سمرقند المسلسل الحقيقي (03) آخر فصل
28-06-2016, 01:35 PM
هذا آخر فصل من القصة التي زينت صدر تاريخ الأمة الإسلامية، قراءة شيقة:

روابط الأجزاء السابقة:
http://montada.echoroukonline.com/showthread.php?t=345821
http://montada.echoroukonline.com/sh...37#post2143337

... فعاد السمرقندي، فلما دنا من الدار سمع ضجة ورأى ولدين قد شج أحدهما الآخر شجة منكرة، ورأى الخليفة يخرج بنفسه فيأخذ الولدين، فيراه فيسأله، فيقول: إني متظلّم يا أمير المؤمنين. فيقول له: مكانَك حتى أعود إليك.

ويدخل بالغلامين، ويسمع السمرقندي صوت امرأة تصرخ: «ابني»، فيعلم أنها أم الوليد المشجوج، وتدخل الدار مُرَيْئة (1) فترى الولد الآخر فتقول: «ابني». ويسمع القصة فيعلم أن ابن أمير المؤمنين قد خرج يلعب مع الغلمان فشجّه ابن هذه المرأة، وتقول المرأة: ارحموه، إنه يتيم فقير! ويرق قلب السمرقندي ويشفق على هذه المرأة أن تُضرب عنق ابنها أمامها وهو طفل لا ذنب له ولا يُسأل عن فعلته، وإذا بأمير المؤمنين يقول لها: أما له من عطاء؟ فتقول: لا. فيقول: سنكتبه في الذرية.

وتخرج المرأة شاكرة داعية، ويسمع السمرقندي فاطمة بنت عبد الملك تقول مُغضَبة: فعل الله به وفعل إن لم يشجه مرة أخرى. فيقول الخليفة: إنكم أفزعتموه (2).

وخرج الخليفة فدعاه فسأله عن حاله، فشكا إليه قتيبة وأنه دخل سمرقند غدراً من غير دعوة إلى الإسلام ولا منابذة ولا إعلان. فقال الخليفة: والله ما أمرَنا نبيُّنا بالظلم ولا أجازه لنا، وإن الله أوجب علينا العدل في المسلمين وغير المسلمين. يا غلام ... قلماً وقرطاساً.

فجاءه الغلام بورقة قدر أصبعين، فكتب عليها أسطراً وختمها وقال له: خذها إلى عامل البلد!

ورجع يطوي هذه الشقّة مرة ثانية، وكلما وصل إلى بلد دخل المسجد فوقف في الصف، كتفه إلى كتف أخ له في الإسلام ووجهته وجهتُه، وفي قلبه إيمانه وعلى لسانه تسبيحاته وتكبيراته ... أحس أنه عضو في هذه الجمعية الكبرى، وأدرك عظمة هذا الدين وحلاوته إذ يؤم المصلين واحد منهم، فلا قساوسة ولا كهّان، ويصلون في كل أرض، فلا معابد ولا تماثيل، ويقفون جميعاً صفاً واحداً، فلا كبير ولا صغير ولا مأمور ولا أمير. وشعر بعظم هذه الدائرة التي تطيف من حول الكعبة تمر على السهل والحزن، والعامر والغامر، والمدينة والقرية، يقوم فيها عبادٌ لله هم رهبان في الليل وجِنٌّ في النهار، خاشعة قلوبهم، وأبصارهم وجوارحهم، يقفون أمام رب العالمين فلا يبالون الدنيا كلها، بلذائذها وآلامها وخيرها وشرها.

ولم تثقل عليه هذه المرة سعة دنيا الإسلام لأنها صارت دنياه، ولم يجد لهذه السفرة مشقة ولا تعباً لأنه كان كلما انقضت الصلاة وجد في المسجد (في كل بلد يمر عليه) مَن يسأله عن حاله، فإذا علم أنه غريب أنزله داره، وقدّم له قِراه، ومنحه عونه، فكان يقابل بين مجيئه كافراً وبين عودته مسلماً، وكيف كان يشعر بطول الشُّقة وبعد الطريق وألم الغربة، فصار يتقلّب في النعيم ويُحمَل على أكف الإخوان، فيدرك سر المسجد وجمال هذا الدين!

ووصل إلى المعبد، ولكنها لم ترعه - هذه المرة - تماثيله ولا مصابيحه، ولم يمتلئ قلبه فَرَقاً من أسراره وخفاياه؛ فقد أضاء له الإسلام ظلمة الحياة فرأى حقائقها من أوهامها، وعلم أن هذه الأصنام التي نحتوها بأيديهم وسموها آلهة لا تنفع ولا تضر، ولا تمنع عن نفسها ضربة الفأس ولا لهب النار. ولكنه كتم إسلامه، وقرع الباب قرعة السر ففُتح له، ورآه الكهنة بعد أن حسبوا أنهم لن يروه أبداً، ووصف لهم ما رأى فكادت أعينهم تخرج من حناجرهم دهشة وأيقنوا أن قد جاءهم الفرج، وأمروه فحمل الكتاب مختوماً إلى العامل فإذا فيه أمر الخليفة بأن ينصب قاضياً يحتكم إليه كهنة سمرقند وخليفة قتيبة، فما قضى به نفذ قضاؤه.

وأطاع العامل ونصب لهم قاضياً، جميعَ بنَ حاضر الباجي، وعين موعد المحاكمة. ولما عاد فأخبر الكاهن الأكبر أظلم وجهه بعد إشراقه، كما ترْبَدّ في سماء النهار الصحو السحبُ السود، وخبا ضياء الأمل الذي بدا له فحسبه فجراً صادقاً فإذا هو برق خُلَّب (3) ... وأيقن أن هذه المحاكمة فصل جديد من كتاب غدر المسلمين.

وجاء اليوم الموعود، واحتشد أهل سمرقند من كل قاصٍ منها ودانٍ، وجاء الكهنة الذين كانوا محتجبين لا يراهم أحد، وجاء القائد الفاتح الذي خلف قتيبة. وكانت المحكمة في المسجد، فقعدوا ينتظرون القاضي.

ولم يكن الكهنة يأمُلون في شيء ... وفيمَ يأمُلون؟ في أن يحكم لهم القاضي المسلم بطرد المسلمين من سمرقند؟ يحكم لهم هم المغلوبين على أمرهم، المخالفين للقاضي في دينه، الذين لم يبق لهم حول ولا طول؟ وعلى من يحكم؟ على خلفاء القائد المظفر الفاتح الذي لم يطأ أرضَ المشرق قائدٌ أعظم منه، ولا أكثر ظفراً، ولا أعظم فتحاً، إسكندر العرب: قتيبة؟

كانت القلوب تخفق ارتقاباً لأعجب محاكمة سمعت بها أذنا التاريخ، وكانت الأبصار شاخصة إلى باب المسجد الذي يدخل منه القاضي الفرد الذي وُضعت في عنقه أعظم أمانة وُضعت في عنق قاض، والذي أُلقي بين حجرَي الرحى؛ فها هنا مصلحة أمته وسيادة دولته والبلد العظيم الذي خفقت فوقه راية الإسلام وامتلكه أهله، وهناك الحق والشرف. وإنها لمزلة أقدام القضاة، وإنها لمحنة الضمائر.

وكان صاحبنا السمرقندي يقرأ الشك والارتياب في وجوه أهل بلده وفي أوجه الكهنة كما يقرأ المرء في صحيفة منشورة أمامه. أما هو وأما المسلمون فلم يكونوا يشكّون، ولم تكن تُداخلهم ريبة في أن الحق والشرف فوق مصلحة الوطن، وما الوطن؟ إن وطن المسلم دينه؛ فحيثما صاح المؤذن: «الله أكبر» فثمة وطنه. وإن جهاده للحق، فإن جاء الحق زهق معه كل باطل، ولو كان فيه نفع الأمة وكان فيه الغُنم الأكبر.
ونظروا فإذا رجل له هيئة الأعراب، هزيل، ضئيل الجسم، شاحب اللون، قد لاث على رأسه عمامة له ووراءه غلام. فجاء حتى قعد على الأرض محتبياً، وقام غلامه على رأسه.

أهذا هو الرجل الذي أتى ليحكم على خليفة قتيبة العظيم، وعلى أميره، وعلى مصلحة دولته؟ أهذا هو قاضي المسلمين؟ وانطفأت آخر شعاعة من الأمل في نفوس الكهنة.

ونادى الغلام باسم الأمير، وهكذا بلا إمارة ولا لقب، فجاء حتى جلس بين يديه، ونادى باسم كبير الكهنة فأجلسه إلى جانبه.

وابتدأت المحاكمة ...

وتكلم القاضي فإذا صوته يخرج خافتاً ضعيفاً، فقال للكاهن: ما تقول؟

قال: إن القائد المبجل قتيبة بن مسلم قد دخل بلدنا غدراً من غير منابذة ولا دعوة إلى الإسلام.

قال القاضي للأمير: ما تقول؟

قال: أصلح الله القاضي. إن الحرب خدعة، وهذا بلد عظيم قد أنقذه الله بنا من الكفر وأورثه المسلمين.

قال: أدعوتم أهله إلى الإسلام، ثم إلى الجزية، ثم إلى القتال؟

قال: لا.

قال: إنك قد أقررت. وإن الله ما نصر هذه الأمة إلا باتباع الدين واجتناب الغدر، وإنّا والله ما خرجنا من بيوتنا إلا جهاداً في سبيل الله؛ ما خرجنا لنملك الأرض ولا لنعلو فيها بغير الحق. حكمتُ بأن يخرج المسلمون من البلد ويردوه إلى أهله، ثم يدعوهم وينابذوهم ويعلنوا الحرب عليهم (4).

ورأى الكهنة وأهل سمرقند وسمعوا، ولكنهم كذّبوا عيونهم وآذانهم، وظنوا أنهم في حلم، ولبثوا شاخصين. حتى إن أكثرهم لم يلحظ أن المحاكمة قد انتهت، وأن القاضي والأمير قد انصرفا. وجعل صاحبنا السمرقندي المسلم ينظر في وجه الكاهن الأكبر، فيحس أن نور الحق قد أشرق على قلبه الذي رققته العزلة والتأمل.

وكان الكاهن ينظر إلى عالمه الذي طالما أحبه وآثره فيراه عالماً ضيقاً مقفراً، وينظر إلى دنيا الإسلام فإذا هي خصبة واسعة مزهرة بالخير والعدل والجمال. وما عالمه؟ فجوة معتمة وسط الصخر الأصمّ لا يبلغها شعاع الشمس ولا ضياء القمر، ولا زهر الربيع ولا جمال المجد ولا جلال الإيمان.

وسطع النور في قلبه فرأى أن ديانته كهذا المعبد، فأين هذا المعبد من معبد الإسلام، وهو الأرض الطهور التي تمتد حتى تصل إلى بلاد ما سمع بها؟

أين ضيقه من سعتها؟

أين ظلمته من نورها؟

أين سقفه الواطي من سمائها العالية؟

إنه ألحد في دينه وخرج من المعبد (وقد حُرِّم عليه الخروج منه)، فلن يعود إليه أبداً.

أيعود الجنين إلى بطن أمه بعدما رأى بياض النهار ورحب الكون؟

أيعبد مرة ثانية تلك الآلهة ذوات الوجه البشع المخيف بعدما عرف رب الأرباب وخالق كل شيء؟

لا.

لقد ماتت ديانة المعبد ومرت أيامها، فهل لما مر مآب؟

هل يعود أمس الغابر؟

ومرّت ساعات، وإذا الجو يموج بصليل الأبواق ويرتجف من إرعاد الطبول، ونظر فإذا الرايات تلوح على حواشي الأفق القريب، فسأل: ما هذا؟

قالوا: لقد نُفِّذ الحكم وانسحب الجيش.

هذا الجيش الذي لم يقف في وجهه شيء من مدينة يثرب إلى سمرقند، والذي اكتسح جيوش كسرى وقيصر وخاقان، ردته كلمة من شيخ هزيل خافت الصوت، ليس معه إلا غلام، بعد محاكمة لم تستمر إلا دقائق. ولكنه سينذر وسيعود إلى القتال، أفتقوى سمرقند على ما عجزت عنه الممالك كلها؟

أترد صخورُ هذا المعبد سيلَ الحق الدافق وتأكل ظلمته نور الإسلام؟

لا؛ لقد قضى الله أن يمحو الفجرُ سُدْفةَ (5) الليل. لقد أطل على العالم يومٌ جديد، فلن نتوارى من نور هذا اليوم في ظلمة المعبد.

وأقبل يسأله أصحابه: ماذا تقولون؟

فيقول السمرقندي المسلم: أمّا أنا فلقد شهدت أنه لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله.

فيقول الكاهن: وأنا أشهد.

وتتزلزل سمرقند بالتكبير، ويعود الجيش المسلم إلى البلد المسلم؛ لم يبقَ حاكم ولا محكوم، ولا غالب ولا مغلوب. صار الجميع إخواناً في الله؛ لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لقوي على ضعيف، إلا بالتقوى والصلاح وخِلال الخير.

ودخلت سمرقند كلها في الإسلام، فلن تخرج منه أبداً.
انتهى.


---------------------------------------------------------------------------------------
(1) تصغير امرأة.
(2) سيرة عمر لابن الجوزي (طبع خالي محب الدين الخطيب سنة 1331)، ص 176.
(3) الخُلّب: السحاب يومض برقه حتى يُرجى مطره، ثم يُخلف ويتقشّع. ويقال: «برق خُلّبٌ» ويشبَّه به من يعد ولا ينجز (مجاهد).
(4) كذلك، لا كما صنعت لجنة التحقيق التي اختاروا رجالها من أكابر قضاة إنكلترا وأميركا، وائتمنوها على شرف القضاء السكسوني (الذي كان الجَهَلة منا يضربون بعدله الأمثال) وبعثوها تدور البلاد، تسأل كل رائح وغاد: هل فلسطين حق لأصحابها الذين يسكنونها أم هي حق لجماعة اللصوص الذين جاؤوا يسرقون البيوت من أصحابها؟ فدارت حتى دير بها، وصعدت إلى السماء، ونزلت إلى الأرض، وبحثت ونقبت، فظهر لها أن الحق مع اللص؛ فحكمت بطرد صاحب الدار منها ليدخلها اللص ويقيم فيها!
(5) السّدْفة (بضم السين وفتحها): الظلمة، أو هي اختلاط الضوء والظلمة معاً، كوقت ما بين طلوع الفجر إلى الإسفار (مجاهد).