في عيد الاستقلال أيـن الرمزيـة... في أعيادنـا الـوطنية؟
05-07-2009, 02:45 PM
كم تتقزم المعاني، حين تنفصل عن قيمها، فتخونها مفرداتها! وكم تختزل الدلالات والرموز حين تفرغ من مضامينها، فتستحيل إلى جمل جوفاء غير مفيدة... وذلك هو حالنا، مع عامل الزمن في حياتنا... ومع معاني المناسبات في أعيادنا.
فكم نصاب بالحسرة والأسى، حين نعمد إلى مفاهيم مثقلة بكل معاني العزة والبطولة، فنحولها إلى مفاهيم صماء، ونتجنى على رموز شمولية، فنقلصها ونجعلها فاقدة لكل دلالات الخصوبة ولنماء.
يحدث هذا عندما نستعرض يومياتنا الوطنية، فتستوقفنا أعياد، ومناسبات وطنية أو دينية، غالبا ما نلبسها لباس قيم سامية عليا، كقيم الجهاد، والاستشهاد، والنصر، والحرب والاستقلال، والهجرة، والأضحية وغيرها، وهي قيم ترمز إلى أبعاد إنسانية سامية، لكنها لم تعد تمتد – اليوم- في ضمائرنا، ونفوسنا، وعقولنا.
ليت شعري، لماذا فقدت هذه الأعياد والمناسبات بريقها، وإشعاعها، وامتدادها فينا، بعد أن كانت تحشد كل الطاقات، وتوقظ في ضمائرنا أنبل الإشراقات؟
لقد تم ذلك بسبب جنايتنا على مبادئها، ومقاصدها، فسطونا على مكاسبها، وحولنا مجريات نهرها، وحصرناها في زاوية المصالح الشخصية، مستغلين إياها في ما يضر، مما يجب أن تدر.
احتفلنا حديثا بعيد الشهيد، وسنحتفل قريبا بعيد النصر، ولكن ما نلاحظه في كل عيد هو ضعف التجنيد، وضآلة التأييد، ولامبالاة الجماهير الشعبية، ولا سيما الجيل الجديد. إن أكبر زلة في ما يأتيه المتنفذون وهم القلة، هي تعميق الهوة أكثر، بين المشرفين على هذه الاحتفالات، وبين سواد الأمة، فلامبالاة العامة والخاصة أمام ما يحدث، إنما سببه انعدام الثقة بين الحاكم والمحكوم، وتنكر القائمين على تخليد الذكريات، لذاكرة المحتفى بهم.
فلو أخذنا على سبيل المثال المحتفى به في عيد الاستشهاد، وهو الشهيد، لأدركنا سر التبرم، وعوامل ما أحاط الذكرى من معاني الاختزال والتقزم. إن تخليد ذكرى من نذروا أنفسهم، لإحدى الحسنين في هذا الوطن، أي الدفاع البطولي عن ثوابت الوطن المجيد، بإحياء مجده التليد، أو الموت الرجولي، أي موت الشهيد. لا يتم التخليد لمجرد وضع أكاليل من الورود على قبر الشهيد الرمز، ولا بذكر مناقبه في يوم معدود الساعات، واللحظات، ينتهي بغروب شمسه، ومغادرة ضريح الشهيد ورمسه. إن أقل رجع للتحية، إنما يكون بالوفاء لشهدائنا بعهدهم... وأين نحن من هذا الوفاء؟ وماذا قدمنا للوطن من مبادئ الشهداء؟
نحن قوم طالت ألسنتنا في أمواج الخطاب، ولكن قصرت أفعالنا في سجل الحساب، فما زال الفتى اليافع من جيلنا الصاعد، يعتبر مصطلحات الاستشهاد، والنصر والجهاد، وما أشبهها، كالطلاسم التي تزمزم بها أفواه المشعوذين و الدجالين، وما ذلك إلا لأننا نحن جيل الكبار، أفرغنا تلك المفاهيم من مضامينها، فأصبحت مفردات مجردة، لا تترجم على صعيد أفعالنا في شكل مؤسسات تنبع بالقيم، ومنظمات تنبض بالشيم، ومسؤوليات تراعي الله، وتحفظ الذمم.
يالله! أين صغارنا من العلم بما قدمه الشهداء لهذا الوطن، وأين كبارنا من الافتداء برموز الجهاد والاستشهاد، وما عاهدناهم عليهم من حماية الديار، ونصرة الضمار، وبذل الثمن؟
إن أخوف ما نخافه على وطننا، أن نتحول فيه جميعا إلى ممثلين، وسط مسرحية، تنتهي أدوارها، ومشاهدها بانتهاء العرض، فإذا أسدل الستار، وأطفأت الأنوار، اختلط الدقيق بالغبار، وصعب تمييز الأشرار من الأخيار.
نريد لأعيادنا الوطنية، والدينية، وهي التي تعبق بأنبل المعاني، وأسمى القيم، نريدها أن تكون عامل حشد للطاقات الخيِّرة، ووسيلة تعبئة، للجهود النيِّرة، من أجل القضاء على سائق عنيف هو الدهر، وزاجر مخيف هو التخلف -كما يقول الإمام محمد البشير الإبراهيمي- فإن فشلت هذه المناسبات على عظمتها في توحيدنا شيبا وشبابا وكهولا، فإن مآلنا سيكون كمقترف أعظم ذنب، وهو ذنب "العقل الذبابة" يأكل من ورق الله، ويكفر بنعم الله، و إن الجزائر –لعمري- لهي الأم الخصيبة الأرحام، الولودة لكل أنواع الكرام، فإذا أكلنا غلتها، وشتمنا ملتها، فإننا إذا لخاسرون.
ليدرك كل من يحمل أدنى مسؤولية في جزائر المليون شهيد، مثقفا كان أو سياسيا، أنه مؤتمن على حراسة الجيل الجديد، فهو أمانة عندنا، ووديعة الأمة بين أيدينا، ومن حق هذا الجيل علينا، أن نغرس في ضميره الوعي بأصوله الحضارية، وفي عقله حب رموز أمته ووطنه.
من هنا وجب إعادة صياغة منهجية الاحتفال برموزنا، ومناسباتنا، بإنقاذها مما تعانيه، من القصور، والتقزيم والاختزال، وإشراك كل فئات المجتمع، وعل حد تعبير المأسوف عليه الشيخ محفوظ نحناح "الوطن الجزائري، حرره الجميع، ويبنيه الجميع"
وإذا كان من الجرم اغتيال البراعم، وتكبيل العقول، فإن أعظم جرم، هو سجن الرمز العملاق، ووضعه ضمن قوالب اصطناعية ضيقة، فأعظم ما نكافئ به، أولئك الذين قدموا بالأمس أرواحهم، فداء للوطن، هو أن نحسن طريقة تخليد ذكراهم، وأن نجيد عرض فكرهم، وأن نتعلم كيف نستلهم العبر من كيفية إعلاء قدرهم.
إن الأعياد والمناسبات، هي مدرسة الحياة التي وضع أسسها، الماهدون الأولون من المجاهدين والشهداء...، وأعظم باقة نضعها على نصب تذكارهم، هو أن نتخذهم قدوة لأجيالنا، وأن نجسد في الحياة بعض ما ضحوا من أجله، لنسعد نحن بالحياة الحرة الكريمة، فلا نلوث مجدهم، ولا نخون عهدهم... ولا نبدد جهدهم.
