اللص..
22-07-2009, 09:13 AM
اللص..
راقب هدوء الحي، الناس في غدو ورواح، الأبواب تغلق وتفتح، الرجال والنساء والأطفال يدخلون ويخرجون في كل الأوقات، الكل منشغلون بقضاء حوائجهم، إلا هو .. ينتقل في الأزقة بحذر.. يركز على الحركات الدقيقة .. النوافذ تغلق وتوصد.. بعضهن كن يطلن النظر في الشارع، ويحدقن في المارة، حتى إذا ما تعرضن لحركات، أو تلويحات بالإشارات، تظاهرن باللامبالاة، ورحن يطلقن ستائر النوافذ، أو تحويل النظر إلى الجهة الأخرى من الشارع.
في الليل كانت الحركة تخف في الحي، إلا من تجمعات بعض الشباب الذين كانوا يتلهون بلعب الدومينو أو الشطرنج تحت الإنارة العمومية في الشارع الطويل، أو قد يلعبون كرة القدم، أويتلهون بأي شيء يصلح لتزجية الوقت.
الأنوار تنبعث من وراء الستائر الجميلة التي تغطي النوافذ، ومن وراء الشبابيك .. تدل على أن أهل البيت موجودون .. الحيل التي يلجأ إليها من ينوون السفر، ويتركون مصابيح بيوتهم مضاءة، لم تعد تنطلي على المحترفين من أمثاله.
قادته تحرياته التي استغرقت يومين بليلتيهما أن بيتا في الطابق الأول من العمارة لم يدخل أو يخرج منه أحد، وأن نوره يبقى مشتعلا طوال الليل وهذا ما يحفز على زيارته في أقرب وقت ممكن .. فمدة يومين كافية لاستجلاء أمر مدينة كبرى، فما بالك بحي هادئ ؟؟ .. العمل في هذا البيت بات لزاما، ولا يستلزم أي تأخر، فمثل هذه الأمور تتطلب التعجيل .. العمل الناجح يتطلب العجلة والتخطيط المحكم، لا مجال فيه للارتجال.. اهتدى إلى أن موقع العملية، وطبيعة المكان يناسبهما العمل الليلي، انتظر قدوم اللـيل، ودخول الناس إلى منازلهم، وخلود أكثرهم للنوم، بعض الأنوار بدأت تخمد، هدأت حركة السيارات، انتشرت بعض القطط والكلاب الضالة حول أكياس القمامات التي كانت ترمي من النوافذ .. هيأ لوازمه، و خرج متسترا في جنح الليل، متنقلا في الأماكن المظلمة .. خفيف الحركة كان، سريعا في مشيته، لا يكاد يرى ظله، لا يترك لك فرصة التأكد من ملامحه، أو لون عينيه أو شعره .. وصل إلى مسرح العملية، وضع رجله اليسرى في سياج نافذة الطابق الأول من العمارة ذات الخمسة طوابق، وتسلل كالريح.. ..إنه الآن أمام أول باب، أخرج حزمة المفاتيح التي يتأبطها، في لمح البصر فتح الباب المؤدي إلى المطبخ، هو الآن في المطبخ، أرهف سمعه علّ أحدا موجودا فيفاجأ بما لم يكن في حسبانه، احتاط لذلك .. رسم مسلكا لانسحابه.. الهدوء يخيم على المكان، ألقى نظرة خاطفة في الصالون الذي كان أقرب نقطة إليه، لم يركز على الأثاث الذي يملأ البيت .. مرر إصبعه على المنضدة الكبيرة التي توسطت القاعة، رأى أن غبارا يعلوها، هي لم تمسح منذ مدة، ومع ذلك يجب الحذر، بكل حيطة تقدم للرواق المؤدي للغرفتين المتجاورتين كاتما أنفاسه، توقف برهة، هناك حركة في الغرفة الشمالية من الرواق، سعال متقطع، ثم ما يشبه الأنين ..دخل الغرفة اليمنى، إنها فارغة سوى من بعض الأثاث الذي بدا قليلا .. لم تبق سوى الغرفة الأخيرة .. جذب نفسا عميقا وأفرغه كأنما يستعد لوثبة عالية، ثم اقتحم الغرفة فلم يجد بها سوى عجوز مسنة بدا هزالها الشديد، تعاني المرض والجوع والوحدة، رأته فرحبت به ونادته: "عزوز" معتقدة عودة ابنها الغائب في شغله.. تفاجأ بذكرها اسمه، اقترب منها أكثر، فإذا عيناها غائرتان، وخصلات من شعرها الأشيب انسدلت على جبهتها التي كستها التجاعيد، وفم يابس مغلق، كانت تفتحه من حين لآخر كأنها تطلب الماء..رق قلبه ودمعت عيناه وانحنى يطبع قبلة على جبينها، ويصفف بيده الشعرات المنتثرة حول عينيها ويناديها:
- أمي هل تشربين ؟
- نعم يا ولدي.
تناول الكوب الذي على الطاولة، وأسرع فملأه .. سقاها بعد أن أسندها بذراعه حتى اعتدلت لتتمكن من الشرب.. ثم طلبت منه دواءها الذي في الثلاجة، ولم تستطع الوصول إليه، سارع إلى إحضاره، سألها عن الأكل فقالت: إنها لم تأكل منذ يومين ..بحث في الثلاجة فلم يجد شيئا، قال لها:
ـ سأخرج لجلب بعض الأكل لك يا أمي ..
ومن أقرب المحلات اشترى بعض اللوازم الغذائية.. أطعمها بيديه، سقاها ماء وحليبا..
من حين إلى حين تتفرس في وجهه.. تقترب حتى تكاد عيناها تلتصقان بوجهه..
تسأله عن ابنتها المسافرة.. يجيبها : هي بخير
حنين يسري في عروقه، شئ ما يختلج في صدره، تنسكب دمعتان على خده.. قشعريرة تهز كيانه، يتذكر أمه التي غادرت ذات شتاء بارد وتركته من دون حاضنة.. يمسح على يدها الحانية التي امتدت إليه ويقبلها، يبكي بكاء مرا، تسّـاقط دموعه بغـزارة..
ـ عزوز أنا لم أصل منذ مدة..
ـ قومي لصلاتك يا أمـي.. دعواتك لي يا أمي.. لا تحرميني من دعائك يا أمي..
راقبها وهي تتحرك ببـطء في صلاتها .. صلت جالسة وتضرعت إلى الله.. أخرجت سبحـتها وعادت إلى سريرها.. داعبته سنة فاستسلم لإغفاءة في الصالون.. أفاق على حديث العجوز مع ابنها، وسمعها تقول:
عزوز نائم لقد عاد متعبا من شغله، فمن أنت؟؟
راقب هدوء الحي، الناس في غدو ورواح، الأبواب تغلق وتفتح، الرجال والنساء والأطفال يدخلون ويخرجون في كل الأوقات، الكل منشغلون بقضاء حوائجهم، إلا هو .. ينتقل في الأزقة بحذر.. يركز على الحركات الدقيقة .. النوافذ تغلق وتوصد.. بعضهن كن يطلن النظر في الشارع، ويحدقن في المارة، حتى إذا ما تعرضن لحركات، أو تلويحات بالإشارات، تظاهرن باللامبالاة، ورحن يطلقن ستائر النوافذ، أو تحويل النظر إلى الجهة الأخرى من الشارع.
في الليل كانت الحركة تخف في الحي، إلا من تجمعات بعض الشباب الذين كانوا يتلهون بلعب الدومينو أو الشطرنج تحت الإنارة العمومية في الشارع الطويل، أو قد يلعبون كرة القدم، أويتلهون بأي شيء يصلح لتزجية الوقت.
الأنوار تنبعث من وراء الستائر الجميلة التي تغطي النوافذ، ومن وراء الشبابيك .. تدل على أن أهل البيت موجودون .. الحيل التي يلجأ إليها من ينوون السفر، ويتركون مصابيح بيوتهم مضاءة، لم تعد تنطلي على المحترفين من أمثاله.
قادته تحرياته التي استغرقت يومين بليلتيهما أن بيتا في الطابق الأول من العمارة لم يدخل أو يخرج منه أحد، وأن نوره يبقى مشتعلا طوال الليل وهذا ما يحفز على زيارته في أقرب وقت ممكن .. فمدة يومين كافية لاستجلاء أمر مدينة كبرى، فما بالك بحي هادئ ؟؟ .. العمل في هذا البيت بات لزاما، ولا يستلزم أي تأخر، فمثل هذه الأمور تتطلب التعجيل .. العمل الناجح يتطلب العجلة والتخطيط المحكم، لا مجال فيه للارتجال.. اهتدى إلى أن موقع العملية، وطبيعة المكان يناسبهما العمل الليلي، انتظر قدوم اللـيل، ودخول الناس إلى منازلهم، وخلود أكثرهم للنوم، بعض الأنوار بدأت تخمد، هدأت حركة السيارات، انتشرت بعض القطط والكلاب الضالة حول أكياس القمامات التي كانت ترمي من النوافذ .. هيأ لوازمه، و خرج متسترا في جنح الليل، متنقلا في الأماكن المظلمة .. خفيف الحركة كان، سريعا في مشيته، لا يكاد يرى ظله، لا يترك لك فرصة التأكد من ملامحه، أو لون عينيه أو شعره .. وصل إلى مسرح العملية، وضع رجله اليسرى في سياج نافذة الطابق الأول من العمارة ذات الخمسة طوابق، وتسلل كالريح.. ..إنه الآن أمام أول باب، أخرج حزمة المفاتيح التي يتأبطها، في لمح البصر فتح الباب المؤدي إلى المطبخ، هو الآن في المطبخ، أرهف سمعه علّ أحدا موجودا فيفاجأ بما لم يكن في حسبانه، احتاط لذلك .. رسم مسلكا لانسحابه.. الهدوء يخيم على المكان، ألقى نظرة خاطفة في الصالون الذي كان أقرب نقطة إليه، لم يركز على الأثاث الذي يملأ البيت .. مرر إصبعه على المنضدة الكبيرة التي توسطت القاعة، رأى أن غبارا يعلوها، هي لم تمسح منذ مدة، ومع ذلك يجب الحذر، بكل حيطة تقدم للرواق المؤدي للغرفتين المتجاورتين كاتما أنفاسه، توقف برهة، هناك حركة في الغرفة الشمالية من الرواق، سعال متقطع، ثم ما يشبه الأنين ..دخل الغرفة اليمنى، إنها فارغة سوى من بعض الأثاث الذي بدا قليلا .. لم تبق سوى الغرفة الأخيرة .. جذب نفسا عميقا وأفرغه كأنما يستعد لوثبة عالية، ثم اقتحم الغرفة فلم يجد بها سوى عجوز مسنة بدا هزالها الشديد، تعاني المرض والجوع والوحدة، رأته فرحبت به ونادته: "عزوز" معتقدة عودة ابنها الغائب في شغله.. تفاجأ بذكرها اسمه، اقترب منها أكثر، فإذا عيناها غائرتان، وخصلات من شعرها الأشيب انسدلت على جبهتها التي كستها التجاعيد، وفم يابس مغلق، كانت تفتحه من حين لآخر كأنها تطلب الماء..رق قلبه ودمعت عيناه وانحنى يطبع قبلة على جبينها، ويصفف بيده الشعرات المنتثرة حول عينيها ويناديها:
- أمي هل تشربين ؟
- نعم يا ولدي.
تناول الكوب الذي على الطاولة، وأسرع فملأه .. سقاها بعد أن أسندها بذراعه حتى اعتدلت لتتمكن من الشرب.. ثم طلبت منه دواءها الذي في الثلاجة، ولم تستطع الوصول إليه، سارع إلى إحضاره، سألها عن الأكل فقالت: إنها لم تأكل منذ يومين ..بحث في الثلاجة فلم يجد شيئا، قال لها:
ـ سأخرج لجلب بعض الأكل لك يا أمي ..
ومن أقرب المحلات اشترى بعض اللوازم الغذائية.. أطعمها بيديه، سقاها ماء وحليبا..
من حين إلى حين تتفرس في وجهه.. تقترب حتى تكاد عيناها تلتصقان بوجهه..
تسأله عن ابنتها المسافرة.. يجيبها : هي بخير
حنين يسري في عروقه، شئ ما يختلج في صدره، تنسكب دمعتان على خده.. قشعريرة تهز كيانه، يتذكر أمه التي غادرت ذات شتاء بارد وتركته من دون حاضنة.. يمسح على يدها الحانية التي امتدت إليه ويقبلها، يبكي بكاء مرا، تسّـاقط دموعه بغـزارة..
ـ عزوز أنا لم أصل منذ مدة..
ـ قومي لصلاتك يا أمـي.. دعواتك لي يا أمي.. لا تحرميني من دعائك يا أمي..
راقبها وهي تتحرك ببـطء في صلاتها .. صلت جالسة وتضرعت إلى الله.. أخرجت سبحـتها وعادت إلى سريرها.. داعبته سنة فاستسلم لإغفاءة في الصالون.. أفاق على حديث العجوز مع ابنها، وسمعها تقول:
عزوز نائم لقد عاد متعبا من شغله، فمن أنت؟؟