... روعة كلماتك جعلتني أذوب معها و أواصل القراءة و أنا أحاول التخمين ماالذي سيحدث

أرجو أن أقرأ لكِ المزيد من الإبداعات

في انتظار جديدك


  • ملف العضو
  • معلومات
سارة الحمبراوية
عضو فعال
  • تاريخ التسجيل : 24-02-2012
  • الدولة : عربية
  • المشاركات : 121
  • معدل تقييم المستوى :

    13

  • سارة الحمبراوية is on a distinguished road
سارة الحمبراوية
عضو فعال
رد: الذاكرة المجروجة
18-03-2012, 11:18 AM
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة صفاء ص مشاهدة المشاركة
<<<<<

مواعيد يدبّرها لنا القدر دون أن نعرف...مواعيد تجمعنا في لقاء مع الذاكرة...في لقاء مع الألم...تحت نغم جراح ترفض أن تندمل.

مواعيد يدبّرها لنا القدر في ديار المهجر...في مدينة غريبة تلبس الغرابة و تدين بها...في مدينة أنجبت من أحيانا و من قتلنا...في مدينة هي نواة ألمي و بسمتي...نواة ألمنا و بسمتنا معا...معا جميعا...مدينة جعلتنا أشقّاء أكثر من ذي قبل...مدينة علّمتنا البوح و البكاء و الحلم بعد أن وهبتنا الألم...مدينة وهبتني شرف اللّقاء بك لنصبح بعدها الأصدقاء الأشقّاء في ديار الغربة.


ما زلت أذكر عبارتك الأولى التي أسمعتني إياها في حفل أسميتُه *حفل الاعتراف*...كان في الأصل حفل توقيعك لروايتك

الدليل-:-la preuve المفرنسة

-لستُ أدري لماذا قد تقدم امرأة بمثل سنّك على اشتراء ذاكرة قد تكون ذاكرتها.

أجبتك مباشرة:

-إنّنا نقدم على شراء ذاكرة الآخرين لندثّر ذاكرتنا علّها تنام.

ابتسمتَ:

-أن تنام الذاكرة هو ضرب من الخيال أما أن نشفى منها فهو أمر واقعي.

-كيف ذلك؟

تجيبني:

-لكلّ شخص طبيب يقصده للشّفاء أمّا أنا فطبيبي هو القلم،أقصد الكتابة كونها وسيلة تفريغ بسيطة رغم عظمتها.



ذكّرتني حينها بقول روبرت ماك أحد قُوّاد أميركا في الحرب العالمية الثانية* لي ثقة في عظمة البساطة و بساطة العظمة...إنّ أبرز الشّخصيات الذين عرفتهم هم في غاية البساطة و التواضع و عدم الالتواء و لقد وجدتُ مرضى العظمة و النّفخة الكذابة قوما ضعفاء و أنانيين*


أترى وقعت أعيننا على نفس هذه العبارات التي عاشت؟...أمّ أنّ أبناء الحروب لهم لغة واحدة و عبارات مشتركة؟


ثمّ أضفتَ بعد أن لبّيتَ رغبة قارئ آخر:

-إنّ عظمة الأشياء تكمن في بساطتها إذن كلّما كان ألمك عظيما اختاري له الشيء الأبسط لقتله...خاصّة إذا كان ألم ثورة.

سألتُك بارتباك و بكلمات استعرتها من لغتك:

-هل رائحة أعماقي الحزينة قويّة حتى اكتشفتني؟ أم أنّ واقعك كابن حركي جعلك تعرف الضحايا الآخرين للمستعمر و أتباعه؟

و بسمتك البيضاء ما زالت مرسومة على شفتيك أجبتني:

-ربّما واقعي كابن حركي هو الذي جعلني أكتشفك و أرغب أكثر في معرفة قصّتك.

-إنّها طويلة و...

قاطعتني:

-إذن يلزمنا أكثر من لقاء.

أسألك بنبرة حزينة:

-أيّها الشّقيُّ ماذا تريد أن تعرف؟ألا يكفيك ما عشتَ و ما تعيش؟ لماذا تريد أن تحفر في ذاكرة غيرك و أنت لم تشف بعد من ذاكرتك؟

تجيبني بعد صمت جُلتَ خلاله أرجاء المكان:

-إنّ الذاكرة التي تحملينها ليست ذاكرتك وحدك...إنّها ذاكرتنا جميعا...ذاكرة ذاك الوطن الذي يختفي وراء البحر......ذاكرة حرب شريفة و نزيهة أطاحت بالخونة قبل الأعداء... ذاكرة الجزائر و من حقّ الجميع أن يعرفها.


نعم محمّد...نعم يا من لقّبوك بابن الحركي...إنّ الذاكرة التي نحملها ذاكرة مشتركة تخضّبت بالدّم و القلوب التي في صدورنا تعيش على وقع الألم...الأولى ترفض أن تنام و ما بعدها لا تستطيع النسيان...إنّها بقايا الحروب التي أكرهها أشدّ الكره لأنّها لا تأت بغير الأحزان ..لأنّها لم توجد لغير معاداة الإنسانية و الكيان.

نعم محمّد...لك الحقّ في أن توقظ ذاكرتي التي هي في الأصل لم تنم...لعلّ التعبير الأصحّ هو أنّك زدتها لهيبا و جنونا ...زدتها شهوة في تقطيع آخر الشّرايين...لأنّك الماضي الذي يعيش الحاضر أو ربّما الحاضر الذي يحمل عاهة الماضي.


أحمل حقيبتي الصّغيرة و أقول لك باستسلام:

-نعم سيكون لنا أكثر من لقاء نرتشف فيه أحداث الماضي الموجعة تفاصيله.

سمعتني صديقتك الفرنسية كريستين أقول ذلك فقالت:

-أتسمع يا رضا؟هذه الجزائرية ستخطف منّا صديقنا محمّد...يجب أن نحتاط منها.

قلتَ لها حينها:

-الجزائري للجزائري.


لستُ أدري كيف تخيّلتك تقول لها:

-الدزيري لدزيري يا لالة.

تلك اللّهجة التي أشتاق لسماعها من يوم رحيلي...اشتقتُ إلى تلك البلاد و هوائها و أناسها الرّائعين الذين كلّما ازدادوا جنونا ازدادت روعتهم...اشتقتُ لكلمة *بزاف...علاه...واش راك*...اشتقتُ و لستُ أدري كيف أعبّر.


يسألني رضا:

-هل لنا أن نعرف اسمك الكامل.

أجيبه:

-فاطمة الزهراء قدادرة من ولاية باتنة الجزائرية.

يبتسم:

-ناس الشاوية...مرحبا بك.أنا رضا شابّي من الكاف التونسية إنّها حدودية مع بلادكم.

-أنا كريستين فرانسوا فرنسية من مرسيليا حيث أنت الآن لكن أقيم مع خالي بسانت تروبيز و كذلك مع محمّد.

-تشرّفت بمعرفتكم جميعا...الآن عليَّ أن أذهب على أمل أن ألقاكم مرّة أخرى.

تسألني باهتمام:

-ولقاؤنا؟متى يكون؟

-كدتُ أنسى.

ثمّ فتحتُ حقيبتي السّوداء و أخرجتُ منها رقم هاتفي:

-تفضّل...هذا رقم هاتفي...اتّصل بي عندما تكون مستعدّا لمقابلتي و غير مشغول.


أيُّ لقاء هذا الذي نجتهدُ لتجسيده؟...أيّ حفرة من الأسئلة نسعى للوقوع فيها؟...أذاكرتنا المشتركة تريد أن تزيد جنوننا أم أنّ هذه المدينة تريد أن تعمّق جراحنا؟...صراحة لم أكن أريد ذاك اللّقاء لولا أنّك كنت مصرّا فقد مللتُ الحديث و الالتفات إلى الوراء في كلّ مرّة ألتقي بها جزائريا أو متطوّعا في خدمة الجزائر المستعمَرة...مللت حقّا.

تتّصل بي ذات مساء بارد:

-هل لنا بلقاء بعد ساعة؟

أسألك:

-هكذا فجأة؟أنا لم أرتّب الذاكرة حتّى أروي تفاصيلها لك بمصداقية.

تضحك:

-ستترتّب من تلقاء نفسها...فقط قولي نعم و أعطيني عنوان المطعم الذي سنلتقي فيه.



-لكن...

-هل سنلتقي أم لا؟إن قلت لا أغضب منك.

أجيبك:

-نعم.


التقينا إذن في زاوية أحد مطاعم مارسيليا الباردة...أسألك:

-لماذا أنت مستعجل في لقائي؟

تجيبني:

-أخاف أن أعود إلى الجزائر دون ذاكرتك.

-هل سترجع إلى الجزائر؟

-هذا ما أريده الآن و سأستشير أصدقائي في ذلك.

أحمل كأس الماء ثمّ أضعه دون أن أشرب:

-جيّد أنّ لك أصدقاء تستشيرهم في الصّغيرة قبل الكبيرة.

-أليس لديك أصدقاء؟

أجيبك:

-كان لي صديق جزائري يعمل صحفيا في جريدة الخبر لكنّه توفّي مغتالا برصاصات الغدر...رحل و ترك في نفسي جرحا عميقا رفقة أصدقاء آخرين كعمر أورتيلان و...

-كثيرون فقدوا أحبّائهم في تلك البلاد.

تغزو الدّموع عينينا في حديث عن حبيبة اسمها الجزائر:

-صعب جدا أن أرى بلادي تتخبّط في دمائها و أنا أتفرّج من بعيد...أخجل من نفسي كهاربة من تهديد...أخجل بكياني.

تمسح دموعي:

-ما تبكيش يا بنت لبلاد...غدوة يتبدّل كلشي.

أبعد يديك:

-نعم سيتغيّر اقتصادنا و مظهر بلادنا لكن لن تتغيّر قلوبنا التي عاشت أشدّ الأزمات...لماذا شعب الجزائر بالتّحديد من يعاني؟ لماذا نحن بالذات...لماذا؟

-لا اعتراض على القدر يا فاطمة.

-اللّهم لا اعتراض.

أمسح دموعي رغبة في خوض حوار أحسن:

-لماذا أنت عصبي؟كنتَ ستلغي لقاءاتنا لمجرّد أن أرفض عرض اليوم.

-ببساطة لأنّي جزائري.

تضيف بعد شيء من الصّمت:

-أزماتنا هي التي علّمتنا أن نكون عصبيين و ذاك الحليب الذي رضعناه من عند أمّهاتنا كان قد اهتزّ من وقع الفجائع و ارتعب من مناظر دم الأحباب أمامه...لكن نبقى رغم كلّ شيء طيّبين في تعاملاتنا و الحمد لله....آه كدتُ أنسى نحن هنا من أجل قصّتك و ليس من أجل ندوة عن نفسية الجزائري.

-صحيح...و لكن من أين أبدأ؟

-من البداية.


أتكلّم بعد لحظات:

* قصّتي اكتشفتُ وقائعها في ليلة كليلتك التي عرفت فيها حقيقة والدك إلاّ أنّنا لا نتشابه...كنت أعيش مع أبي و أمّي أو المرأة التي ظننتها أمّي...كنّا نعيش بطريقة عادية إلى أن بلغت سنّ الخامسة عشر و في أمسية باردة كأمسية اليوم قال لي أبي بصوت منخفض:

-فاطمة...آن لك أن تعرفي الحقيقة.

اقتربتُ منه أسأله:

-حقيقة ماذا؟

أجاب بنبرة حزينة:

-إنّ الحروب يا ابنتي ليست صاحبة مبدأ و إنّما هي صاحبة هدف تريد تحقيقه دون مبالاة بما قد ينجرّ عن ظلمها و إنّ الجزائر أمّ لا يجب أن نفرّط فيها فذلك يعني التفريط في الدين و الكرامة و الجذور التي ننتمي إليها لذلك كان واجبا علينا أن نهب كلّ ما نملك لنحافظ على ثنائي الإسلام و الجزائر فمنا من بعث ابنه للجهاد و آخر كافح حتى بُترت قدمه و كثيرون قدّموا الأكثر و الأعزّ إلى ربّ العزّة و بلد العزّة.

سألتُه:

-و أنت ماذا قدّمت من أعزّ ما تملك؟

-ماذا قدّمت؟...أنا كافحتُ بالسّلاح في جبال الأوراس و...


ثمّ سكت عجزا عن الإكمال...حينها أدركت أنّ الحقيقة التي يجب أن أعرفها تكون بعد تلك الواو...

نظرتُ إليه أن أبي تكلّم.أن أبي أريد معرفة ما تخفيه...هربت عيناه مني كصغير يفرّ من توبيخ أمّه...هو يفرّ من توبيخي و توبيخ الأيّام و الزّمن و و و...تشجّع بعد جهاد مع الذات ثمّ قال:

-أنا قدّمتُ أمّك...لم أقدّمها بل هي التي قدّمت نفسها و كان واجبا عليّ أن أوافق فخسرتُها بذلك إلى الأبد.

-أبي كيف ذلك ؟أمي تعيش برفقتنا و هي الآن عند أهلها لأنّ والدتها مريضة.


يذرف الدّمع...كانت تلك المرّة الأولى التي أرى فيها رجلا يبكي:

-عائشة لا تكون أمّك.


تسمّرتُ في مكاني...أنتظر أن يوقظني أحد من الحلم...نعم،كنتُ أظنّه حلما فكلّ شيء قد حدث فجأة و دون تمهيد...


أكملَ:

-حدث اجتماع طارئ عام واحد و ستين،كان الهدف منه الإطاحة بأحد أكبر الحركيين الذي سرّب إلى فرنسا معلومات عن مخطّطات المجموعة الجهادية كونه كان أحدنا و له المكانة الأعلى بيننا...كان يجب أن نكتشف خباياه و نسايره حتى نطيح به لكن كيف؟

لم نجد حلاّ غير أن نزوّجه بما أنّه أعزب،لكن بمن؟ فعمليّة كهذه تحتاج إلى دقّة و ثقة.... أو يكون مصيرها الفشل.


فاجأتني أمّك عشيّة ذاك الاجتماع بقولها:

-سي الشريف...طلّقني.

كنتُ وقتها أنظّف سلاحي...وضعته بجانبي و قلتُ لها:

-ما هذا الكلام؟هل مللت العيش معي في الجبل؟ إن كان كذلك فمستعدّ لإرجاعك عند أهلك دون اللّجوء إلى الطّلاق.

أجابتني دون أن تنظر إلي:

-ليس هذا...ليس هذا...كلّ ما في الأمر أني.



-أنّك ماذا؟

تبكي:

-لماذا نحن هنا؟

أجيبها:

-الجزائر إسلامية...الجزائر جزائرية و لن تكون لغير الجزائريين.

-هل نختار الأهل أم الدين و الوطن و الكرامة؟

-الدين و الوطن و الكرامة طبعا.

-أيّهما أغلى الوطن أم أرواحنا؟

-الوطن.

ترفع رأسها و تبادلني نظرات عسلية:

-إذن من أجل الوطن سنفترق...أنا من ستتزوّج ذاك الحركي و من ستطيح به...لن تذهب دماء إخوتي هكذا دون عقاب.ذاك الحقير سينال جزاءه و على يديّ هاتين.

أمسكتُ يديها:

-أنت لست مضطرّة فلك بنت تحتاجك...سنجد له امرأة أخرى...قد تكون عائشة هي الأنسب لهذا العمل...هي لن ترفض.

-عائشة ستكون الأنسب لك و ليس لذاك الحقير...ستكون هي أمّ ابنتي.

ابتعدتُ عنها:

-سي الشريف طلّقني و اقتنعت بما طلبت...الآن سي الشريف تزوّج عائشة.هذا لن يحصل.إذا كان من أجل فاطمة فأنا مستعدّ لتربيتها.

-هل ستترك الجبهة من أجل فاطمة؟...هذا لن يحصل.ابنتي لن تعيش يتيمة و عائشة من ستكون أمّها،شئت أم أبيت.

تضيف بعد أن مسحت عبراتها المنهمرة:

-هذا هو قانون الحرب الذي علّمتني إيّاه،لا مكان للمشاعر.لا مع صديق و لا حبيب...ثمّ إنّه من غير المنطقيّ أن نزوّجه بعائشة.الجزائر لم تنجب الحسناوات لتُقدّمن كبش فدى للخونة...الجزائر أنجبتهنّ ليصنعن مجدها ببطولاتهن كلالة فاطمة نسومر و لتنجبن أبطالا كديدوش مراد و العربي بن مهيدي...أنجبتهنّ لذلك فقط.

-و أنت؟ألست امرأة؟ألست أمّا لها صغيرة تحتاجها؟

-أنا جنديّ له وطن يحتاجه...فقط.

-إذن اذهبي و عندما تنتهي المهمّة أتزوّجك من جديد و تنتهي الحكاية.

-إنّ الذي نريد الإطاحة به محميّ من طرف أكبر قوّة استعمارية اسمها فرنسا يعني أنّ نسبة النجاح تكاد تنعدم و نسبة وفاتي هي التي تطغى و حاجة الوطن إليك ستزداد مع التحرّكات الجديدة في مناطق البلاد ما سيجعلك تبتعد عن فاطمة و هو ما يخفيني.

-إذن أرسلها إلى أهلك.

تتأفّف و يطغى الغضب على وجهها:

-سي الشريف رجاء افعل ما أطلبه...مصير ما تبقى من خطط الجبهة بين يديك...إنّه مصير بلادك التي أنت هنا لأجلها.

أتّجه نحو الباب و قبل خروجي أقول لها:

-أنت طالق...افعلي ما تشائين.


كان أبي يسرد تفاصيل الفراق بغيظ كبير...إنّه ألم مفارقة المرأة الرّجل التي تحمّلت معه كلّ ويلات الحرب حين الحرّ و القرّ...حين الانتصار و الهزيمة...امرأة لا يعزّ عليها غير دينها و وطنها...امرأة هي في الأصل أمّي التي أحبّتني بطريقتها الخاصة...وهبتني أمّا أخرى لم تبخل عليًّ في شيء...أمّا أشكرها عليها شكرا كبيرا.


قاطعته...سألته سؤالا لم أكن قد خطّطتُ له قبلا:

-هل تحبّها أكثر من أمي عائشة؟

أجاب:

-بكثير و عائشة تعلم ذلك...إنّ نسيان امرأة كأمّك هو الشيء الأصعب في حياتي.


تسألُني كأنّك تريد تحريك أوتاري بأكثر مما تحرّكت:

-فاطمة...هل علمت بطريقة وفاة والدتك؟

أجيبك:

-لا...و لست أريد...أحبّ القصص التي تكون نهايتها مفتوحة.

تضيف سؤالا آخر:

-و هل لمت والدك لأنّه لم يخبرك بالقصّة قبلا؟

أجيبك:

-لا...بل إنّي فضّلت أن لا يخبرني بها فهي بالنّسبة لي حدث عادي أو ربّما نقطة مزعجة عكّرت حياتي.

متعجّبا:

-كيف ذلك؟...لعلّ ما قامت به أمّك أكبر شرف لك و لعائلتك و للمرأة الجزائرية عموما.

- أنا أخجل عندما أقول إنّ أمّي تزوّجت حركيا من أجل الوطن...تركتني من أجل الوطن...وهبتني أمّا أخرى من أجل الوطن...أنتم تستمتعون لقراءة بطولاتها و أنا أتألّم لأني لا أعرف عنها أكثر مما تعرفون...لأني لم أشرب من حنانها و روعتها مثلما شرب الوطن الذي سلبها مني...الجزائر حرمتني من أمي يا محمّد.

تبتسم:

-هل تغارين من الوطن؟

أجيبك باكية:

- أشعر أحيانا أنّ الجزائر أنانية بقدر جمالها...تنفرد بكلّ ما هو جميل في حياة الفرد البشري...لا تحبُّ أن نشاركها روعة ما تشتهي...تؤمن بالإنفراد لا غير.

-إنّ الجزائر لم تسلبك شيئا و إنّما الحرب هي التي فعلت ذلك...الجزائر تركت أبناءها أحرارا إنّ هم أرادوا الحفاظ عليها شكرت و إنّ هم أرادوا بيعها بكت دون أن تسمعهم...إنّها ترى سعادتهم في سعادتها.

-دعنا نخرج عن هذا الموضوع رجاء فذلك يزيدني حزنا...أنا ابتعدت عن الجزائر لأنسى لا لأتذكّر.

-ستنسين كلّ ما يخصّ الجزائر ما عدا ثورتها و ما خلّفت...مهما نسيت يأت يوم تقف فيه الوقائع أمامك تحكي لك عن ماضي يريد أن يعيش حاضرك.

-محمّد رجاء كفى...مللت.

-عليك أن تعودي إلى الجزائر...سنعود معا.

-لا...

-لماذا؟

-لأنّها لم تعد لي أمّي...أمّي التي حرمتني منها.

تمسك يدي:

-فاطمة...أنت لست صغيرة لتفكّري بهذه الطّريقة...أنت امرأة مثقّفة تعمل صحفية في إذاعة محترمة و توقن أنّ التّضحية واجبة في سبيل الوطن...أم أنّك لا تحبّين الجزائر و كنت تفكّرين في أن تكون أمّك حركية.

-لا...ليس هذا...أنا فقط مللت رؤية الدّم على أرضها...ستبقى روح أمي و عمر أورتيلان تجولان أمامي و أنا أخاف ذلك...أخاف.

-لا يجب أن تخافي فأنت في دارك...الجزائر لا تؤذي من تحبّ،تؤذي فقط أولئك الذين يعادونها.

-و هل سأقول لأمي أنّك أنجبت جبانة تهرب من تهديد الإرهاب؟هل سأقول لعمر أورتيلان أني خنت عهد المواجهة في الصّحافة و هربت؟

تبتسم:

-قولي لأمّك و عمر أورتيلان أنّك خرجت من الجزائر لتحضري لها خبرة سنوات لتثري رصيد المدرسة الجزائرية للصّحافة...قولي لهما أنّ الجهاد ليس بالسّلاح فقط...أورتيلان يعرف ذلك...الجهاد يكون بالقلم أيضا ضدّ كلّ من يعادي الإنسانية و حرّية المعتقد...أنت أيضا عانيت في فرنسا ألم الغربة و واجهت من يعادي حرب الجزائر و الإسلام في أكثر من مناسبة...أنت حملت هنا اسم الجزائر و قلت أنّك تخرّجت من مدرسة جزائرية...أنت وقفت في أروقة الإدارات بحجابك و إسلاميتك دون أن تخافي...بل بفخر كنت تقولين أنا جزائرية مسلمة.

* * *


تفجّرت في لقائنا ذاك ينابيع الدّموع كأنّنا ما زلنا نعيش الحرب و تفاصيلها...كنتَ تحسّ مثلما كنتُ أحسّ بألم العيش بعيدا عن وطن نحبّه حدّ التطرّف...كانت أوجاعك تستيقظ و أوجاعي أيضا.

إنّها الأوجاع القاتلة التي أورثنا إيّاها الماضي...إنّها فواصل حزن جزائرية و أوجاع ثورية ترفض أن تنام...إنّها الذاكرة عندما ترفض الدّخول في طيّ النّسيان.

من قال إنّ تفاصيل الألم قد انتهت عام اثنين و ستين تسع مئة و ألف قد أخطأ و من قال إنّ أجيال ما بعد الثّورة ستنسى ما فعلته فرنسا بالجزائريين أيضا قد أخطأ...ربّما قال ذلك و هو يحلم.

إنّ الماضي يبقى يرشقنا بحجارته و لو بعد قرون فالقرن الذي عاشته فرنسا بالجزائر لم يكن مجرّد نزهة بل كان دمارا أراد إذابة أحفاد طارق بن زياد و شيشناق الأمازيغي...ليس آباؤنا وحدهم من علّمونا حبّ الجزائر بل فرنسا أيضا شاركتهم ذلك دون قصد...لقد أنشأت أجيالا من المعاقين برقّان يموتون ليخلفهم جيل أكثر ألما و أكثر حزنا...فرنسا و غيرها لم يعلموا أنّ الجزائريّ إذا حرّضته ضدّ شيء يصبح عاشقا له أكثر،خاصّة الوطن و أنّ دمه السّاخن يصبح مغليّا إذا أحسّ بمحاولة غير بريئة للتقرّب من البلاد ثمّ امتلاكها.

عذرا فرنسا و عذرا أعداء الجزائر أنتم لا تعرفون طريقة تفكيرنا التي مازلنا نحن لم نعرف منهجيتها...ربّما كلّ ما نعرفه أنّ حبّنا لوطننا هو سلاحنا الذي لم يدخل في خانة المحظور بعد.

أنا لم أكره فرنسا يوما بل أحببتها كأيّ أرض أخرى...أنا كرهتُ فقط أولئك الذين دخلوا الجزائر بغية القتل و ليس السّكن...أولئك الذين أرادوا مسح الأرض بنا ثمّ رمينا جثثا لكلابهم...مخطئ من يقول أنّي أكره فرنسا أو أيّ بلد في العالم...أنا أكره المجرمين فقط حتى إن كانوا من بلدي..ليست بلاد العرب فقط أوطاني إنّما كلّ العالم هو وطني الذي أعشقه...أعشق البلدان باختلاف راياتها و دياناتها و ألوانها...أكره فقط أولئك الذي شوّهوا سمعتها و لم يعرفوا قيمتها...


أقول لك:

-لقاؤنا جعلني أكتشف كم أنا محتاجة للكلام.

تقول لي:

-.إنّنا نظنّ أحيانا بأنّ براكين الأحزان الثّورية في أعماقنا قد خمدت إلى الأبد لكنّنا نكتشف العكس عندما نرى الأحمر و الأبيض و الأخضر...عندما نرى من يتكلّم بذات لهجتنا في بلد لا يتكلّم لغتنا و لا يدين بديننا...يا لالّة.

06-12-10

ما اروع قلمك اختي لم احس بالملل ابدا وانا اقراها بل كنت جد مستمتعة
امتعينا اختاه بقلمك
مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 


الساعة الآن 10:42 AM.
Powered by vBulletin
قوانين المنتدى