الرد على (محمد التلمساني ) (مفتى الشروقية )الذي اتهمنا بالكذب والتزوير .
الرد رقم : [02].
°°° علاقة الإمام مالك رحمه الله بالسياسة والسلطة: فالإمام مالك رحمة الله أشهر من نار على علم،لقد ولد بالمدينة(93- 179هـ)في عهد الوليد بن عبدالملك،وهو يعتبر مؤسس المذهب الثاني من مذاهب السنة المشهورة،وعاصر زمن خلفاء بني أمية بعد الوليد،وخمسة من خلفاء بني العباس.فهو إذن مخضرم عاش عهدين من عهود الملك العاض والجبر،وقد رأى وعرف عن كثب ماذا حل بالمخالفين لبني أمية في الفكر والرأي من قمع وتنكيل،حيث كانت تلك الفترة تعتبر بدايات الإنقلاب السياسي والمنهجي على نمط الخلافة الراشدة ومنهاج النبوة،وقد اتسمت تلك الحقبة بكثرة الصراعات خاصة من أهل العلم وأصحاب الفكر الحر كـ(ثورة الحسين،وابن الزبير،وابن الجبير،وابن الأشعث،والنفس الزكية)،ولكن ما لبث خلفاء بني أمية أن أختصروا المسافة الفاصلة بين القلم والسيف وذلك من خلال المال والهدايا والمناصب،أو بأساليب الاقصاء والتهميش والتعليق وجز الرؤس،ولعل حادثة استباحة مكة وحرق الكعبة وقتل ابن الزبيرواتباعه.واستباحة المدينة المنورة والفتك والهتك بأهلها.وفاجعة كربلاء ومقتل سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم،خير دليل على إغتيال قيمة الحرية،واحترام الرأي الأخر كما جاءت في ثنايا نصوص الوحي والهدي النبوي!!
ولما زال الملك الأموي المشبع بالأحكام القبلية والعسكرية والاستبدادية،وبصورة سلبية عن قيمة الحرية والرأي الأخر،حل محله الملك العباسي إثر الانقلاب المعروف بقيادة أبي مسلم الخراساني القائد العسكري لابي العباس،حيث لم يكن الوضع الجديد بقيادة البيت العباسي بأحسن حال من الذين سبقوه في قمع الرأي الأخر،وأغتيال قيمة الحريات،وفي هذه الأجواء المشبعة بالأحكام الإقصائية العسكرية كان الإمام مالك يرقب أوضاع العباسيين خاصة أبي جعفر المنصور،مستحضرا تلك الصورالبشعة التي سجلها التاريخ ووعاها عقل الإمام مالك؛من أحراق الكعبة،واستباحة المدينة،ومحنة كربلاء،وغيرها.وكأنه يرى أن حرية الفكر وقيمة الرأي الأخر أصبحت أثر بعد حين،حيث أقبرت بسيف السلطة السياسية.وأن هنالك نوعا من الصراع قائم بين السلطتين؛سلطة السيف،وسلطة القلم،وفي هذا الوضع المتصارع كانت السلطة السياسية تستخدم بعبع(الفتنة)كوسيلة لترويض السلطة الدينية،وأمام هذا المنطق المتخلف من السلطة السياسية لم يجد الإمام مالك سبيلا لعمل سلطته الدينية إلا الاندراج الخجول والبطيء في هذا المسار الحتمي،مع ما يتطلبه الأمر من مخرجات وآليات دفاعية،وما يلازمه من تغييب للنقد الذاتي،وحرية الأخر،ومن تلك المخرجات فتاوى بحرمة الخروج عن أئمة الجور،وتجريم مشاركة الخارجين على خلفاء الظالم.كل ذلك اعتبارا منه بماضي التجربة التاريخية الذي لم يتبين منها إلا أن الخارج لم يأت إلا بما هو أكثر فسادا،وأبلغ فتنة،وأهتك للحرمات!!
ويبدو أن الإمام مالك لم يجد أمام محددات المنطق السلطوي الجديد إلا الاعلان عن ضم سلطته العلمية إلى السلطة السياسية معلنا عن نفسه كجزء من شوكتها،وذلك من خلال المراسيم المعروفة والشارات التي تفرق بين دائرة الموالاة والمعاداة؛من بيعة الخليفة،وقبول هداياه،ومشاركته في مجالسه،والحث على إقرار شرعيته،والتنديد بالخارجين على سلطته،وعدم التحريض عليه،ومساندة المخالفين له.وبعبارة أخرى فإن منطق السلطة السياسية(الخلفاء)هذا يفرض على السلطة الدينية(الفقهاء)شحذ الآليات الدفاعية الواقعية لتغييب الأخر،وإلغاء النقد العقلاني المعرفي لهذه السلطة السياسية بما يعني تكريس الاستبداد(وتغويل الخليفة على الرأى الأخر! ) وهذا هو ديدن السعودية التي طوعت سلطتها الدينية (آل الشيخ) لتغييب الآخرين المعارضين بآليات الدين .
والملفت للنظر أن الإمام مالك رحمه الله لم يُغيب عن وعيه وإدراكه بأن الخليفة يحكم البلاد والعباد بسلطة( السيف والجاه والمال)،وليس بقيم العدل والشورى والحريات، كما ذكر ابن عبد ربه عن مالك ابن أنس قوله(بعث أبو جعفر المنصور إليّ ، وإلى ابن طاوس،فأتيناه فدخلنا عليه،فإذا هو جالس على فرش قد نضدت،وبين يديه أنطاع قد بسطت،وجلاوزة بأيديهم السيوف يضربون الأعناق.فأومأ إلينا أن أجلسا. فجلسنا. فأطرق عنا طويلا ،ثم رفع رأسه والتفت إلى ابن طاوس فقال له:حدثني عن أبيك. قال:نعم سمعت أبي يقول:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :إن أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل أشركه الله في حكمه فأدخل عليه الجور في عدله.فأمسك ساعة...... قال مالك: فضممت ثيابي من ثيابه مخافة أن يملأني من دمه.... الخ(العقد الفريد) يعني هذا أن الإمام مالك رحمه الله خاف من ضرب عنق ابن طاوس لقوله كلمة حق أمام سلطان جائر ، وإمامنا تحرس بالإبتعاد عن رفيقه ابن طاوس حتى لا تتلطخ ثيابه بدمه عند البطش به ... أو ليس هذا يعني سكوت ٌ على قول الحق أمام سلطان جائر تقية ( يا محمد التلمساني ).
وأزيدك يا محمد خبرا آخر أورده البغدادي في تاريخه (تاريخ بغداد) :
أنه لما اعتقل عبدالصمد عامل المنصور على المدينة،مجموعة سياسية معارضة لنظام الحكم،أسامهم سوء العذاب،وأغلب الظن أن هذه المجموعة كانت من اتباع (الحسن بن زيد بن الحسن بن فاطمة )المشهور بمعارضته لشرعية حكم آل العباس والناقد لسياستهم،فقد توسط بعض الوسطاء عند الخليفة المنصور لرفع الظلم الواقع هذه المجموعة السياسية داخل سجونه.فكتب أبو جعفر إلى المدينة وأرسل رسولا وقال: اذهب فانظر قوما من العلماء فأدخلهم عليه حتى يروا حاله وتكتبوا إلي بها فأدخلوا عليه في حبسه مالك بن أنس وابن أبي ذئب وابن أبي سبرة وغيرهم من العلماء.فقال:اكتبوا بما ترون إلى أمير المؤمنين قال:وكان عبد الصمد لما بلغه الخبر حل عنه الوثاق وألبسه ثيابا. وكنس البيت الذي كان فيه ورشة ثم أدخلهم عليه فقال لهم الرسول:اكتبوا بما رأيتم فأخذوا يكتبون:يشهد فلان وفلان فقال بن أبي ذئب:لا تكتب شهادتي أنا أكتب شهادتي بيدي إذا فرغت فارم إلي بالقرطاس.فكتبوا محبسا لينا ورأينا هيأة حسنة وذكروا ما يشبه هذا الكلام.قال:ثم دفع القرطاس إلى بن أبي ذئب فلما نظر في الكتاب فرأى هذا الموضع.قال: يا مالك داهنت وفعلت وفعلت إلى الهوى لكن اكتب:رأيت محبسا ضيقا وأمرا شديدا قال: فجعل يذكر شدة الحبس).
علما بأن بن أبي ذئب هذا كان شجاعا جرئيا واقفا ضد ممارسات السلطة الحاكمة التي غيبت الحريات والعدل والشورى،ولا يخشى في الله لومة لأئم،فقد سأله أبو جعفر(الخليفة)يوما عن نفسه وسياسته:فقال: أنشدك بالله كيف تراني؟ فقال له:اللهم لا أعلمك إلا ظالما جائرا. كذلك انتقده في سياساته المالية،فقد قال:للمنصور يا أمير المؤمنين قد هلك الناس فلو اعنتهم بم في يديك من الفئ!! لهذا وجهت سلطة الخليفة حلفاءها(الفقهاء)لضرب ابن ذئب بسيف الفتوى ،وتشويه صورته عند العامة والخاصة،حيث قام فريق الموالاة(الفقهاء)بوصف ابن ذئب بأنه قدري(أي ناقد لنمط توريث الحكم،وسياسة توزيع الأموال،وتبرير إرتكاب معاصى الأمراء)،فقال البغدادي:(وكانوا(الفقهاء)يرمونه بالقدروما كان قدريا لقد كان ينفى قولهم ويعيب!!).
وهو ما يستعمله أخينا ( محمد التلمساني) في نقض الآخر المخالف ، فهو فقيه مدرسة (الفتوى الشروقيه) في استنساخ واجترار اتهامات الفقيه لأحد رموز الصدع بالحق أمام حاكم جائر .
فإذا أمكن للإمام مالك رحمه الله من إنقاض ثيابه من أن تتلطخ بدم عالم من العلماء الأحرار من جراء ضرب سيف الخليفة الكسروي،فإنه لم يتمكن من إنقاض بدنه من سياط أؤلئك الأكاسرة الخلفاء، فقد(ضُرب مالك بن أنس سبعين سوطا ،لأجل فتوى لم توافق غرض السلطان!! ) حسب رواية ابن الجوزي في سنة 147 في (شذور العقود) ، فقد يُنزع بالسلطان ما لا يُنزع بالقرآن .وعلى الرغم من وضوح نمط سياسة ملوك الجبر والعاض عند الإمام مالك ،إلا أنه لم يجد بدءا في بداية أمره من مجاراة هذه الأنظمة بفتاوى تجرم الخارجين عليها،وتحرم مساندة المعارضين لها،بل تستبيح دماء الناقدين لها في نظام ملكها وأخلاق ساستها؛كالقدرية والمعتزلة والخوارج والشيعة وغيرها ونكبة التنكيل ( بغيلان الدمشقي) ماثلة أمامنا ، وهذا لا يعني أن الإما م مال كل الميل لذلك فقد استفتاه أهل المدينة بشأن الخروج مع النفس فأفتاهم مالك بالجواز ، لأن بيعتهم لأبي جعفر المنصور العباسي كانت تحت الإكراه ، ولا بيعة لمكره ، فلما أفتاهم مال الناس مع محمد ذي النفس الزكية وبايعوه، وقاتلوا معه. وقد عُذب مالك لهذا السبب فيما اصطلح عليه تاريخيا ب ( محنة الإمام مالك ). وهو الأمر الذي يوضح بطلان خلافة من تصدى للإمامة واغتصبها بطريق القهر والقوة وقهر الناس بشوكته وجنوده، وإن كان جامعاً لشرائطها، ففي ذلك استيلاء على حق الأمة بالقوة. " لقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على أن الإمامة إنما تكون بعقد البيعة بعد الشورى والرضا من الأمة، كما أجازوا الاستخلاف بشرط الشورى ورضا الأمة بمن اختاره الإمام، وعقد الأمة البيعة له بعد وفاة من اختاره دون إكراه .
فمطالبة الخليفة للإمام وضع كتاب نصي لا عقلاني يضبط به الرعية وشؤؤون المتمردين فكريا على نظام الملك ، خاصة بعد تنامي موجة ظاهرة الفكر الحر الناقد لفكرة شرعية الإمامة السياسية والدينية ، أي ما يسمى في كتب الفرق ( بأهل الأهواء والبدع ) ، قال ابراهيم بن حماد ، سمعت مالكا يقول ، قال لي المهدي ( ضع يا أبا عبد الله كتابا أحمل الأمة عليه ، فقلت يا أمير المؤمنين أما هذا الصقع - وأشرت إلى المغرب-فقد كفيته،وأما الشام،ففيهم من قد علمت–يعني الاوزاعي-وأما العراق،فهم أهل العراق.(انظر:الذهبي سيرأعلام النبلاء،وابن عبدالبر الانتقاء،والقاضي عياض ترتيب المدارك) ، وهذا الخبر يعني أن السلطة الزمنية ساعية بكل وسائلها لتدجين العلماء والفقهاء بجعلهم يدورون في فلكها ، ويسخرون علمهم وفقهمم في خدمة الدولة العضوض .
توظيف سلطة( القلم )لصالح تعزيز الملك،وثبيت السلطة،أمر معروف منذ البداية ، قال ابن سعد، سمعت مالكا يقول:لما حج المنصور،دعاني فدخلت عليه،فحادثته،وسألني فأجبته،فقال:عزمت أن آمر بكتبك هذه–يعني الموطأ-فتنسخ نسخا،ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين بنسخة،وآمرهم أن يعملوا بما فيها،ويدعوا ما سوى ذلك من العلم المحدث،فإني رأيت أصل العلم رواية أهل المدينة وعلمهم.قلت:يا أمير المؤمنين،لا تفعل...،فقال:لعمري،لوطاوعتني لأمرت بذلك.( مذكور في :الذهبي سير أعلام النبلاء،والقاضي عياض ترتيب المدارك) وقد ذكر محمد ابو زهرة المشهور بفكره الحر وشجاعتة الفائقة في عرض قضايا الإسلام والمسلمين : أن الإمام مالك رحمه الله [ فيه نفحة أموية أو ميول أموي ].
الجدير بالذكر أن الآليات الذهنية التبريرية للإمام مالك،سواء من موقع القوة والهجوم(الدفاع عن الخلافة)،أو من موقع الدفاع والتسويغ(الدفاع عن النفس)،قد جوبهت من قبل الناس عامة بالاستنكار والنقد،حتى أنهم أرسلوا إليه من يسأله هل يجوز قبول هدايا الخلفاء ؟،فأجاب مالك بأنه لا يجوز.فقال له الرجل:كيف لا وأنت تقبلها؟ فأجابه مالك بلسان الحال أنه يعلم ما يفعل،وأنه ليس في الإمكان أحسن مما كان.وقال له بلسان المقال:أرأيت إن كنت آثما فهل تريد أن تبوء بإثمي وإثمك؟!! وقد ذكر( الذهبي) في إعلامه بعض من تلك الهدايا والعطايا والمنح والثروة الهائلة التي خلفها مالك،فقال:[خلف مالك خمس مئة زوج من النعال،ولقد اشتهى يوما كساء قوصيا،فما مات إلا وعنده منها سبعة بعثت إليه.قال يحي بن يحيي: إنه باع منها من فضلتها بثمانين ألفا.وثم قال الذهبي:قد كان هذا الامام من الكبراء السعداء،والسادة العلماء،ذا حشمة وتجمل،وعبيد،ودار فاخرة،ونعمة ظاهرة،ورفعة في الدنيا والآخرة.وكان يقبل الهدية، ويأكل طيبا،ويعمل صالحا ].
ومن هنا يتضح أن مسألة مهادنة الإمام للسلطة الزمنية ليست نابعة من قناعاته، وإنما من المخاطر المنجرة عن الخروج المسلح من قتل وتدمير للذات ، فأفضل السبل في فقهه النصح والدعوة السلمية . فمهادنة الإمام للسلطة الزمنية واسترضائها حسب المعطى المعرفي ،يجعلني أقول بأن حكم صاحب المقال كان صحيحا ، لكن الفهم المسطح والبسيط للمتلقي جعله إفكا وكذبا ، من باب (من جهل شيئا عاداه) .
سيتبع .
التعديل الأخير تم بواسطة الأمازيغي52 ; 30-07-2012 الساعة 11:39 AM