وقفة مع بعض مظاهر الخلل في منهج التلقي
19-02-2009, 08:30 AM

الخلل في منهج التلقي من الأمور الخطيرة في الأمة إذ أن هذا الخلل يعد من الأسباب الرئيسة التي أدت إلى افتراق الأمة وتشرذمها
هذا الخلل في منهج التلقي له مظاهر عديدة يجب التنبيه عليها حذرا من الوقوع فيها ودعوة لضرورة اجتنابها والعمل على تلافيها

فمن مظاهر هذا الخلل في منهج التلقي التي يتبين بها المقصود :

أولاً: أخذ العلم عن غير أهله :

وأقصد بذلك أن الناس صاروا يأخذون العلم عن كل من دعاهم إلى التعلم ، وكل من رفع فوق رأسه راية الدعوة ، وقال أنا داعية ، جعلوه إمامًا في الدين ، وتلقوا عنه ، وقد لا يفقه من الدين شيئًا ، فلذلك ظهرت في العالم الإسلامي دعوات كبرى ، ينضوي تحت لوائها الفئام من الناس خاصة الشباب ، وقادتها ورؤساؤها جهلة في بديهيات الدين ، فيفتون بغير علم ، ويَضلون ويُضلون ، وسبب ذلك أنهم وجدوا أتباعًا لهم يأخذون عنهم دون تروٍّ ، دون تثبت ، دون منهج صحيح سليم ، ولا يتثبتون من حال القادة في كونهم أهلٌ لأخذ الدين أو التلقي عنهم ، ثم إن كثيرًا من الناس تجذبهم العواطف أكثر مما يجذبهم العلم والفقه ، وهذا خطأ فادح ، بمعنى أنه بمجرد أن يظهر داعية له شهرة وأثر في ناحية ما ، يجعله الناس إمامًا في الدين ، حتى لو لم يكن يعلم من السنة والفقه شيئًا ، وهذا مصداق قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - : (( إن الله لا ينتزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعًا ، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم ، فيبقى ناسٌ جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيَضلون ويُضلون )) .

ولا ينبغي أن يتصدر الدعوة إلى الله ، ولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا العلماء الأجلاء ، الذين يفقهون الدين ، ويأخذون عن أصوله ، على منهج سليم صحيح ، وإلا فليس كل من حُشي ذهنه بالمعلومات الثقافية والأفكار يكون إمامًا في الدين ؛ لأنه قد يوجد من الفسقة بل من الكفرة من يعلم من فرعيات الدين الشيء الكثير ، وقد وُجد من المستشرقين من يحفظ بعض الكتب الكبيرة في الفقه الإسلامي ، بل حتى منهم من يحفظ القرآن ، ويحفظ صحيح البخاري ، ويحفظ بعض السنن ونحو ذلك ، فهذا الصنف يحفظ العلم لكن لا يفقه من الدين شيئًا ، وكذا بعض من يدعي الإسلام ، قد يكون عنده من المعلومات الشيء الكثير ، لكن لا يفقه منهج التلقي والعمل والتعامل والتزام السنة ، ولم يأخذ الدين على منهجه الصحيح ، وعلى العلماء الربانيين ، فصار يفتي بغير علم ، ويوجه بلا فقه ، ويجمع بلا عقيدة سليمة


ثانيا: ومن مظاهر الخلل في منهج التلقي وهو سببٌ للافتراق : الاستقلالية عن العلماء والأئمة، أي استقلالية بعض المتعلمين وبعض الدعاة وبعض الأحداث عن العلماء ، فيكتفون بأخذ العلم عن الكتاب والشريط والمجلة والوسيلة ، ويعزفون عن التلقي عن العلماء ، وهذا منهج خطير ، بل هو بذرة خطيرة للافتراق ، ولو رجعنا إلى أسباب الافتراق في أول تاريخ الإسلام ، كافتراق الخوارج والرافضة ، لوجدنا أن من أهم أسباب وجود هذا الافتراق عند من ينتسبون للإسلام ، لا أقصد أصحاب الأغراض أو المنافقين أو الزنادقة ، لكن ممن ينتسبون للإسلام ، أعظم أسباب هلاكهم وافتراقهم ، استقلاليتهم وانعزالهم عن الصحابة ، واستهانتهم بهم ، وترك أخذ الدين عنهم ، وأخذهم العلم عن أنفسهم وعن بعضهم ، قالوا : علمنا القرآن ، وعلمنا السنة ، فلسنا بحاجة إلى الرجال ، يعنون علماء الصحابة والتابعين . فمن هنا استقلوا وخرجوا عن منهج التلقي الصحيح ، وعن سبيل المؤمنين المأخوذ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقدوة والاهتداء ، والذي أخذه التابعون عن الصحابة بهذا الطريق ، ثم عنهم السلف بهذا الطريق يأخذه الأئمة العدول جيلاً بعد جيل .
كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ))
والعدول هم الحفاظ الثقات ، الذين يأخذون الدين عن أئمته ، ثم ينقلونه إلى الآخرين .

فالاستقلالية عن العلماء خطر كبير جدًا ؛ لأن العلم إنما تكون بركته وتلقيه الصحيح عن العلماء ، والعلماء لا يمكن أن ينقطعوا في أي زمان .

ودعوى بعض الناس أن في العلماء نقصًا وتقصيرًا ، دعوى مضللة ، نعم العلماء بشر ، لا يخلون من نقص وتقصير ، لكنهم مع ذلك في جملتهم هم القدوة ، وهم الحجة ، وهم الذين جعل الله الديـن يؤخذ عن طريقهم ، وهم أهل الذكر ، وهم الراسخون ، وهم أئمة الهدى ، وهم المؤمنون الذين من تخلف عن سبيلهم هلك ، وهم الجماعة ومن فارقهم هلك ، وتلقي العلم من غير أهله خطر على أصحابه ، وعلى الأمة .


ثالثا: من مظاهر الخلل عند بعض المتعالمين والدعاة : ازدراء العلماء واحتقارهم والتعالي عليهم ، وهذه مظاهر شاذة مع الأسف بدأنا نرى نماذج منها ، وهذا أمر مقلق ، يجب أن نتناصح فيه ، وما لم يعالجه طلاب العلم والعلماء فالأمر خطير .


رابعاً: تتلمذ الأحداث أي صغار السن على بعضهم ، أو على طلاب العلم الذين هم دون من هم أعلم منهم ، بمعنى التتلمذ الكامل وترك المشايخ الكبار والانقطاع عنهم ، ولا أقصد بذلك أنه لا يجوز أخذ العلم عن أي طالب علم ، بل من أجاد أي علم من العلوم الشرعية وكان صالحًا أخِذَ عنه ، لكن لا يعني الاستغناء به عمن هو أعلم منه ، أو الانقطاع إليه وترك المشايخ الكبار ، وهذا هو مكمن الانحراف ، أي أن يستغني بعض الشباب في أخذ علمه وقدوته ودعوته وسلوكه وهديه ببعض طلاب العلم عـن العلماء الذين هم أجل وأكبر وأعلم ، وهذا مسلك خطير ، بل أخطر منه أن يكون الصغار بعضهم شيوخًا لبعض في العلم ، ولا أقصد بذلك عدم جواز المجالسة والمخالطة والمشاركة في الدعوة إلى الله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن هذا أمر مطلوب ، والاجتماع على ذلك مطلب شرعي ضروري ، لكن أقصد أن تلقي العلم بهذه الطريقة الخاطئة ، والاستغناء بها عن أخذه عن هؤلاء العلماء ، من سمات أهل الفرق والأهواء ، وهذا مسلك خطير ، وهو من أبرز أسباب وجود الافتراق ؛ لأن هذا يؤدي إلى حصر أخذ الدين عن أناس معينين ، والتحزب لهم، والتعصب لهم ، لا سيما وهم قد لا تتوفر فيهم صفات العالم القدوة ، ومن ثم تكون هذه بذورًا للافتراق .

خامسا: من مظاهر الخلل الذي يعد من أسباب الافتراق : اعتبار اتباع الأئمة على هدى وبصيرة تقليدًا : وهذه شنشنة نسمعها كثيرًا من بعض المتعالمين ، فيقولون : إن اتباع المشايخ تقليد ، والتقليد لا يجوز في الدين ، وهم رجال ونحن رجال ، وعلينا أن نجتهد كما اجتهدوا ، ونحن نملك الوسائل والكتب ، والآن توفرت وسائل العلم، فما لنا وأخذ العلم عن العلماء ، بل أخذ العلم عن العلماء تقليد والتقليد باطل .

نعم ، التقليد باطل ، لكن ما مفهوم التقليد ؟ هناك فرق بين التقليد وبين الاتباع والاهتداء ، الاتباع واجب شرعًا ، وعامة المسلمين بل كثير من طلاب العلم لا يجيدون ممارسة الاجتهاد أو أخذ أصول العلم عن الطريقة الصحيحة ، فممن يأخذون العلم ؟ وكيف يأخذون أصول التلقي ومنهج السنة ومنهج السلف الصالح ومنهج الأئمة ؟ لا يمكن أن يأخذوه إلا باتباع العلماء ، والاتباع ليس بتقليد ، وإلا فهذا يعني أن كل إنسان هو إمام نفسه ، ومن هنا يكون كل إنسان فرقة ، وتكون الفرق بعدد الناس ، وهذا باطل قطعًا ، إذًا اتباع الأئمة على هدى وبصيرة ليس بتقليد ، إنما الاتباع الأعمى هو التقليد ؛ لأن الله تعالى يقول : } فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون { .


سادسا: ومن المظاهر الخطيرة التمشيخ ، أو التتلمذ على مجرد الوسائل ، وهو أن يكتفي طالب العلم بأخذ العلم عن الكتب وينطوي وينعزل عن الناس ، وينعزل عن أهل العلم ، عن أهل الخير ، وأهل الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعن العلماء ، ويقول : أنا أتلقى العلم عن الكتب وعن الوسائل ، ولدي الشريط ، والكتاب والإذاعة ... إلخ ، من الوسائل المقروءة والمسموعة ثم يقول : أنا بإمكاني أن أتعلم هذه الوسائل .

أقول : لا شك أن هذه الوسائل نعمة ، لكنها أيضًا سلاح ذو حدين ، فالاكتفاء بأخذ العلوم الشرعية عنها إنما هو مسلك زلل ، وهو من أسباب الافتراق ؛ لأن هذا ينمي العزلة المحرمة ، أو يُوجدُ أشخاصًا صورًا ممسوخة لأهل العلم ، يأخذون العلم على غير أصوله ، وعلى غير قواعده ، بغير اهتداء وبغير اقتداء ، ويأخذون العلم بمشاربهم هم ، وبأهوائهم ، وبأمزجتهم ، وبأحكامهم المفردة ، فإذا ظهرت الأحداث والفتن شذوا عن العلماء ، وازدروا آراءهم ، والإنسان مهما بلغ من الذكاء والقدرة والتأهل للعلم ، فإنه وحده لا يستطيع في كثير من الأمور أن يصل إلى الحق ما لم يعرف ما عليه السلف وما عليه أهل العلم في وقته ، ويعالج قضايا العلم وقضايا الأمة والأحداث مع العلماء فإنه إن لم يفعل ذلك فقد يَهلك ويُهلك .

بل إن الوسائل هذه أوجدت عندنا صورًا ممسوخة لمن يسمون بالمثقفين ، وعندهم من المعلومات ما يعجب الناس ويبهرهم لكنهم لا يقرون بأصل ، ولا يفهمون منهج السلف ، ويجدون من يقتدي بهم بغير علم ، وهذا الأمر أو هذه الظاهرة كثرت بشكل مزعج ، حتى وجد من هذا الصنف أناس يتصدرون الدعوة إلى الله ، وتوجيه الشباب على هذا النمط ، لمجرد أنهم يملكون من المعرفة والثقافة العامة ما يبهر السُذَّج ، وعندهم كمٌّ هائل من المعلومات الشرعية ، دون معرفة للضوابط ، ولا للأصول ، ولا للمناهج ، ولا لكيفيات التطبيق وكيفيات العمل ، ولا لطريقة أئمة الدين في تناول مسائل العلم وتطبيقها على النوازل والحوادث


من موقع الوسطية