رد: شاركونا النّقاش الفكري حول قضايا الأمّة..
15-02-2009, 07:36 AM
أعتقد أن هذا الموضوع يناسب هذا المنتدى، إلا أني لم أرد حذفه من منتدى النقاش الحر إحتراما للقراء. لذا فأنا سأكرره هنا على شكل مشاركة. أرجو ألا يكون في هذا اشكال، أما إن كان غير ذلك فأرجو من المشرف(ين) ابلاغي بالأمر. رجاء أخير، إن يكون الموضوع منطلقا لنقاش جاد وثري.
تأملات في الفكر الثوري
الإنسان الثائر إنسان حذر بطبعه لا يثق إلا فيمن يواليه و يعمل بجانبه، أما من يخالفه فغالبا ما ينظر إليه على أنه خائن يجب اقصاؤه أو القضاء عليه، أو أنه مشوش يجب اسكاته، أو في أحسن الأحوال أنه إنسان ليس محل ثقة. هذا النوع من التفكير، مع أنه خاطئ، إلا أنه لايمكن تفاديه في ظروف الحرب بل ويكون أحيانا ضروريا لنجاح الثورة. لأن طبيعة العمل الثوري والخطر الذي يواجه الثوار يجعل بقاء وإستمرارية الثورة أهم من من إيجاد آليات للحوار والتشاور وتفهم الآخر. فلا وجود لثورة ديمقراطية، إذ أن نجاح الثورة يتعلق بقوة شخصية الثوار وإيمانهم أكثر منه بكفاءة مؤسساتها و شفافيتها.
ظاهرة عدم الثقة بالمخالف وإقصائه، وإن كانت مبررة أثناء الحرب إلا أن اثرها في حال السلم خطير جدا، وقد يمثل السبب الأساسي لعدم نجاح عملية البناء الوطني. ويبدأ الخلل مباشرة بعد نهاية الثورة حيث يقرر الثوار الإنفراد بالحكم ايمانا منهم بمبدأ الشرعية الثورية، فغيرهم ليسوا أهل ثقة ولا يمكنهم تسيير شؤون البلاد. وينطلق بذلك تسيير البلاد بعقلية المحارب، إذ تقصي السلطة كل من يخالفها الرأي حتى وإن كان ممن حمل السلاح بالأمس، تماما كما يقصي المحارب من يخالفه. وما حدث في الجزائر في الستينات من إقصاء مس شخصيات وحركات وطنية مختلفة خير مثال على ذلك.
في هذه الأثناء تتمكن الطبقة الثورية من إحراز نجاح مؤقت في عملية البناء الوطني نتيجة للعزيمة القوية لبعض أعضائها من جهة والثقة الشعبية التي اكتسبتها أثناء الثورة. لكن هذا النجاح سرعان ما يزول نتيجة لنفاد المخزون البشري من الرجال النزهاء لدى الطبقة الحاكمة. وهذا النفاد يكون لعدة أسباب. أولا، إنسلاخ الطبقة الثورية من مبادئها، حيث تتغير نظرتها للبلاد من قضية تستحق التضحية بالنفس والنفيس إلى مجرد غنيمة كبيرة يسعى كل واحد إلى الضفر بأكبر سهم فيها. ثانيا، سياسة الإقصاء التي غالبا ما تمس بعضا من الأسرة الثورية ذاتها. ثالثا، غياب آليات التجديد البشري القائمة على معياري النزاهة والكفاءة.
فأثناء الثورة يكون الخطر الذي يمثله الإلتحاق بصفوف الثوار بمثابة المصفاة التي تمحص الصادق القوي من غيره، لذا يكون أغلب الثوار من المؤمنين بقضيتهم المستميتين من أجل نصرتها. أما بعد إنتهاء الثورة وحلول السلم وإستلام الثوار للحكم، تختفي هذه المصفاة ويبقى الولاء للقيادة الثورية (أي السلطة) هو العامل الأساسي المعتمد لارتقاء سلم المسؤولية، و هذا راجع دائما إلى عقلية إقصاء المخالف وتقريب المساند مهما كان معدنه. لكن للأسف هذا الولاء انما يكون في الغالب من أجل المصلحة والنفع المادي، فهو لا يمثل إختبارا حقيقيا للكفاءة وصدق النية. فتظهر بذلك طبقة من المتحكمين في السلطة يتغنون بالثورة ولا يحملونها في قلوبهم ويتبوأون المناصب وهم ليسوا أهلا لها. و بمرور الزمن تحكم هذه الفئة من النفعيين قبضتها على زمام السلطة، تهمش من يعارضها، حتى وإن كان صادقا، وتستغل رموز الثورة لخدمة مصالحها. ويظهر مثال ذلك في الجزائر من السبعينات إلى يومنا هذا. والمتأمل في نشأة الطبقة السياسية الحالية و طريقة عملها لا بد وأن يكتشف أن أغلبها من هذه الفئة.
الطبقة السياسية الحالية تعيش بالنفاق وتستقيت منه، وسوف تواصل على هذ المنوال، فهي لا تمتلك آليات تسمح لذوي النزاهة والكفاءة بالولوج إليها. بل بالعكس طبيعة نشأتها وطريقة عملها تجعل من سياسة إقصاء النزهاء أحد أعمدة بقائها. أي أن نزعة الإقصاء لديها ليست فقط نتيجة قرارات خاطئة نابعة من نية صادقة لخدمة الوطن، انما الإقصاء عندها إقصاء عمدي هدفه المحافظة على مصالحها لا غير.
وربما كان هذا نتيجة طبيعية في مجتمع أصبحت فيه ظاهرة إقصاء المخالف منتشرة حتى في أوساط المثقفين والمتديين ممن لديهم نية صادقة في الإصلاح وممن لا ينتظرون نفعا ماديا مما يقومون به. فكيف يكون حال هؤلاء إذا تعلق الأمر بمناصب أو منافع مادية؟ ألن تطغى نزعة الإقصاء هذه على "الضمير الحي" للواحد منهم تحت مبررات تكون النفس الأمارة بالسوء و الوسط الفاسد قادرين على خلقها وتزيينها له ؟ أليس هذا حال الكثيرين ممن كانوا البارحة في المعارضة واصبحوا اليوم في السلطة يصفقون لها وينفذون خططها ويعادون من كانوا بالأمس رفقائهم ؟
سياسة اتهام كل من يخالفنا الرأي بالعمالة أو الخيانة أو الضلال سياسة خطيرة تفقد المجتمع تماسكه وتمنع افراده من إعادة النظر في أفكارهم وتقويمها وتمثل بذرة السوء التي تعود عليه بالوبال. فلابد من محاربة هذه الظاهرة بتركيز المواقف على الأفكار بدل الأشخاص، والبحث عن الحقيقة بدل البحث عن من نظن أنه يملكها، وبناء الآليات التي تسمح بغربلة النزهاء والحفاظ عليها بدل الإتباع الأعمى لمن نظن نزاهته.
عبد الله.