تسجيل الدخول تسجيل جديد

تسجيل الدخول

إدارة الموقع
منتديات الشروق أونلاين
إعلانات
منتديات الشروق أونلاين
تغريدات تويتر
  • ملف العضو
  • معلومات
aloui
عضو فعال
  • تاريخ التسجيل : 03-05-2014
  • المشاركات : 145
  • معدل تقييم المستوى :

    10

  • aloui is on a distinguished road
aloui
عضو فعال
جدرمي
01-11-2014, 08:43 PM
"جدرمي"

القرية خلعت ثوب عرسها، والشمس لم تبدِ اليوم زينتها، الشتاء على الأبواب، والمؤذن على وشك أن ينادي لصلاة العصر، والعجوز "سعدية"، كانت تهمّ أن تخرج إلى المراح لجلب الماء.. تغسل به قذارة "شيخها"، عندما تناهى إلى سمعها طرق محتشم على الباب، فأسرعت كما استطاعت، تفتحه قبل أن يعيد القادم الطرق، فيسمعه زوجها الملقى على ظهره في ركنية، ولكن خطوتها بطيئة ثقيلة لم تمكّنها من الوصول كما أحبّت، فاهتز الباب في هذه المرة، تحت وقع دقات متتالية، فبلغ الصوت مسامع " شعبان" زوجها، وصاح مزمجرا:
- ما هذا.. "جدرمي"!؟
كانت العجوز تتمنى ألاّ يصل صوت الباب إلى أذنيه، ـ الشيء الوحيد الذي فضل حيا في جثته مع لسانه البذيء ـ وكانت تعمل ما بوسعها كيلا يتكرر من جديد، مشهد يؤلمها أكثر من وضعه الصحّيّ، ولكن ما باليد حيلة.. فقد سمع صوت الدقات العنيفة، وسمع صرير الباب وهو يفتح، .. ولم يبق على المسكينة سوى انتظار ثوران نوبته العصبية، واندلاع لسانه للشتم والسباب.. وتهيئة نفسها لتقابلهما بما أوتيت من صبر.. ماذا عساها تفعل غير ذلك.. إنه من حظها وحظ زائرها.
كان الطارق أحد أقاربها، شاب يرتدي بزة عسكرية خضراء، ملأ بهندامه المدخل، وهو يمسك بيسراه طاقيته، وبيمناه تتدلى قفة فيها فواكه موسمية. ما إن وطأ عتبة الباب حتى خرج صوت "شعبان" من غرفته الداكنة مدويا:
ـ من؟ ماذا يريدون مني أيضا؟ لقد قلت كل ما علي قوله...
أسرعت إليه العجوز تهدئه، حتى لا يتمادى في هذيانه:
ـ هو أحمد ابن أختي..جاء يزورنا..
ـ لماذا يجيء الآن.. "مزيان" ليس هنا.. ذهب منذ مدة..؟
ـ إنه جاء لكي يعرف أحوالنا، ويطمئن علينا..ثم ..
ـ .. ثم ماذا.. ها قد عرف أحوالنا واطمأن علينا..ثم ماذا؟
ـ لقد جاء... واحتارت العجوز ما تقول، وكيف تقول..: "ما ذنب الشاب، جاء يزور خالته.. ولكن ماذا أقول لهذا...أأكذب عليه، وأخفي بأنه من رجال الدرك الوطني؟ كانت تقول بينها وبين نفسها، ثم أدلفت إلى الغرفة الداكنة، ومعها الشاب ببزته الزيتونية، وقالت له :
ـ انظر..انظر.. ألا تليق عليه هذه الحلة الجميلة؟
رفع بصره ونظر إلى الشاب دون أن يتبيّن ملامحه، ثم أغمض عينيه، وأعاد فتحهما ثانية، ثم صاح مزمجرا:
ـ سعدية!.. ماذا يفعل هذا الرجل هنا ؟
وأكدت عليه لعله يهدأ، بقولها:
ـ إنه أحمد..ابن أختي رقيّة.. انظر.. لقد صار رجلا.. ألا ترى بأنه.. الله يبارك.. رجل ...
وقاطعها مرددا:
ـ رجل...لا.. بل هو ...، انظري إليه.. أنظري.. الرجال في الجبل وليس في المراح مع النساء.
ثم وجه كلامه للشاب بلهجة عنيفة:
ـ اخرج .. اخرج واذهب عند سيدك "مزيان" يعلمك كيف يكون الرجال!
كان الشاب واقفا دون حراك، وكأنه في استعداد، لم يدر بما ابتلي، وبدا عليه نوع من الاضطراب، فأخذت العجوز "سعدية" تخاطبه بكلمات مختارة، لعلها تلطف الجو، وتلين الموقف المحرج:
ـ معذور يا ولدي، لا تبالي بأقواله..إنه دائما هكذا.. يهذي فيرمي بكل ما يمر بباله.
إلا أنّ الشاب عقله ذهب في غير ذلك، كان يفكر في حال هذا الشيخ المشلول، الذي تهالكت عليه مصائب الدنيا من كل جهة، وكمن يريد أن يبدي عدم تأثره بما سمع، قال له بكل هدوء وهو يبتسم:
ـ قل الحق.. يا عمي شعبان.. ألا تعجبك بزتي الخضراء.. إنها تشبه بزة "مزيان" التي تظهر في هذه الصورة المعلقة ؟
وكمن لسعته عقرب، صاح بأعلى ما استطاعت حباله الصوتية:
ـ اخرج.. اخرج.. لم يمت "مزيان" من أجل أن يبقى "الجندرمة" في البلاد..
فقالت له العجوز مسايرة له:
ـ ولكن نحن في الاستقلال الآن، الاستعمار طردناه...
ثم يقول لها وقد بدأت نبرة صوته تضعف وتخفت:
ـ قلت لك.. أخرجيه..
ورأى الشاب أن يقول شيئا ليصحح نظرة الشيخ "شعبان"، فقال له غير عابئ بما تفوّه به:
ـ نحن رجال الدرك الوطني، نخدم الوطن والمواطنين...
فصاح في وجهه قائلا باستنكار:
- "الجندرمة".. كلهم متشابهون.. الجدرمي.. جدرمي..ثم إن "الجندرمة" صناعة استعمارية.. والفرنسيس وحدهم يملكون جيشا من الجندرمة لإرهاب الناس، فلماذا تسيرون على خطاهم الآن..أخرجيه.. قلت.. أخرجيه واتركي الباب مفتوحا أشم هواء نقيا.
لم ير الشاب بدا من مواصلة الحديث معه، استدار وخرج من الغرفة، وفي نفسه شيء كان يستحثه لمعرفة حكايته مع "الجندرمة"، فسأل خالته "سعدية"، التي لم يزرها منذ كان تلميذا في المتوسطة، وعمره لا يتعدى اثنا عشر عاما، ولولا تعيينه في هذه القرية بمركز الدرك الوطني لنسي أن له خالة، وأن زوجها معاق ومريض، فردت عليه قائلة وهي تمسح دمعة فلتت من عينها:
ـ عمك شعبان لم يكن هكذا.. لو عرفته في زمانه..آه على الاستعمار يا ولدي.. الاستعمار، لا أعاد الله أيامه القاسية على المؤمنين!.. كان السبب.. كان عمك شعبان في كامل عقله.. ولكن.. تلك مشيئة الله..
ـ وكيف حدث له هذا؟
ـ حدث ذلك منذ أكثر من ثلاثين عاما، قبل الاستقلال بعام أو عامين، كانت الشمس لم تمل بعد نحو المغيب، في ذلك اليوم المشؤوم.. لا أذكر هل كنا يوم خميس أو جمعة.. كنا قد انتهينا من الغداء، أنا كنت أكنس الغرفة، بينما كان هو ينتعل حذاءه ، يستعد للعودة إلى الغيط، يكمل "تحمير" وديان البطاطا التي بدأت تورق.. عندما هزّ باب البيت رجّ عنيف، تلاه صوت "القوري المعفون" يستحثنا لفتح الباب فورا، فاندفع "عمك شعبان" تلقائيا نحو الباب يفتحه، فاستقبله على غيلة، دركي من الدركيين الثلاث، بضربة بمقبض بندقيته شجّت جبهته، وأتبعه الثاني بضربة أخرى هدّت كتفه، فوقع على الأرض مغشيا عليه، فركله الآخر بحنق عدة ركلات على بطنه وظهره.. ثم سحبوه من رجليه إلى صحن الدار، فأفرغوا عليه دلو ماء، ووجدتني أنطلق جريا كالمجنونة، أمسك رأسه بين يدي وأنا أبكي وأصرخ، حسبته مات، ولكن وعيه عاد إليه بعد لحظات، فأخذوا يستنطقونه، سؤال وراء سؤال.. تتلى عليه بحنق.. كانوا يريدون أن يعرفوا مكان "مزيان" الذي التحق بالمجاهدين قبل ذلك بأيام قلائل.. ولما عجزوا عن الحصول على مرادهم.. تهالكوا عليه لكما وركلا.. ولم يخرجوا من البيت حتى تركوه جثة هامدة.. ومنذ ذلك اليوم.. ساءت حاله، وازدادت سوءا مع مرور الأيام والأعوام.. وبعد الاستقلال، انشغل الناس عن بعضهم، تحرروا من كل القيود السابقة، وانقطعت الأخوّة، وعمك "شعبان"، ظلّ كما ترى، مستعمرا.. لم يأت أحد يهتم بتحرير حاله. انتظرنا طويلا عودة "مزيان"، ابننا الوحيد.. مرّت أيام وشهور وشهور، ونحن نترقب ظله متى يدلف علينا، عله يزيح الغشاوة التي طبعت أيامنا، وذات يوم، جاء رجل لا نعرفه، وأخبرنا بأن "مزيان" استشهد في اشتباك مع العدوّ، ثم ترك لنا تلك الصورة قائلا:" رحم الله الشهداء..هو الآن عند خالقه، حي يرزق"، فقلت له : " ونحن هنا ..كما ترى يا سيدي، أموات.. في انتظار الحياة". ولكن الله كبير، كان بنا لطيفا، إذ رزقني الصبر يا ولدي، لولاه لاختلّ عقلي مثله .. ولبقينا مثل قفة بلا يدين.. تلك هي قصة عمك شعبان، الذي كان يقول: " أنا شعبان وغيري شبعان".
خرج الشاب من بيت خالته، وهو يقول في نفسه:" لا أستطيع فهم ما يحدث.. هذا ليس حقا ولا عدلا.. غير معقول...". أشياء كثيرة مرت على باله لم يجد لها جوابا. ومن أين له بالجواب، وهو ابن عشرين سنة، لم يعرف من الدنيا غير ما تعلمه في المدرسة: "المجاهدون رجال أحرار.. الشهداء ضحوا من أجل الحرية.." وطفرت إلى ذهنه فجأة جملة كان يرددها معلمه في خفض صوت حتى لا يسمعها سوى من كان شديد التركيز: ".. والاستقلال للخائضين.."، وقال في نفسه: " هل أنا اليوم واحد من الخائضين؟ كانت نفسه تواقة أن تعرف.. إلا أن الجواب مستور.. وخطر بباله أن يفعل شيئا ما لزوج خالته، كي يخرجه من ماضيه ويعيش حاضره، و"لكن" كانت تعترض دائما تفكيره.. ثم قال لنفسه كالتائه: ماذا عساي أفعل، وأنا في عينه "جندرم" فرنسا!؟
في صباح اليوم الموالي، جاءت سيارة الإسعاف، نزل منها ممرضان يجران أمامهما عربة، تقدما ورفعا ما بقي من جثة الشيخ شعبان، اجتهدا ما استطاعا كي يضعاه كاملا على العربة، أمام أعين زوجته "سعدية"، التي كانت تتمتم:"اليوم تستقل ككل خلق الله.. سيارة،..عندما ترجع.. ستجدني في انتظارك..وسأفرش غرفتك بأجمل ورود حديقتنا..." وانطلقت السيارة إلى المصحة وهي تملأ الوديان والتلال زغاريد. ولما توقفت، أنزِل من العربة كما يُنزل كيس المهملات، وزجّ به في زنزانة مظلمة بالمشرحة، في انتظار أن يسمح لأهله بإعادته إلى بيته، ليُدفن في قريته وأرضه.
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية امرأة
امرأة
عضو فعال
  • تاريخ التسجيل : 27-05-2013
  • الدولة : الجزائر
  • المشاركات : 391
  • معدل تقييم المستوى :

    11

  • امرأة is on a distinguished road
الصورة الرمزية امرأة
امرأة
عضو فعال
رد: جدرمي
10-11-2014, 08:58 PM
سلام ورحمة
قصّة مؤلمة...، وسردك جميل
احترامي
  • ملف العضو
  • معلومات
aloui
عضو فعال
  • تاريخ التسجيل : 03-05-2014
  • المشاركات : 145
  • معدل تقييم المستوى :

    10

  • aloui is on a distinguished road
aloui
عضو فعال
رد: جدرمي
18-11-2014, 06:40 PM
مشكورة على المرور الطيب..ومعذرة على الرد المتأخر
تحياتي
عمر
  • ملف العضو
  • معلومات
محمد فارس9
عضو متميز
  • تاريخ التسجيل : 16-04-2013
  • المشاركات : 1,348
  • معدل تقييم المستوى :

    13

  • محمد فارس9 is on a distinguished road
محمد فارس9
عضو متميز
رد: جدرمي
20-11-2014, 05:49 PM
قصة رائعة تحمل في طياتها معاني وأسرار
وكأني وأنا أقرؤها أفهم أن الكاتب ارادنا ان نتخلص من فكرة العودة كل حين الى ذلك الماضي البعيد
بأسلوب أدبي
اسجل أخي عمر اعجابي
  • ملف العضو
  • معلومات
aloui
عضو فعال
  • تاريخ التسجيل : 03-05-2014
  • المشاركات : 145
  • معدل تقييم المستوى :

    10

  • aloui is on a distinguished road
aloui
عضو فعال
رد: جدرمي
29-11-2014, 08:34 PM
تحياتي لك على مرورك الطيب، الأخ مالك
عمر
مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 


الساعة الآن 02:28 AM.
Powered by vBulletin
قوانين المنتدى