هام جدا: آداب الفَسْبَكَة
26-02-2017, 04:08 PM
هام جدا: آداب الفَسْبَكَة
د. بلال فيصل البحر
الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده؛ أما بعدُ:
فهذه جملٌ من الأخلاق والآداب والسير والسلوكْ، تتعلق باستعمال موقع التواصل الاجتماعي الذي يُقال له:( الفيس بوكْ): ينتفع بها المفَسْبكون، ويتَّعظ بها المتواصلون، سواء الأصدقاء والأحباب المجتمعون، أو الإخوة والأهل المقرَّبون، علَّقتها تذكرة لشخصي المسكينْ، ولمن رام الانتفاع بها من معاشر المفسبكينْ، سلكتُ فيها طريق التلخيص فجاءتْ كالمختصرْ، كراهة ما يحصل بالتطويل من السآمة والملل والضجرْ، والله تعالى المسؤول، وهو: خير مرجوٍّ ومأمول، أن ينفع بها النفع العميم، ويجعلها خالصة لوجهه الكريم، مقرِّبة للزُلْفى لديه في جنات النعيم، آمين، وإلى المقصود:
اعلم أن الفَسْبَكَةَ سوقٌ يعرض الناسُ فيه عقولهم، فإما:( بهرجٌ ينكشف وزَغَلٌ ينْكَب)، أو:( رأيٌ صائبٌ ثاقبٌ يجتنى ويجتلَبْ).
فاجعل أيها المفَسْبِكُ في رأسك عقلاً، وتأنَّ فيما تخرجه للناس؛ فإنَّ القليل الذي لا يردى به صاحبُه: خيرٌ من الكثير الذي يفضحُه.
وليكن الأمر فيما تنطقُ به شفتاكْ، وتخُطُّه يداكْ، كما قال أمير المؤمنين عليٌّ رضي الله عنه: " ليتَ أن لي رقبةَ بعير، حتى أُفكر في الكلمة قبل أن تخرج من فمي".
فإياك أن تكتب ما لعله يكون عليك حسرة وندامة، ويضع من قدرك عند الفضلاء والكَمَلة، كما قيل:
وما من كاتبٍ إلا ستَبْقى ÷ كتابتُه وإنْ فنيتْ يداهُ
فلا تكتبْ بكفِّك غيرَ شيءٍ ÷ يسرُّك في القيامة أنْ تراهُ
وقدِّم الاحتسابَ، واستحضِرِ النية الخالصة لله تعالى فيما تكتبه وتُفَسْبِكُه: رجاءَ ما عند الله من الخير في الدنيا والأخرى، وهو أول ما ينبغي على المُفسبِك مراعاته؛ حتى يقع كلامك من قلوب الناس موقعًا، ويضع الله له القبول بينهم، وقد قال علي بن الفضل لأبيه:" ما أحلى كلام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!، فقال له: أتدري لمَ حلا؟، قال: لا، قال: لأنهم أرادوا الله به".
ولا يكنْ همُّك من ولوج هذا الفضاء الأزرق:" الشهرةَ أو الجدلَ والمماراةَ مع المفسبكين"؛ فيعاقبك الله بنقيض قصدِك، وقد قال القاضي أبو يوسف صاحب أبي حنيفة: "ما جلستُ مجلسًا أردتُ فيه الرفعة إلا أذلَّني الله، ولا جلستُ مجلسًا أردتُ فيه الخفاء إلا رفعني الله".
وهذا الفيس إنما هو:" منبر للدعوة إلى الفضائل، واجتناب الرذائل"، فلعل كلمة الحق والفضل التي قالها لسانُك، وزبرها بنانُك: تصل إلى من لا يحصيه إلا الله من الورى، فتكون بذاك محمودًا عند الله، ويقع لك به عند العام والخاص:" جميل الذكر وحميد الأثر"، وتأمل قول الحق:[وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ].
فإنْ كتبتَ مُفسبِكًا فائدةً أو لطيفةً، فلا يكنْ همك ونهمتك إلا إفادة الأصدقاء والخلَّان، وانتفاع الصحب والإخوان: ابتغاءَ فضل الرحمن، وإياك أن تكون أخسر من صاحب الثمانين والراعي، ويكون حظك من هذا الفيس: مجرد السعي لإعجاب معجب، أو ثناء معلِّق، أو مشاركة مشارك!!؟.
ومن عجائب هذا الفضاء الأزرق: أن تجد مفسبكًا كتب ما لا طائل منه، ولا فائدة فيه، فترى لما كتب: مئات المعجبين والمادحين!!!، ولا سيما إن كان المفسبِك ممن يخطَب ودُّه، كالفتيات أو المشاهير، في حين أنك ترى فاضلاً فسبَكَ بفائدة لطيفة، أو نادرة طريفة، ثم لا تجد له من المعجبين، إلا دون العشرة والعشرين!!؟.
فلا يصدَّنك هذا أيها المفسبِك الفاضل عن إفادة الأصدقاء ونفعهم؛ فإنك إنما ترتجي من الفسبكة:" السلعةَ الغاليةَ" التي لا تُدرك بإعجاب أو ثناء، وليكن شأنك معهم كما قال أبو الحسين بن سراج للمعتمد بن عباد:
بُثَّ الصنائعَ لا تحفلْ بموقعِها ÷ من آملٍ شَكَرَ الإحسانَ أو كَفَرَا
فالغيثُ ليس يبالي أينما انسكبتْ ÷ منه الغمائمُ تُرْبًا كان أو حَجَرَا
ومن عبارات المصلحين: "أصلِحْ نفسَك، وادعُ غيرَك، ودعِ القافلة تسير".
فلا تلتفت إلا إلى العلياء، وإياك وسفاسف الأمور، قال أبو الحسن النعيمي:
إذا أعطشتكَ أكفُّ اللئام ÷ كفَتْكَ القناعةُ شِبعًا ورِيَّا
فكُنْ رجلاً رجلُه في الثَّرى ÷ وهامةُ هِمَّته في الثُّريَّا
أبيًّا بنفسك عن باخلٍ ÷ تراه بما في يديه أبيَّا
فإنَّ إراقَةَ ماء الحيا ÷ ةِ دون إراقة ماء المحيَّا
ولتعتنِ أيها المفسبك بانتقاء الأصدقاء، وتخيَّرِ الأصحاب والرفقاء، الذين يسرحون في عالمك الفسبكي، وقد قال تعالى:[ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً]، وقال: [الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ].
وعند مسلمٍ: عن أبي موسى رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:" إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير؛ فحامل المسك إمَّا أن يُحذيَك، وإمَّا أن تبتاع منه، وإما أن تجدَ ريحًا طيِّبةً، ونافخ الكير إما أن يُحرِق ثيابَك، وإما أن تجد ريحًا خبيثةً".
وقال الشاعر:
تجنَّبْ قرينَ السوء واصرمْ حبالَه ÷ فإن لم تجدْ عنه محيصًا فدارِهِ
وقال غيره:
اصحبْ خيارَ الناس حيثُ لقيتَهمْ ÷ خيرُ الصحابة من يكون عفيفا
والناسُ مثلُ دراهمٍ ميَّزتَها ÷ فوجدتَ منها فضةً وزيوفا
وكان مالك بن دينار يقول: " نقل الحجارة مع الأبرار، خير من أكل الخبيص مع الفجار"، والخبيص: الحلوى.
وعن عليٍّ رضي الله عنه:" عليكم بالإخوان؛ فإنهم عُدَّة الدنيا وعُدَّة الآخرة، ألم تسمع إلى قول أهل النار:[ فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ]؟".
وقال جعفر الصادق رضي الله عنه: "استكثِروا من الأصدقاء المؤمنين؛ فإن لهم شفاعة يوم القيامة"، ثم قرأ:[فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ]، ونحوه عن الحسن البصري.
وقد نظم هذا المعنى ابن معصوم، فقال:
حافظْ على الصديقِ ÷ في الوسع والمضيقِ
فهمْ نسيمُ الروحِ ÷ ومرهمُ الجروحِ
وفي الحديث الناطقِ ÷ عن الإمام الصادقِ
مَنْ كان ذا حميمِ ÷ يُنجى من الجحيمِ
كقولِ أهل النارِ ÷ وعُصبة الكفَّارِ
فما لنا من شافعِ ÷ ولا حميم نافعِ
وفي صحيح البخاري:( 9/130):" ربنا، إخواننا، كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، ويعملون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويُحرِّم الله صورهم على النار، فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من عرفوا، ثم يعودون...".
وكان الإمام العلامة أبو الفرج بن الجوزي يقول لأصحابه:" إن لم تجدوني في الجنة بينكم، فاسألوا عني وقولوا: ربَّنا، عبدك فلان كان يُذَكِّرنا بك "، ثم بكى رحمه الله.
وليكن المعيار عندك في اصطفاء الأصدقاء والإخوان، وانتقاء الصحب والخلان: ما نقشَه مأمون بن آدم على باب داره:
إنْ كنتَ صاحبَ علمٍ أو أخا أدبٍ ÷ أو فيكَ فائدةٌ فانزلْ ولا تَرِمِ
وإنْ تكنْ صورةً لا فيك منفعةٌ ÷ ولا مؤانسةٌ فارحلْ ولا تُقِمِ
فليكن جليسُك وأنيسُك الفسبكي: كما قيل في وصف الكتب:
لنا جُلساءُ ما نملُّ حديثَهمْ ÷ ألبَّاءُ مأمونون غيبًا ومشهدا
يُفيدوننا من علمهمْ علمَ مَنْ مضى ÷ ورأيًا وتأديبًا ومجدًا وسؤددا
فلا غِيبةٌ تخشى ولا سوءُ عِشرةٍ ÷ ولا نتقي منهمْ لِسانًا ولا يدا
فإن قلتَ: أمواتٌ، فلستَ بكاذبٍ ÷ وإن قلتَ: أحياءٌ، فلستَ مُفنَّدا
وقد نظم ابن معصوم الشيرازي صفة من يستحق أن يُصادق، فقال:
أخو صلاحٍ وأدبْ ÷ ذو حسبٍ وذو نسبْ
رَبُّ صلاحٍ وتُقى ÷ ينهاكَ عمَّا يُتَّقى
من حيلةٍ وغدرِ ÷ وبدعةٍ ومكرِ
مُهذَّبُ الأخلاقِ ÷ يطربُ للتلاقي
يحفظُ ما في عَيْبَتكْ ÷ يصون ما في غيبتكْ
يزينه ما زانكا ÷ يشينه ما شانكا
يُظهرُ منك الحَسنا ÷ ويذكرُ المستحسنا
ويكتمُ المعيبا ÷ ويحفظُ المغيبا
يسرُّه ما سرَّكا ÷ ولا يُذيع سِرَّكا
إن قال قولاً صدَقَكْ ÷ أو قُلتَ قولاً صدَّقكْ
وإنْ شكوتَ عُسرَا ÷ أفدتَ منه يُسرَا
يلقاكَ بالأمانِ ÷ في حادث الزمانِ
يُهدي لكَ النصيحه ÷ بنيَّةٍ صحيحه
خُلَّتُه مُدانيه ÷ في السرِّ والعلانيه
صُحبَتُه لا لغرضْ÷ فللقلبِ مرضْ
لا يتغيَّر إن ولِي ÷ عن الوداد الأولِ
يرعى عهودَ الصحبه ÷ لا سيما في النكبه
لا يُسلِمُ الصديقا ÷ إن نالَ يومًا ضيقا
يعينُ إنْ أمرٌ عنا ÷ ولا يفوه بالخَنا
يولي ولا يعتذرُ ÷ عما عليه يقدرُ
هذا هو الأخُ الثقة ÷ المستحقُّ للمقة
إنْ ظفرتْ يداكا ÷ فكِدْ بهِ عِداكا
يتبع إن شاء الله.