طواف أبي الإلحاد بين الحقيقة والحلم
24-05-2015, 10:25 AM
طواف أبي الإلحاد بين الحقيقة والحلم
رأى صاحبنا نفسه يغمره البياض من كل حدب وصوب, لم يتبين من أين يشع كل ذلك النور!!؟, لكنه مشى كأنه يخوض في قطن مندوف, شعر بانشراح عجيب!!؟، وخيل إليه أن صدره يسع الكون أجمع, ثم سمع رنينا رتيبا يسري في مسامعه, مد يده إلى الجوال، وأوقف المنبه، وظل ممسكا به ساعة حسبها برهة, ثم حدق في شاشته لحظات كأنه يستعيد شيئا فشيئا:" صلته بهذا العالم".
قفز فجأة من فراشه, لقد تأخر عن موعد العمل لليوم الثاني هذا الأسبوع.
لبس ثيابه عجلان، وخرج يهرول. قطع طريقه وحلمه الأبيض لا يفارق ذهنه، ونشوته تكاد تطغى على غضبه من تأخره المتكرر.
وصل إلى البوابة، فحياه:" عبد الكبير"، ثم قال كلمة عجيبة: "عقبى لنا يا حاج!!؟".
يا له من صباح عجيب!!؟, إن:" عبد الكبير": شيخ وقور، لا يمزح معه عادة, إنه يجلس طيلة النهار في حجرته الصغيرة: يراقب البوابة، ولا يكاد ينطق بشيء, فما باله اليوم!!؟.
دخل إلى المبنى، فأحس أن شيئا غريبا يسري في الهواء, ثم خيل إليه أن أبصار زملائه ترمقه بنظرات لم يعهدها من قبل!!؟, وقبل أن يفكر في تفسير يخفف دهشته، ناداه سليم:" المدير يطلبك في مكتبه".
شعر:" أبو الإلحاد" بعرق بارد يتحدر بين كتفيه، ونظر إلى ساعته, لقد تأخر كثيرا, لا بد أنه سيسمع توبيخا وتقريعا!!؟.
تبا!!؟، لماذا لا يتوقع خيرا!!؟، قد يكون خبر سار ينتظره في الطابق الثاني, من يدري!!؟.
طرق الباب طرقا خفيفا، ودخل على المدير خلف مكتبه الفخم الذي يملأ المكان، كان رجلا أنيقا يشارف الستين، خاطبه قائلا:
" تفضل اجلس, ماذا تشرب قهوة أم شاي!!؟".
جلس:" أبو الإلحاد"، وهو يحدث نفسه بأن هذا أول الشر, لا بد أن صاعقة ستنزل على رأسه، إن خبرا مزلزلا يحوم فوقه، لا بد إذن من تلطيف المزاج ببعض الشراب الساخن.
همهم: قهوة من فضلك"، صب له فنجانا، وهو يقول:" كما تعلم فإن أرباح الشركة تضاعفت في العقد الأخير, وقد حان الأوان ليقتسم الجميع نتائج النجاح...".
نزلت هذه الكلمات على صاحبنا كالماء البارد, وأحس أن عبئا ثقيلا قد انزاح عن كاهله, ارتشف قليلا من القهوة, وانفرجت أساريره, قال يحدث نفسه:" لا بد أنها ترقية, لا لا, مستحيل, إن من زملائه من هو أحق منه بشيء كهذا."
استرسل المدير في حديثه:" حان الوقت لنرد بعض الجميل للمستخدمين, لقد افتتحنا برنامجا للخدمات الاجتماعية, وبعد تشاور مع مجلس الإدارة: قررنا أن نبدأ هذه السنة بإجراء قرعة سنوية لمنح رحلة إلى الحج."
عند هذه العبارة أحس:" أبو الإلحاد" أن الزمن قد توقف، وأن عقله لم يعد يعي مما يجري حوله إلا صورة باهتة, لم يعد يسمع شيئا, كان ينظر إلى شفتي المدير تتحركان: كأنه في عرض بطيء لفيلم صامت بلا ألوان!!؟.
فجأة: لم يعد يرى أمامه إلا أثر السجود على جبين مخاطبه, تذكر حلمه الجميل, تذكر سروره بالبياض، ثم طرقت هذه الكلمات سمعه: " أهنئك, لقد تم السحب بالأمس، وحصلت على منحة سفر إلى الحج".
قام المدير، ومد إليه يده مصافحا، التقت كفاهما, وأحس لأول مرة في حياته أن الأرض تدور بالفعل, جلس في هدوء، ثم بدأ جسمه يرتعش ويهتز, لم يتمالك نفسه، ضحك كأنه طفل, ثم انخرط في بكاء خافت, لم يدر ما الذي أصابه!!؟، مد إليه المدير منديلا، وقال: " أفهم شعورك يا ابني, خذ إجازة لبقية اليوم، لتكمل بقية الإجراءات".
أراد صاحبنا أن يقول شيئا, أراد أن يعتذر, أراد أن يعترض, لكنه كان أشبه بمن يحلم أنه في خطر داهم يريد الركض للنجاة منه: لولا أن أعضاءه لا تطاوعه, قام المدير، وفتح له الباب.
خرج من المكتب، فوجد زملاءه مجتمعين في مدخل الممر, جاءه:" سليم"، وربت على كتفه قائلا: "هذه فرصتك, افتح صفحة جديدة يا صديقي".
أحس بدمعة حارة تترقرق في عينه, وخرج مسرعا لا يلوي على شيء، إنه يحب الأسفار، سافر في أوج شبابه إلى أوربا، وكان يحلم بزيارة:" موسكو" حين كانت أحلام:" الملاحدة": حمراء بلون الدم.لو أتيح له ذلك حينها، لكان زار ضريح الزميل المحنط:" لينين".
إن لأهل الإلحاد:" مزارات ورموزا": يعظمونها, لكن ماله ولهم!!؟. إنه يكاد يفقد صوابه من هول ما جرى في هذا الصباح العجيب!!؟.
تساءل عن سبب بغض زملائه الملاحدة لمناسك:" الحج الإسلامي!!؟".
لماذا تصرف الملايين على أفلام تمجد البوذية، وتصور:" حجاج لاهاسا" الزاحفين على بطونهم وأيديهم!!؟.
قد يقول قائلهم:" إنها إرث حضاري قديم وثقافة عريقة".
لماذا لا يسعهم أن يقولوا عن الحج مثل ذلك!!؟.
جلس في مقهى، ليرمم شظايا نفسه, ويستعيد شريط أيامه, ويتأمل في فهرس حياته، أغمض عينيه، لعله يعود ليرى بياض حلمه المشع, تذكر:" عبد الكبير" بشعره الأبيض، وملامحه الهادئة، وهو يقول له:" عقبى لنا يا حاج!!؟".
أخرج جواله، وأطرق يرتب أفكاره، ويستجمع قواه, ثم أجرى المكالمة, رن الهاتف مرات، ثم سمع رسالة العلبة الصوتية, فسره أنه يخاطب:" آلة": لا تملك أن تراجعه في قراره، وقال:
" سيدي المدير, فاتني أن أشكركم, لكني أتنازل عن هذه المنحة السخية ل:"عبد الكبير" البواب, فهو أحق بها مني.
شكرا لكم".