مختارات من ردود الشيخ أبو اسحاق الحويني حفظه الله على الطائفة المخذولة
02-03-2015, 12:51 PM


حقيقة القرآنيين وردود العلماء عليهم

الشيخ أبو اسحاق الحويني حفظه الله


فهذه مختارات من ردود الشيخ أبو اسحاق الحويني حفظه الله على الطائفة المخذولة المسمات زورا ب [ القرآنيين ] و [ أهل القرآن ] وهم في حقيقتهم ليسوا سوى بيادق ضالة [ منكرة للسنة ] ساعية بجد في خدمة أسيادها من [ ذئاب الكفار ] لهدم السنة النبوية والطعن في دين الإسلام نقلته عن نسخة ويكي لشرح صحيح البخاري

حقيقة القرآنيين وردود العلماء عليهم


إن الفتنة التي تطل برأسها الآن، هي: فتنة القرآنيين الذين لا يثبتون السنة، إلا من حيث الجملة، أي: أن هناك سنة والنبي عليه الصلاة والسلام تكلم بأحاديث، لكن ليس على سبيل التفصيل، فينكرون الأشياء التي كانت معلومة ومستقرة عند أسلافنا، وهم الذين يقولون: حسبنا القرآن، وقد تولى علماء السنة أهل الحديث الرد عليهم، وغزوهم في معاقلهم، وذلك عندما كان العلماء متوافرين، فقد كانوا يغزون معاقل هؤلاء، ويرجعون مظفرين، لكن الآن لا يوجد لدينا طائفة الفرسان الذين يهاجمون، أو الذين تحققوا من علم السنة جملة وتفصيلاً.
الآن يأتي رجل ويخرج علينا برأي سقيم، ويرد عليه كل العلماء، يقول: إن الله تبارك وتعالى قال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] ، وقد أجمع أهل العلم على أن أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، والقرآن لم يحدد يوم عرفات، ويكون في الحج زحام شديد، حيث يحج اثنان أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة ملايين، فهذا يؤدي أحياناً إلى الموت من شدة الزحام، فإذا كان الحج يبتدئ من شوال، والإنسان المتمتع مثلاً إذا أراد الحج من عامه وأتى بالعمرة التي هي بين يدي الحج في أول شوال فيتحلل وينتظر إلى يوم التروية، ثم يهل بالحج، فما بين عمرته وما بين إهلاله بالحج شهران وثمانية أيام، وهذا يعتبر داخل في الحج، فما هو المانع إذا كان القرآن لم يحدد لنا يوم عرفة أن نقدمه، طالما أن شهر شوال من أشهر الحج، لماذا لا يكون فيه يوم عرفة وعيد؟! بحيث نقول: إن على أهل شرق آسيا أن يحجوا في شوال، وعلى دول المغرب والشرق الأوسط أن يحجوا مثلاً في ذي القعدة، وبلاد الأعاجم في ذي الحجة وهكذا، فيصبح عندنا سبعون يوم عرفة، وسبعون عيداً، طالما أن القرآن لم يحدد يوم عرفة.
هذا رأي رجل حقير جداً، ومع ذلك يشغل الرأي العام، وينبري له أكبر الرءوس العلمية في الكلية الشرعية، هذا ما ينبغي أن يرد عليه أصلاً، ولا ينبغي أن تصبح المسألة قضية، فإن كون المسألة تصبح قضية فهذه هي الخطورة في الموضوع، لأن القضية كلها ساقطة ليس لها قيمة على الإطلاق، أفكلما نعق ناعق يقف كل هؤلاء العلماء طابوراً ليردوا عليه؟! ويقولون: لا تتعصبوا، يجب أن تفتحوا صدوركم للرأي والرأي الآخر! حتى لو كان كفراً!! وهذه امرأة شمطاء تجاوزت سبعين سنة، قالت: لقد كسبنا الجولة الأولى، وهي أنه تم إصدار قانون بمنع ختان الإناث، تقول: وأنا الآن أطالب بمنع ختان الرجال، انظر يا أخي إلى قلة الحياء! هذه المرأة هي التي تطالب بمنع ختان الرجال!! ويقوم العلماء بالرد عليها، ويشغلون الناس بمثل هذه الآراء التافهة الساقطة، مثل ما تفعل المخابرات الأمريكية عندما تحب أن تعمل مصيبة في العالم، تخترع قصة وهمية، ويقوم أفحل العلماء الذين لا يشك أحد في مصداقيتهم من أهل علمهم ويتكلم فيها، مثل: الأطباق الطائرة، أو رجل طويل نازل على طبق ونازل على البحر الميت.
وقال شهود عيان ورأينا وسمعنا وكلمنا وكلمناهم ويقول عالمهم: هذه ظاهرة علمية حقيقية، ونحن نصدق هؤلاء في كل ما يقولون، وإذا اعترض أحد منا على هذا الكلام، قالوا: أنت لا تصدق شيئاً، وهذا ليس من تخصصك.
نقول: وأنت الذي اعتمدت على شهرتك أنكرت الشفاعة، وقلت: إن الأحاديث التي وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها مكذوبة، وأنت لا تفقه شيئاً في علم الحديث، ولا في قبول الروايات ولا ردها، ولا تعرف كيف يقبل العلماء الحديث وكيف يصححونه؟! فلماذا تعديت على تخصص هؤلاء، وجزمت بأن كل ما ورد في السنة أو السيرة من الأحاديث التي تتحدث عن شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم للعصاة يوم القيامة غير صحيحة، وهي عند أهل العلم ثابتة ولا يشك فيها أحد؟! لماذا لم تحترم التخصص وتأتي البيوت من أبوابها؟ مثلما تأتي البيوت من أبوابها في عالم الحيوان، وعالم الإيمان وعالم النبات وغيرها، وتقول: إن العالم الفلاني قال كذا، والعالم العلاني قال كذا، ولا تتجاوز اختصاص هؤلاء، فهلا عرجت على واحد من أهل الاختصاص في معرفة الحديث الصحيح والضعيف، وقلت: إن العالم الفلاني قال: إن الحديث ضعيف، وكنت قادراً على أن تثبت حجتك؟! لماذا لا يهاجم هؤلاء الذين يتكلمون في غير فنهم، ويهاجم العلماء إذا تكلم أحد منهم في فنه؟! فتنة القرآنيين بدأت تطل من جديد، وهم الذين يقتصرون على القرآن وحده، وكل حديث يخالف ظواهر الآيات حسب مفهومهم فهو حديث مكذوب.

طعن أهل البدع في صحيح البخاري والرد عليهم


يقول أحدهم -ممن اشتهر بتكذيب الأحاديث-: لماذا رد البخاري خمسمائة وستة وتسعين ألف حديث، فرده هذا يوحي بأن هناك علة؟ (إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة) ، فالجهل يكون هو الحاكم، فإذا حكم الجهل زاد الشر، ومعلوم أن من علامات قيام الساعة ازدياد الشر، قال أنس رضي الله عنه: (ما من يوم يمر إلا والذي بعده شر منه إلى يوم القيامة) .
وقد رد الحافظ ابن حجر على الكرماني في مسألة في علم الحديث، والكرماني كان متوسط الفهم في علم الحديث، ولم يكن من أهل العلم الكبار، فـ الكرماني تكلم بكلمة أخطأ فيها، فقال الحافظ ابن حجر بعد أن ساق كلامه ورد عليه، قال: ومن تكلم في غير فنه أتى بمثل هذه العجائب.
فعندما يقول هذا الرجل: لماذا رد البخاري خمسمائة وستة وتسعين ألف حديث؟ هل هذه الرواية أصلاً صحيحة عن البخاري؟ لا، الذي صح عن البخاري أنه قال: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح، أي: أن جملة ما كان يحفظه البخاري ثلاثمائة ألف، وكلمة: (غير صحيح) قد تحتمل ما هو أدنى من الصحيح، مثل: الحسن، والإمام البخاري رحمه الله تكلم بمصطلح الحديث الحسن كثيراً، ومنه أخذ تلميذه الإمام الترمذي هذا المصطلح، وجعل له حداً، كما في (العلل الصغير) المطبوع في آخر سننه.
فالإمام البخاري عندما يقول: أحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح، يصح أن نقول: إن الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمنكرة والباطلة أكثر من خمسمائة ألف وقد تزيد، لكن الشأن فيما اختاره البخاري في صحيحه.
إذا كان الإمام البخاري عنده ملكة في تمييز خمسمائة وستة وتسعين ألف حديث غير صحيح، فمعناه أنه صار إماماً ناقداً، فإذا قال: أنا ألفت كتاباً وسميته: (الجامع الصحيح) ، أفيتصور أن يورد في هذا الكتاب الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمنكرة؟! على هذا المفهوم يكون هذا الرجل إما أنه غاش للمسلمين، أو أنه أوهمهم بأنه سيورد الأحاديث الصحيحة ولم يفعل، وإما أنه جاهل لا يدري الفرق ما بين الحديث الصحيح والحديث الضعيف والمنكر.
ليس علينا بما أنكره البخاري، إنما نقول: لماذا تعديتم على صحيح البخاري، وقلتم: إن فيه أحاديث مكذوبة، وفيه إسرائيليات؟ ثم يقول: إن أبا حنيفة رحمه الله كان يحفظ سبعة عشر حديثاً، فإذا كان أبو حنيفة الإمام الكبير الذي مدار الفقه عليه، محفوظه أقل من عشرين حديثاً، فأين هذه الألوف المؤلفة حتى لا يعلمها أبو حنيفة؟ إذاً: كل الأحاديث هذه مكذوبة ومنكرة، بدليل أنها لو كانت هذه الأحاديث صحيحة لكان عند أبي حنيفة أحاديث كثيرة لمجاله الفقهي، وما من مسألة إلا ونحن نحتاج فيها إلى دليل جذري.
يذكرني هذا بما ذكره أهل الأدب عن خالد بن صفوان الخطيب البليغ المشهور، أنه دخل الحمام يوماً فرآه رجل في الحمام وكان ابنه يغتسل في الحمام، وأبوه منتظر له خلف الباب، فلما رأى الوالد خالداً، قال لابنه رافعاً صوته: يا بني! ابدأ بيداك ورجلاك، ثم التفت إلى خالد كالمتباهي، وقال: يا أبا صفوان هذا كلام قد ذهب أهله، فقال له: هذا كلام لم يخلق الله له أهلاً قط.
فعلم هؤلاء بالحديث وقبول الروايات مثل علم هذا الرجل باللغة العربية.
وهذه الأحاديث السبعة عشر التي ينسبونها لـ أبي حنيفة رحمه الله ليست هكذا، إنما القصة: أن علماء الحديث في المدينة كان بينهم وبين مدرسة الكوفة وعلى رأسها أبي حنيفة مشاكل، وأن أهل الكوفة من منظور أهل الحجاز لم يكونوا يهتمون بالأحاديث، ولم يرحلوا في طلبها، ولذلك تكلموا في حفظ أبي حنيفة، فقال البخاري ومسلم وابن معين في رواية، وأحمد بن حنبل وأبو حاتم الرازي وأبو زرعة الرازي وابن عدي والدارقطني: إن أبا حنيفة سيء الحفظ، ولذلك خلت الكتب الستة، ومسند الإمام أحمد، وابن حبان ومستدرك الحاكم والبيهقي من ذكر أبي حنيفة، ومن رواية أبي حنيفة، على اعتبار أنه سيء الحفظ عندهم.
والعلماء من الأحناف أتوا بروايات أخرى عن الأئمة الثقات مثل: ابن معين، وابن المبارك وغيرهم تقول: بأن أبا حنيفة من أحفظ الناس ومن أوثق الناس إلى آخره، حتى قال ابن حبان في المجروحين: إن كل ما لـ أبي حنيفة في الدنيا سبعة عشر حديثاً، ما من حديث إلا قلب إسناده أو متنه، مع قلة ما روى.
فالإمام البخاري لو قلنا: إنه أنكر هذا العدد الكبير من الأحاديث ما علينا من هذا العدد، كل الذي نتكلم عنه صحيح البخاري، لماذا تعديتم على صحيح البخاري وقلتم: إن هناك أحاديث مكذوبة؟ إنما كان ذلك لأنكم لم تفهموها، يا ليتكم قرأتم شروح العلماء الذين شرحوا صحيح البخاري، مع أن لصحيح البخاري أكثر من ثلاثمائة شرح وتعليق، وكذلك صحيح مسلم له قرابة مائة شرح وتعليق.
يقول السيوطي: وانتقدوا عليهما يسيرا فكم ترى نحوهما نصيرا وليس في الكتب أصح منهما بعد القرآن ولهذا قدما إجماع من العلماء، أنه ليس بعد القرآن أصح من هذين الكتابين، وأن الإمامين لاسيما البخاري رحمه الله وضع كتابه على أتقن القواعد العلمية، وشرط البخاري شديد، ومسلم لما رد على علي بن المديني في مقدمة صحيحه وشن الغارة عليه بسبب ضيق شرطه، أما البخاري رحمه الله فما كان يقبل من الحديث إلا ما ثبت لديه -ولو في إسناد واحد- من أن هذا التلميذ لقي شيخه ولو مرة واحدة، وبلغ من ضيق شرط البخاري أنه أهمل قبول رواية أهل البلد الواحد، ما لم يقف على إسناد فيه أن فلاناً قال: حدثني فلان، فالذي يبني كتابه على هذا الشرط الضيق الشديد كيف ينتقدونه هؤلاء الجهلة؟ وكل المسألة أن ظواهر بعض الأحاديث تتعارض عندهم مع ظواهر بعض الآيات، فيقولون: حسبنا كتاب الله، ولو ردوه إلى أهل العلم لعلموا الوجه الصحيح.

عدم معارضة السنة للقرآن وتبيينها له

نقل ابن عبد البر -رحمه الله- في كتاب: التمهيد عن الإمام أحمد، قال: إن الذين يعارضون الأحاديث بظاهر القرآن عملهم منكر، لا ينبغي أن تعترض على الأحاديث بظاهر القرآن؛ لأن القرآن حمال ذو وجوه، والسنة بينت القرآن، فينبغي أن يؤخذ بالمبيِّن، وهذا معنى قول يحيى بن أبي كثير رحمه الله: إن السنة قاضية على كتاب الله، وهذا أيضاً كلام الإمام الدارمي، وابن عبد البر، وجماعة من السلف.
سئل الإمام أحمد هل تذهب إلى أن السنة قاضية على كتاب الله؟ فقال: ما أجسر أن أقوله، إنما السنة مبينة لكتاب الله، إذاً: المسألة لفظية فقط، كأن الإمام أحمد كره هذا اللفظ الذي يتصور منه تقديم السنة على القرآن، فلأجل هذا تحاشى الإمام أحمد تحاشى إطلاق اللفظ، وأتى بلفظ يفهم منه المعنى تماماً، وهو أن السنة مبينة للقرآن.
ومعنى أن السنة قاضية على القرآن أنه إذا اختلف اثنان فيتحاكمان إلى القاضي أليس كذلك؟ كل واحد يدلي بما عنده من دليل، فيقول القاضي: الحق مع فلان، فإذاً: القاضي قضى لفلان بعدما ثبتت حجته وظهرت واستبانت، كذلك السنة.
خذ مثالاً: قال الله تبارك وتعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة:223] ، قال الشافعي رحمه الله: هذه الآية حجة لمن ذهب إلى جواز إتيان المرأة في دبرها، ولكن صح عندنا حديثان في منع إتيان المرأة في دبرها فالسنة قضت على أحد المعنيين في كتاب الله، وهذا معنى أن السنة قاضية على كتاب الله.
أي: أن هناك لفظة في القرآن تحتمل معنيين، فتأتي السنة فتقضي بين المعنيين، وتقول: المعنى الأول هو المراد، والثاني غير المراد، فتكون السنة قد قامت بدور القاضي بين المعاني، فلذلك صارت قاضية على كتاب الله لا أنها مقدمة على كتاب الله.
مثال آخر: قول الله تبارك وتعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] ، فذهب علي بن أبي طالب وابن مسعود رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة، وتابعهما جماهير أهل الكوفة، إلى أن القرء حيض، وذهبت عائشة وأبو هريرة وابن عمر وغيرهم وتابعهم جماهير أهل المدينة، وكذلك الشافعي إلى أن القرء طهر، واللغة العربية تمتاز بهذا الباب الذي هو كلمات الأضداد، فبعض الكلمات تحمل معنى وعكسه، والذي يبين المقصود هو السياق.
مثل كلمة: ظن، فالظن معناه الشك، وقد يكون معناه اليقين، كقوله تبارك وتعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ} [البقرة:45-46] فالآية في سياق المدح لهم، فلا يتصور أن الظن شك؛ لأن الشاك في لقاء الله كافر، فالظن بمعنى اليقين الذي لا شك فيه، وكقوله تبارك وتعالى: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20] ، وقوله: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32] ، وقوله: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس:36] .
كذلك كلمة: وراء، قد تعني: أمام، وقد تعني خلف، أما أنها تعني خلف فعلى بابها، أما (أمام) فكقوله تعالى في قصة الخضر: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:79] أي: أمامهم، لأنه لو كان وراءهم لتجاوزوه، فما هي الحاجة إلى خرق السفينة، فهذه اللفظة تحمل عكس معنى اللفظ الأصلي.
فمن كلمات الأضداد كلمة: قرء، يعني: طهر، وحيض، فأهل الكوفة قالوا: حيض، والدليل على ذلك أن المرأة التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشتكي نزول الدم منها بصورة مستمرة، وقال لها النبي عليه الصلاة والسلام: (دعي الصلاة أيام أقراءك) ، أي: اتركي الصلاة في أيام أقراءك، فهذا يدل على أن القرء حيض، فالسنة هنا قضت لأحد المعنيين على الآخر، وهذا هو معنى السنة قاضية في كتاب الله، وهي مبينة.
وتصوروا أيها الإخوة! إذا ضاع البيان فهل يستفاد من النص المجمل؟ فهؤلاء يأتون على أحاديث لا يفهمونها على وجهها، فيقولون: هذه مكذوبة، وهذه موضوعة.
نقول: إن الحكم على الحديث بالوضع، أو بالنكارة، أو البطلان، أو الشذوذ، أو الصحة، أو الحسن، إنما يخضع أولاً للإسناد، قال ابن المبارك: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء.
نتمنى أن تكون هناك نهضة عملية في علم الحديث، لا يظل الحديث في الدفاتر، لكن يجب أن نمارس علم الحديث على الواقع.
لأننا لو مارسنا علم الحديث على الواقع لتقلص كثير من القيل والقال، كل إنسان يكتب كلمة نسأله عن دليله، ثم نسأله من سبقه إلى هذا القول من أهل العلم؟!

الرد على من يقول: إن بعض رواة الصحيح متكلم فيهم

ورب قائل يقول: ها هو البخاري الذي ما فتئتم تقولون: إنه لا يخرِّج في صحيحه إلا أصح الصحيح، مِن الرواة الذين هم في القمة، فها هو أحد رواته مُتَكَلَّمٌ فيه! كيف خرَّج له البخاري وقد تَكَلَّم فيه أهل العلم؟ نقول له: أولاً: الإمام البخاري لما روى هذا الحديث رواه من طريق شيخين آخرين هما في القمة، إذاً: هاذان الاثنان تابعا عارم بن الفضل أم لا؟ نعم تابعاه.
انتهى الإشكال! إذا كنت غضبان من عارم فاجعله جانباً، بقي الحديث الصحيح من الطريق الصحيح؛ لكن هذا يدل على أن عارماً حفظه، ولم يخلط فيه، بدلالة متابعة مسدد بن مسرهد، ومتابعة موسى بن إسماعيل أبو سلمة التبوذكي، كلاهما روى هذا الحديث عن أبي عوانة وضاح بن عبد الله اليشكري، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
فمن الأشياء التي يدفع بها العلماء ضعف الراوي أو الكلام فيه: المتابعات الصحيحة.
هذا أولاً.
ثانياً: نفترض أن البخاري روى لـ عارم ولم يوجد له متابعة في صحيح البخاري، فما ردك؟ نقول: ننظر إلى هذا الحديث خارج صحيح البخاري، فسوف نجد متابعة لهذا الراوي خارج الصحيح، من الثقات، فيكون لا عتب على البخاري؛ لأن هذا الراوي توبع خارج الصحيح.
إذاً نفترض أن هذا الراوي ليس له متابعة داخل الصحيح، ولا خارج الصحيح، والعلماء تكلموا فيه، فما جوابك عن البخاري؟

اعتراض أبي زرعة على بعض رواة مسلم وجواب الإمام مسلم عليه

أقول: يبقى الجواب الذي أجاب به الإمام مسلم رحمه الله عن نفس هذا الاعتراض، الذي وجهه إليه سعيد بن عمرو البرذعي وهو أحد الملازمين لإمام الجرح والتعديل عبيد الله بن عبد الكريم، الذي هو أبو زرعة الرازي.
الخطيب البغدادي روى في تاريخه عن سعيد بن عمرو البرذعي قال: شهدت أبا زرعة الرازي وعرض عليه كتاب: الصحيح لـ مسلم -هل تعرف أن أبا زرعة الرازي، وأبا حاتم الرازي، والإمام مسلماً، والإمام البخاري أقران -يعني: أقران في كل من الطلب والزمن- فـ سعيد بن عمرو البرذعي جالس عند أبي زرعة الرازي فجاءه رجل وقال له: هذا الكتاب لـ مسلم بن الحجاج ألفه وسماه: الصحيح، وثَمَّ عالم اسمه: الفضل الصائغ أيضاً صنف في ذلك الوقت كتاباً سماه: الصحيح، فقيل لـ أبي زرعة: فما رأيك في هذا الصنيع؟ قال: فرأيت أبا زرعة يستنكر ذلك ويقول: هؤلاء قومٌ أرادوا رئاسة لأنفسهم قبل أوانها، فصنفوا كتباً يتتوقون بها -يتتوقون بها يعني: أنفسهم تتوق إلى شيء- ثم بدأ أبو زرعة الرازي يقلب صفحات صحيح مسلم وإذا حديث لـ أسباط بن نصر، فقال أبو زرعة: أسباط بن نصر يُروَى له في الصحيح؟! ثم قلَّب ورقتين أو ثلاثاً أو أربعاً وإذا به يجد قطن بن نسير وهو من شيوخ مسلم، قال: وقطن يُخَرَّج له في الصحيح؟! هذا أهم من الأول، ثم قلَّب ورقتين أو ثلاثاً وإذا به يجد أحمد بن عيسى المصري، قال: وعيسى المصري؟! ما رأيت أهل مصر يشكون في أنه.
وأشار إلى لسانه.
ماذا يعني هذا؟ يعني: أن أهل مصر يقولون: إن أحمد بن عيسى يكذب، فكيف يروي أحمد بن عيسى في الصحيح؟! ثم قال: يترك ابن عجلان ونظراءَه ويمهد الطريق لأهل البدع علينا، حتى إذا لم يروِ الحديث قالوا: ليس بالصحيح؟! قال: ورأيته يعظِّم ذلك ويستنكره.
قال سعيد بن عمرو البرذعي: فلما رجعتُ إلى مسلم حكيتُ له اعتراض أبي زرعة.
فانظر ماذا سيقول الإمام مسلم، هذه الإجابة التي ينبغي أن لا نغفلها، ونحن ننظر إلى الأسانيد التي في الصحيحين، وفي بعضها كلام.
قال مسلم: إن ما قلته من الاعتراض صحيح، وأنا أقر به.
إذاً: مسلم يعلم أن هؤلاء الرواة مُتَكَلَّم فيهم، ومع ذلك خَرَّج لهم.
إذاً: ما عُذْرُك أيها الإمام؟ قال: إن الحديث قد يكون معروفاً بنزولٍ من رواية الثقات، وهو معلومٌ عند أهل العلم، فوقع لي من طريق هؤلاء عالياً، فخرَّجته رجاء العلو، والحديث معروفٌ أصلُه عند أهل العلم من روايات الثقات.
ما معنى هذا الكلام؟ هناك في الحديث: العلو والنزول، وأشرف أنواع العلو: هو: تقليل عدد الوسائط، بأن تصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسنادٍ (نظيفٍ) وبِعددٍ قليل.
يعني مثلاً: عُدَّ معي: أحمد بن حنبل قال: حدَّثنا سفيان بن عيينة -ما شاء الله! حُفَّاظ- عن الزهري عن أنس، فهذا إسناد رباعي.
حسن كم هؤلاء؟! أربعة.
ولو قلنا: سفيان بن عيينة قال: حدثنا الزهري، عن أنس: كم بين سفيان وبين الرسول صلى الله عليه وسلم؟ اثنان.
وكم بين أحمد وبين الرسول صلى الله عليه وسلم؟ ثلاثة.
فأيهما أعلى سنداً: سفيان أم أحمد؟ سفيان لماذا؟ لأن عدد الوسائط بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم أقل، وهكذا، كلما كان الإسناد ثلاثياً كان أعلى، أو رباعياً كان أنزل، أما لو كان خماسياً فالرباعي أعلى منه، وهكذا.
فأعلى سند في البخاري بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة، يسمونه العلماء: ثلاثيات البخاري.

علو الإسناد وأهميته عند علماء الحديث

فأشرف أنواع العلو أن تصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بإسنادٍ نظيف، يقل فيه عدد الوسائط بينك وبينه صلى الله عليه وسلم، لأنه -صلى الله عليه وسلم- مثل المصباح، كلما اقتربت إلى المصباح ازداد الضوء، وكلما ابتعدت عنه قل هذا الضوء، وإن ابتعدت كثيراً أوغلت في الظلمة، لهذا كان العلماء يتهافتون على العلو.
الإمام البخاري أرفع الأسانيد من جهة العلو عنده: بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة، حتى يصل إلى خمسة، فيكون بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم خمسة، فأنت مثلاً لو قُدِّر أن يكون لك سند إلى البخاري، فتعد الوسائط التي بينك وبين البخاري، ثم بعد البخاري وشيوخه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتنظر كم بينك وبين النبي عليه الصلاة والسلام.
السندي كان يقول: لمثلي فليسعَ! بيني وبين البخاري تسعة، وهذا كان أعلى سند موجود في الدنيا، والبخاري كذلك بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة رواة، فيكون بـ البخاري أربعة، فالأربعة مع التسعة يصبحون ثلاثة عشر راوياً فقط، إذاً: السندي متأخر، لما يكون بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر راوياً فقط فهذا أعلى إسناد، في سنن النسائي، والنسائي كما تعرفون من طبقة البخاري، يعني: أدرك أغلب مشايخ البخاري وتسعون بالمائة من مشايخ البخاري أدركهم الإمام النسائي وروى عنهم، بين النسائي في هذا الحديث وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية، فأنزل سند موجود في سنن النسائي: بين النسائي وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثمانية.
فالقصد أن الإمام مسلم لرغبته في العلو يقول: رب حديثٍ يكون الراوي المُتَكَلَّم فيه -لو أنني أخذت الإسناد من طريقه إلى النبي صلى الله عليه وسلم- بيني وبين النبي صلى الله عليه وسلم خمسة، أو أربعة، فإذا أردتُ أن آخذه من طريق غيره من الثقات نزلتُ درجة أو درجتين.
فيكون بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم إما ستة أو سبعة، أو أكثر.
فيقول: لا.
أنا علمتُ أن هذا الراوي المُتَكَلَّم فيه لم يغلط في هذا الحديث بدلالة المتابعات من الثقات، والحديث معروفٌ لدى أهل العلم جميعاً أنه صحيح، وأن الثقات رووه، وأنا ثبت لديَّ أن هذا الراوي وإن تُكُلِّمَ فيه لكنه لم يغلط في هذا الحديث، فرغبةً مني في أن أعلو بسندي، اخترت هذا الطريق، وتركتُ الطريق الآخر لنزوله، واكتفاءً بشهرته عند أهل العلم.
فالإمام مسلم قال: إن هذا هو عذري في التخريج لمن أخرجت عنه وهو مُتَكَلَّمٌ فيه.

احتياط البخاري ومسلم في الرواية عن المتكلم فيهم

ومع ذلك فقد احتاط البخاري قبل مسلم -وهو شيخه-، ومسلم على وجه الخصوص؛ لأن الصناعة الحديثية في صحيح مسلم أكثر منها في صحيح البخاري.
فاحتاط مسلم في رواية مَن تُكُلِّمَ فيه، وبالذات هؤلاء الثلاثة الذين اعترض عليهم أبو زرعة الرازي، فـ أسباط بن نصر ليس من شيوخ مسلم، ولكنه من شيوخ شيوخه، يروي عنه بواسطة، ولم يرو مسلم لـ أسباط إلا حديثاً واحداً فقط في الصحيح، وهو الحديث الذي يرويه أسباط بن نصر، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة الأولى، ثم استقبله صبيان فجعل يمسح خَدَّي أحدِهم، فلما مسح خَدِّي وجدتُ لكفه برداً وليناً كأنها خرجت من جؤنة عطار) هذا هو الحديث الوحيد الذي أخرجه مسلم لـ أسباط بن نصر.
أما أحمد بن عيسى المصري الذي تكلم فيه أبو زرعة الرازي وأشار إلى لسانه، كان الخطيب البغدادي يقول فيه: لم أجد حجةً لمن ترك حديث أحمد بن عيسى المصري.
وأحمد بن عيسى المصري له في صحيح مسلم اثنان وثلاثون حديثاً تقريباً، لم يرو له مسلم منفرداً في صحيحه، إلا ثلاثة أحاديث، توبع عليها جميعاً، والمتابعون كلهم من خارج مصر، إذاً: لم يتفرد أصلاً بها.
وبقية الأحاديث كان مسلم يقرن ما بين رواية أحمد بن عيسى وغيرِه، فكثيراً ما يقول: حدثنا أبو الطاهر -الذي هو أحمد بن عمرو بن السرح - وأحمد بن عيسى، أو يقول: حدثنا حرملة بن يحيى، وأحمد بن عيسى، أو عمرو بن سواد وأحمد بن عيسى، يعني: أن مسلماً يروي لـ أحمد بن عيسى مقروناً بغيره، فقد احتاط، والأحاديث التي أخرجها وانفرد بها أحمد توبع عليها في الكتب الأخرى، في السنن وصحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم وغيرها.
بقي قطن بن نسير لم يرو له مسلم في صحيحه إلا حديثين: الأول متابعةً، والآخر مقروناً بغيره.
في المتابعات أخرج الحديث الذي رواه أنس، لما نزل قوله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2] : (اعتزل ثابت بن قيس وكان رجلاًَ جهوري الصوت -صوتُه عالٍ-، وقال: أنا من أهل النار؛ لأنني كنت أرفع صوتي على صوت النبي، فافتقده النبي صلى الله عليه وسلم أياماً، فسأل عنه سعد بن معاذ، قال: يا أبا عمرو! ما فعل ثابت، أشتكى؟ -أي: أهو مريض؟ - فقال: يا رسول الله! أنا جاره وما علمته يشتكي، ثم انطلق إليه يسأل عنه، فإذا هو معتزلٌ في داره لا يخرج، قال: ما لك، قال: أنا من أهل النار؛ لأنني كنت أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: قل له: أنت من أهل الجنة) .
فهذا الحديث رواه الإمام مسلم رحمه الله أولاً بسندٍ (نظيف) ، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا الحسن بن موسى الأشيب، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن أنس بن مالك، هذا السند الذي افتتح به مسلم هذا الحديث في صدر الباب، سند كالشمس، صحيحٌ أن حماد بن سلمة مُتَكَلَّمٌ فيه بكلام يسير، لكنه كان أوثق الناس في ثابت البناني، إذا سمعتَ حماد بن سلمة، عن ثابت البناني فاعلم أنه لا غبار عليه؛ لأن حماداً كان أوثق الناس، من الممكن أن يُضَعَّف في بعض الشيوخ الآخرين؛ لكن في ثابت لا.
بعد أن أورد الإمام مسلم هذا الحديث بهذا السند (النظيف) : أبو بكر بن أبي شيبة، عن الحسن بن موسى الأشيب، عن حماد بن سلمة، عن ثابت بن أسلم البناني، عن أنس بن مالك قال: الحديث.
وحدثنا قطن بن نسير، أليس قطن هذا هو الذي اعترض عليه أبو زرعة؟! الإمام مسلم أخَّرَ رواية قطن ولم يقدمها؛ لأن مسلماً في البداية إنما يعتمد على سندٍ متين، ثم يجيء بعد ذلك بأسانيد قد يكون في بعضها مقال، يريد أن يقول لك: لو اعترضتَ على السند الثاني هذا، فأنا اعتمادي على السند الأول، وبه يثبت الحديث، إنما أوردتُ هذه الأسانيد ليكون نوعاً من التقوية، أي أنه نور على نور.
فبعد أن أشرتُ أن الإسناد أولاً جاء بسند (نظيف) ، جاءَ برواية قطن، قال: حدثنا قطن بن نسير، قال: حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي، عن ثابت بن أسلم البناني، عن أنس بن مالك.
فانظر إلى السند الأول: حماد بن سلمة، عن ثابت.
وهنا: جعفر بن سليمان، عن ثابت.
فهذان اثنان عن ثابت.
ثالثاً: ثم رواه مسلم بعد ذلك عن سليمان بن المغيرة، عن ثابت.
رابعاً: ثم رواه عن سليمان التيمي عن ثابت.
إذاً: هؤلاء أربعة يروونه عن ثابت بن أسلم البناني.
فـ مسلم روى هذا عن قطن بن نسير متأخراً في المتابعات، فيكون مسلم بهذا قد احتاط.

تقدم البخاري ومسلم في علم الحديث

فلا تعترض على البخاري ولا على مسلم؛ لأن هذين الإمامين اتفق أهل العلم على تقدمهما في صناعة الحديث، والمعروف أن كل صنعة لها أهلها.
فلما يقال -مثلاً-: اتفق سيبويه والكسائي -مع اختلاف المدرستين- على شيء في اللغة، فمثله وأعظم منه في الحديث إذا قيل: اتفق عليه البخاري ومسلم.
فلما يتفق أهل الصنعة على شيء يقال: فلان هذا مقدم، فلا تعترض عليه إذا ظهر لك اختياره.
فـ البخاري وإن كان الراوي مُتَكَلَّمٌ فيه، إلا أنه انتقى من أحاديثه ما لم يغلط فيه.
إذاً: لا تأت وتقول له: كيف أخرجتَ له والعلماء تكلموا فيه؟ فسيقول لك: أنا أعرف أنهم تكلموا فيه؛ لكن هذا الذي أخرجتُه له مما لم يغلط فيه.
وسأورد لكم مثالاً -واعذروني على إتياني بمثال كهذا- لو كان هناك قفص (طماطم) أو قفص (مانجو) وفيه -مثلاً- ستون أو سبعون حبة، منها ثلاثون أو أربعون حبة معطوبة، فماذا ستعمل؟ تنتقي من هذا القفص الحبات السليمة.
فأنا يمكنني أن أقول لك: هذا القفص كانت فيه حبات معطوبة.
ستقول: أنا أعلم أن فيه حبات معطوبة، ولكن هل أتركُه كلَّه؟ أنا انتقيت ما لم يدركه العَطَب.
كذلك علماء الحديث، إذا كان الراوي متكلماً فيه، فالمعروف أن هذا الرجل لم يغلط في كل أحاديثه، إنما غلط في بعض أحاديثه، فأنا بما لي من الخبرة والعلم والدربة والممارسة عرفتُ أن هذا الراوي أخطأ في عشرة أحاديث، أو عشرين حديثاً، أو مائة حديث، أو ألف حديث، والباقي لم يغلط فيها، فأخذت ما لم يغلط فيه وخرَّجته عندي، أي ملامة عليَّ في ذلك؟ فالإمامان البخاري ومسلم عملا هكذا.
من أجل هذا لا تنظر في أسانيد الصحيحين، فإن أسانيد الصحيحين صحيحة، إلا بعض أحرف قام الدليل على الغلط فيها، وأهل العلم يعتذرون عن البخاري وعن مسلم بحيث إذا صادفنا شيء من ذلك ذكرناه؛ لكن لا يختلف اثنان في تقدم البخاري رحمه الله، فإذا أخرج البخاري لراوٍ مُتَكَلَّمٍ فيه حديثاً، فهو قد انتقى من حديثه ما لم ينكروه عليه، ويكفي أن نعطي مثلاً بأول حديث في صحيح البخاري الذي قال فيه: حدثنا الحميدي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، قال: حدثنا محمد بن إبراهيم التيمي، قال: سمعت علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه -وفي رواية للبخاري: على المنبر- يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أيها الناس! إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى ... ) إلى آخر الحديث المشهور.
فهذا الإسناد (نظيف) و (مذهَّب) ، ما عدا محمد بن إبراهيم التيمي، سئل عنه الإمام أحمد فقال: له مناكير.
فرب واحد يقول لك: إذاً ما دام له مناكير، فكيف خرَّج له الشيخان؟ نقول: الإمام أحمد قال: له مناكير، ولم يقل: كل أحاديثه مناكير، أو هو منكر الحديث، بل قال: له مناكير.
فهذا الحديث مما اتفق أهل العلم جميعاً على أن محمد بن إبراهيم التيمي حفظه، وأنه لم يغلط فيه، فلا يقول قائل: هذا الحديث -وإن كان في الصحيحين- في إسناده محمد بن إبراهيم التيمي، وقد قال أحمد: له مناكير، فإنه يسقط.
إذاً: أي إسناد في الصحيحين فيه راوٍ مُتَكَلَّمٌ فيه، اعلم أن هذا مما انتقاه صاحب الكتاب، وأن هذا ليس من جملة ما غلط فيه هذا الراوي.
إذاً: عندنا ثلاثة رواة عند البخاري يروون هذا الحديث عن أبي عوانة، وثمة آخرون من الثقات يروون هذا الحديث عن أبي عوانة، فهذا الحديث يرويه مسلم في صحيحه أيضاً من طريق شيخيه أبي كامل الجحدري فضيل بن حسين وشيبان بن فروخ، قالا -هذان الاثنان-: حدثنا أبو عوانة.
قلنا: البخاري في هذا الموضع قال: حدثنا عارم، أليس كذلك؟! وفي كتاب العلم سيأتي بعد ذلك، قال: حدثنا مسدد، وفي كتاب الوضوء قال: حدثنا موسى بن إسماعيل التبوذكي أبو سلمة، فهؤلاء ثلاثة قالوا: حدثنا أبو عوانة.
فكم واحد في البخاري؟ ثلاثة.
إذاً: هؤلاء ثلاثة في البخاري.
ومسلم روى هذا الحديث من طريق شيبان بن فروخ، وأبي كامل الجحدري فضيل بن حسين، قالا: حدثنا أبو عوانة.
فكم شخصاً رواه عن أبي عوانة؟ خمسة.
وأحمد قال في المسند: حدثنا عفان بن مسلم، قال: حدثنا أبو عوانة.
فكم صاروا؟ صاروا ستة.
والطحاوي في: شرح معاني الآثار يرويه من طريق أبي داود الطيالسي.
فصار هؤلاء سبعة.
وعندنا أبو عوانة يرويه من طريق معلى بن أسد، قال: حدثنا أبو عوانة.
كم صار العدد؟ ثمانية.
فهذه الأسماء كلها متابعات.
إذاً: هذه الطبقة هي طبقة شيخ البخاري، انظر كم واحداً روى الحديث! كلهم يأخذ الحديث عن نفس الشيخ وبنفس السند إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
معنى الحاء الموجودة في بعض الإسناد
ونريد أن ننبه هنا إلى سبب وجود حرف (الحاء) في الإسناد، فهذه (الحاء) : هي حرف تحويل، يعني: الإمام يريد أن يقول لك: أنا سأحول الحديث إلى شيخٍ آخر لي، يعني: بعدما يروي الحديث بسنده عن شيخه، مثل أول حديث في صحيح مسلم الذي افتتح به كتابه، قال: حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب، حدثنا وكيع، عن كهمس، عن ابن بريدة، عن يحيى بن يعمر، ثم قال: (ح) ثم قال: وحدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري وهذا حديثه، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر.
فشيخه الأول هو زهير بن حرب أبو خيثمة، وهو هنا كأنما قال: أنا سأحول الإسناد إلى شيخٍ آخر، يعني أن حديثي يسنده إسنادان.
وأحياناً يحول إلى ثلاثة أو أربعة.
فحرف (ح) أول ما تراها في الأسانيد اعرف أنها حرف تحويل، أي: هو لتحويل الإسناد، وتجدونه بكثرة في صحيح مسلم، وتجدونه بقلة في صحيح البخاري.
ثم أخيراً ما يرويه الطحاوي في شرح معاني الآثار عن سهل بن بكار، عن أبي عوانة، فهؤلاء تسعة يروون الحديث عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن يوسف بن ماهك، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
وعند الله تجتمع الخصوم ... [ وداعا ]

أيّ عذر والأفاعي تتهادى .... وفحيح الشؤم ينزو عليلا

وسموم الموت شوهاء المحيا .... تتنافسن من يردي القتيلا

أيّ عذر أيها الصائل غدرا ... إن تعالى المكر يبقى ذليلا


موقع متخصص في نقض شبهات الخوارج

الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية عرض وتفنيد ونقض
نقض تهويشات منكري السنة : هدية أخيرة

الحداثة في الميزان
مؤلفات الدكتور خالد كبير علال - مهم جدا -
المؤامرة على الفصحى موجهة أساساً إلى القرآن والإسلام
أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية
مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة