صحوة
28-09-2007, 10:28 PM
صحوة
وطـّنت نفسهـا على الخوف منه منذ صغرهـا، لا بد لها من تلك الرجفـة الآلية كلمـا ناداها، أو نادى أحدا من أهـل الدار..
شبت مسعودة غيـر مزهوة بجمالها البدوي الأخاذ، ولـم تستمتع ككل بنات الدنيا بالأبوة اللطيفة الحانية..كانت تفطر علـى إهانـات صباحية لأمـها الذليلة التـي تنال المعاملـة القاسية، وتضرب ضربا مبرحا لأتفه الأسبـاب،و بـلا أسباب.. فليس هناك من يمنعه على استعمال جبروتـه على أهـل البيت جميعهــم ..
كانت تتألـم ، وتبكـي البكاء المـرّ، وهـي تراه كالوحــش الضاري ينهـال على أمها شتما وضربا إلى أن يتركها جثـة هامدة ..
تحـاول أن تتدخـل لإنقــاذ والدتهـا الحنـون من قبضتـه العاتيـة، تتذكّـر ما حدث لأخيهـا الأكبر ذات يـوم، فتمتنع عن المجازفة .. لقد ربطه إلى جذع شجرة العرعار غير البعيدة من البيت وراح يتفنن في تعذيبـه ، ورغــم استغاثات الابـن واستعطاف الأم والإخـوة وبكائهـم، إلا أن نداءاتهـم قوبلـت بالتعنيف والسباب؛ ولم تشفع له سوى إغماءته..
منظره وهـو هائـج، كابوس يؤرقـها، ويمنع ابتسامتهـا الصغيرة الحلوة من الإشراق..كانت تضع رأسها الصغير بين كفيهـا وتطرق إلى الأرض بعينيهـا الواسعتيـن، أو تطلـق العنان لأفكارها متأملــة في الآفاق البعيدة..
أجمل الأوقات عند أهل البيت.. هو غيابه عنهـم في بعض شؤونه.. لقد كان الوقت المستقطع للراحة يتنفسون فيـه الهواء بحرية.. ففيـه تداعب مسعـودة إخوتـها، ويداعبونهـا، تتحدث إلى أمــها لتسري عنها، وتسليها للحظات .. وتتمنى لو طال غيابـه، بل لو خسفت به الأرض، أو سقـط فـي واد سحيـق، أو أكلتـه الذئاب .. أو ضلت بـه الطريـق إلـى غيــر رجعـــة..
استعملت كل ما أوتيت من ذكاء في كيفية صرفه كي لا تمتد إليها يده الخشنة..ولكنــها لم تفلح.. فبإشارة منه كانت تتحرك، وبنظرة قاتلة كانت تلبي طلبـه قبل النطق به.. ومع ذلك كانت تنال من القسوة والقهر ما لا طاقة لها به..
في هذه الصبيحة من الربيع الجميل الذي ملأ الدنيا بهجة وحبورا، وشعر به الناس كلهم إلا هو ..نادى على جميع من في البيت فلبّـوا .. إنه يوم زج صوف الأغنام.. القطيع يتطلب جيشا من الأشداء .. فأنـى لمثل مسعودة الرقيقة الجميلة أن تقوى على مسك الشيـاه وجرهــا إليه؟؟ .. حاولت مـع أمها وساعدها إخوتها ، ولكن تعنيفاتـه كانت لا تنقطــع ، والويل والثبور لمن أغضبـه..
دب التعب في أوصال مسعودة ، ولم تعـد أناملها الرقيقــة تقدر على الإمساك بالنعجـة أو الكبش وقيادته من تلــك الزريبـة إلـى هــذا الفنـاء.. كانت تقــاوم .. أمسكـت برقبة هذه النعجـة، وبحثت عن الأضعـف منـها فما وجدت.. اندفعـت النعجـة بقـوة أسقطـت مسعودة أرضـا، وهربـت عائــدة إلى زريبتها.. انطلق جميعهم لنجدة مسعودة ومعهم انطلقت شتائـمه مهددة ومتوعـدة .. ألقـى مقـص زجّ الصوف .. أدركت أن أجلها قد اقترب، وتمنت لو يتـم بصورة أســرع، ولكنهـا تعلم أنـه من صنـف يتلـذذ بفريستـه قبــل ابتلاعها، وجال بخاطرها العذاب الأليم الذي لن تتحمله بنيتها الرقيقة.. فعزمت على الهرب ..!
هربت مسعودة..!!
جــرت، وجــرت.. طاردهـا الوحــش الكاسـر.. انطلقـت الأم والإخــوة فـي أثرهما .. وهـم يدركون مصيرها المـحتوم..
تصبب عرقها ماء عذبا باردا، غطى كل بدنها ، تبللت كطائـر مهيـض اعترضتـه عاصفـة هــوجــاء.. عمـــلاق فـي مطاردتـها، دوي خطواتـه يزلـزل الأرض التـي بدأت تنكمـش تحت قدميها اللطيفتين.. هـون وخـور يدبان في رجليها فمـا تعودان قادرتين على حملها.. ازدادت دقات قلبها حتى كأنها أجراس كنيسة .. لم تعد تستطيع الجري..انهارت رافعة يديها إلى السماء.. يا رب .. يارب !! وأسلمت أمرها إليه.. ! صدرها يعلـو ويهبـط ، والأنفـاس تخرج كحمـم بركــان مقبل علـى الأفـول..
فجأة... توقف، تسمّـر في مكانه، نظر إلى مسعودة ترفع يديها إلى السماء متوسلـة طالبـة الإغاثـة ..!
توقف الثور الهائج..!!
دمعتان حارتـان انحدرتا من مقلتيـه .. مد يديه إليها..
منظر رقـت له الطبيعـة فأرسلت نسمـات عذبـة أنعشتهمـا من غفوتـيهما.. واحتضنتها يدان طالما حلمت بنعومتهما.. طوقها وحملها.. وراح يهدهدها كصغير في مهده.. سامحيني يا مسعودة..!
عانقها وعانقته .. وشعر لأول مرة بإحساس غريب يجتاح كيانه ويبعث فيه قشعريرة لم يعرف كنهها..
وطـّنت نفسهـا على الخوف منه منذ صغرهـا، لا بد لها من تلك الرجفـة الآلية كلمـا ناداها، أو نادى أحدا من أهـل الدار..
شبت مسعودة غيـر مزهوة بجمالها البدوي الأخاذ، ولـم تستمتع ككل بنات الدنيا بالأبوة اللطيفة الحانية..كانت تفطر علـى إهانـات صباحية لأمـها الذليلة التـي تنال المعاملـة القاسية، وتضرب ضربا مبرحا لأتفه الأسبـاب،و بـلا أسباب.. فليس هناك من يمنعه على استعمال جبروتـه على أهـل البيت جميعهــم ..
كانت تتألـم ، وتبكـي البكاء المـرّ، وهـي تراه كالوحــش الضاري ينهـال على أمها شتما وضربا إلى أن يتركها جثـة هامدة ..
تحـاول أن تتدخـل لإنقــاذ والدتهـا الحنـون من قبضتـه العاتيـة، تتذكّـر ما حدث لأخيهـا الأكبر ذات يـوم، فتمتنع عن المجازفة .. لقد ربطه إلى جذع شجرة العرعار غير البعيدة من البيت وراح يتفنن في تعذيبـه ، ورغــم استغاثات الابـن واستعطاف الأم والإخـوة وبكائهـم، إلا أن نداءاتهـم قوبلـت بالتعنيف والسباب؛ ولم تشفع له سوى إغماءته..
منظره وهـو هائـج، كابوس يؤرقـها، ويمنع ابتسامتهـا الصغيرة الحلوة من الإشراق..كانت تضع رأسها الصغير بين كفيهـا وتطرق إلى الأرض بعينيهـا الواسعتيـن، أو تطلـق العنان لأفكارها متأملــة في الآفاق البعيدة..
أجمل الأوقات عند أهل البيت.. هو غيابه عنهـم في بعض شؤونه.. لقد كان الوقت المستقطع للراحة يتنفسون فيـه الهواء بحرية.. ففيـه تداعب مسعـودة إخوتـها، ويداعبونهـا، تتحدث إلى أمــها لتسري عنها، وتسليها للحظات .. وتتمنى لو طال غيابـه، بل لو خسفت به الأرض، أو سقـط فـي واد سحيـق، أو أكلتـه الذئاب .. أو ضلت بـه الطريـق إلـى غيــر رجعـــة..
استعملت كل ما أوتيت من ذكاء في كيفية صرفه كي لا تمتد إليها يده الخشنة..ولكنــها لم تفلح.. فبإشارة منه كانت تتحرك، وبنظرة قاتلة كانت تلبي طلبـه قبل النطق به.. ومع ذلك كانت تنال من القسوة والقهر ما لا طاقة لها به..
في هذه الصبيحة من الربيع الجميل الذي ملأ الدنيا بهجة وحبورا، وشعر به الناس كلهم إلا هو ..نادى على جميع من في البيت فلبّـوا .. إنه يوم زج صوف الأغنام.. القطيع يتطلب جيشا من الأشداء .. فأنـى لمثل مسعودة الرقيقة الجميلة أن تقوى على مسك الشيـاه وجرهــا إليه؟؟ .. حاولت مـع أمها وساعدها إخوتها ، ولكن تعنيفاتـه كانت لا تنقطــع ، والويل والثبور لمن أغضبـه..
دب التعب في أوصال مسعودة ، ولم تعـد أناملها الرقيقــة تقدر على الإمساك بالنعجـة أو الكبش وقيادته من تلــك الزريبـة إلـى هــذا الفنـاء.. كانت تقــاوم .. أمسكـت برقبة هذه النعجـة، وبحثت عن الأضعـف منـها فما وجدت.. اندفعـت النعجـة بقـوة أسقطـت مسعودة أرضـا، وهربـت عائــدة إلى زريبتها.. انطلق جميعهم لنجدة مسعودة ومعهم انطلقت شتائـمه مهددة ومتوعـدة .. ألقـى مقـص زجّ الصوف .. أدركت أن أجلها قد اقترب، وتمنت لو يتـم بصورة أســرع، ولكنهـا تعلم أنـه من صنـف يتلـذذ بفريستـه قبــل ابتلاعها، وجال بخاطرها العذاب الأليم الذي لن تتحمله بنيتها الرقيقة.. فعزمت على الهرب ..!
هربت مسعودة..!!
جــرت، وجــرت.. طاردهـا الوحــش الكاسـر.. انطلقـت الأم والإخــوة فـي أثرهما .. وهـم يدركون مصيرها المـحتوم..
تصبب عرقها ماء عذبا باردا، غطى كل بدنها ، تبللت كطائـر مهيـض اعترضتـه عاصفـة هــوجــاء.. عمـــلاق فـي مطاردتـها، دوي خطواتـه يزلـزل الأرض التـي بدأت تنكمـش تحت قدميها اللطيفتين.. هـون وخـور يدبان في رجليها فمـا تعودان قادرتين على حملها.. ازدادت دقات قلبها حتى كأنها أجراس كنيسة .. لم تعد تستطيع الجري..انهارت رافعة يديها إلى السماء.. يا رب .. يارب !! وأسلمت أمرها إليه.. ! صدرها يعلـو ويهبـط ، والأنفـاس تخرج كحمـم بركــان مقبل علـى الأفـول..
فجأة... توقف، تسمّـر في مكانه، نظر إلى مسعودة ترفع يديها إلى السماء متوسلـة طالبـة الإغاثـة ..!
توقف الثور الهائج..!!
دمعتان حارتـان انحدرتا من مقلتيـه .. مد يديه إليها..
منظر رقـت له الطبيعـة فأرسلت نسمـات عذبـة أنعشتهمـا من غفوتـيهما.. واحتضنتها يدان طالما حلمت بنعومتهما.. طوقها وحملها.. وراح يهدهدها كصغير في مهده.. سامحيني يا مسعودة..!
عانقها وعانقته .. وشعر لأول مرة بإحساس غريب يجتاح كيانه ويبعث فيه قشعريرة لم يعرف كنهها..