الطفرة "الحدادية" في الفكر السلفي
13-05-2014, 04:39 PM
الطفرة "الحدادية" في الفكر السلفي
ليس من الغريب اليوم أن يطرح البعض سؤالا محيرا: من هم السلفيون؟ ومن يمثلهم؟ ومن يتكلم باسمهم؟
فتارة يقدم الإعلام أحد أعلام السلفية "الحركية" على أنه "زعيم" للتيار السلفي، وأحيانا تجعل الصحافة بيان سلفي "جهادي" أو "ثوري" مسفرا عن رأي السلفيين في قضية ما، ومرة يُجعل تصريح "قيادي" في السلفية "العلمية" رأيا رسميا للسلفيين في مسألة أخرى.
إن مجرد طرح السؤال (السابق) خطأ من أصله، فكيف بالإجابة عنه كما فعلت صحافتنا التي وقعت عن جهل أو عن علم في فخ تحزيب "السلفية".
السلفية كما أعتقد -وما أزال!- ليست حزبا ولا طائفة ولا فرقة ولا جماعة ولا جمعية ولا نحلة ولا جبهة ولا تجمعا ولا ودادية ولا نقابة ولا...
السلفية توجه فكري مشاع مشترك بين كل التوجهات الإسلامية السنية، فمستقل منه ومستكثر، لأن معناها بلا تكلف ولا تفلسف هو الرجوع إلى فهم السلف لمسائل الدين.
وفهم السلف لمسائل الدين يعبر عنه في الاصطلاح الأصولي بمسائل الإجماع وتفاريعه (الإجماع السكوتي وقول الصحابي)، وهو مبدأ تأخذ به كل الطوائف السنية (من حيث الجملة)!
ولو انبنى النقاش بين "السلفيين" و"غير السلفيين" (إن صح هذا التقسيم) على هذه الحيثية، لسحب البساط تحت أرجل الآكلين بالسلفية وتحت أرجل الآكلين بسب السلفية، ولانحصر الحوار والنقاش بين العقلاء من كل طرف.
تحويل "وهم" هيكلة السلفية إلى حقيقة وواقع، بأن يكون للسلفية رأس وأتباع ومتحدث رسمي وأحزاب وقنوات ومرشحون، مسعى حثيث لجهات متعددة دافعها يتراوح بين سوء الفهم وسوء النية.
ولن أتحدث في هذا المقال إلا عن جهة من تلك الجهات، طائفة غامضة متناقضة، احتكرت "السلفية" وجعلتها ملكا حصريا وعلامة مسجلة، بدعم إعلامي ودعائي ضخم ومغرض.
هذه الطائفة التي سأتكلم عنها هي الطائفة "الحدادية"، وقد كان يمكنني أن أسميها بأسماء أخرى نسبة لأفراد ممن طارت شهرتهم حتى اعتقد كثير من المنتسبين إلى السلفية أنهم هم السلفية وهي إياهم! لكن سيثير ذلك حفيظة البعض، ويخرج النقد عن سياقه، لذلك سأسميها "الحدادية" نسبة إلى الحداد، أول من صدع بأفكارها، ثم صار-المسكين!- كبش الفداء الذي يمسح فيه "موسها" من بعد، مع أنه صار "خارج الصورة" منذ عقود!
لماذا الكلام عن "الطفرة الحدادية في الفكر السلفي"؟
الكلام عن هذه القضية من الأهمية بمكان في هذا الوقت، حيث كبر "الغول" الحدادي، واشتد عوده، وعظم فساده، ولا عجب أن ينفلت من أغلال من روضه، وينقلب عليهم كما انقلب عليهم قبله "الغول" التكفيري.
نتكلم عن هذه القضية لأن سهام النقد توجه إلى السلفي "الخاطئ"، الذي عُصِب برأسه كل بوائق "الحدادي".
نتكلم عن هذه القضية ليعلم الإسلاميون كيف يكاد بهم، وتُنسج أكفانهم في المخابر الأمنية، ولكن "غفلة الصالحين" أعمتهم، حتى كفوا أعداءهم مؤنة تدمير أنفسهم بأنفسهم، وتخريب بيوتهم بأيديهم.
إن "الحدادية" انحراف-أو تحريف متعمد- للفكر السلفي، وهي ليست حركة فكرية بقدر ما هي من أنجح التلاعبات المخابراتية والأمنية التي عرفها التاريخ في العالم الإسلامي، وتشبه إلى مدى بعيد عملية الزرق (bleuet) التي وضعها المحتل الفرنسي لتفجير جيش التحرير الوطني.
الطفرة الحدادية هي –باختصار شديد- خطة مخابراتية محكمة لمضادة ما يسمى بالفكر "الجهادي" دون إطلاق رصاصة واحدة، لعل بذرتها غُرست بُعيد حرب الخليج الثانية، وما أثارته من موجة استياء شديد تجاه المملكة العربية السعودية بسبب فتوى بعض علمائها بالتحالف مع قوات كافرة لصد القوات العراقية المحتلة للكويت، والقاصدة للأراضي السعودية. هذه الوضعية ولدت بروز نوع من الدعاة وطلبة العلم "التقدميين" -إن صح القول-، تناولوا بالنقاش ما كان يُعد "قدس الأقداس" في المملكة العربية السعودية، وهو شرعية نظام الحكم، وقد كان لهؤلاء الدعاة الشباب-آنذاك- من الرصيد العلمي والبلاء الحسن في الدعوة والوعي والنضج ما هيأ لقبول أفكارهم، لكن كان فيهم حماسة وتسرع قد يوقع بعض الأتباع الغافلين في التطرف والعنف، لأجل ذلك قامت طائفة أخرى من العلماء والدعاة في المملكة السعودية نفسها، بمحاولة كبح جماح الطائفة السابقة، وتهذيب حماستها في الإنكار على الحكام السعوديين.
إلى هنا، لم يَعدُ الأمر كونه خلافا فكريا سعوديا داخليا، تابع تطوراته كثير من الإسلاميين على مختلف مشاربهم في العالم الإسلامي لكون المملكة السعودية قطبا من أقطاب الحركة الإسلامية في العالم.
ورغم حدة الخلاف فيه، وكونه في قضية حساسة، فلم يشهد النقاش عبارات التخوين والتبديع والتجريح بين الطرفين، بل كان أقرب إلى الحوار العلمي، وآتى أكله بتقريب وجهات النظر، وأنتج بعض المراجعات والتراجعات من بعض الأفراد الذين انتقلوا من غياهب السجون إلى شاشات أشهر الفضائيات في عافية وأمن.
لكن الذي حدث آنذاك أن ركب موجة الإنكار على هؤلاء النفر من الدعاة المتحمسين أناس كما يقال: "ملكيون أكثر من الملك"!، وهؤلاء في خضم دفاعهم عن الشرعية "العرشية" للحكام السعوديين، تحاملوا على المعارضين لهم ووصفوهم بأشنع الأوصاف وأقبحها، واتهموهم بتبني فكر الخوارج، وبالتالي المروق عن منهج أهل السنة والجماعة.
ولعله في تلك اللحظة ذاتها، تفطنت بعض أجهزة المخابرات في الدول العربية إلى فرصة سانحة، وغنيمة باردة، فإذا كان أولئك "المعارضون" في السعودية قد تعرضوا لكل هذا النقد والتجريح من " الملكيين أكثر من ملوكهم" لمجرد نقدهم للحكام في السعودية، فكيف سيرد أولئك (الملكيون أكثر من ملوكهم) –إذن- على من يتجاوز النقد إلى التكفير والخروج والعنف؟
في الفترة نفسها ظهرت في المملكة العربية سعودية حركة متطرفة (فكريا) نسبت إلى رجل مصري يسمى "الحداد"، تدعو إلى تبديع كبار علماء الأمة-قديما وحديثا-، وإلى تحريق كتبهم، من أجل ما يرونه مخالفات فيها.
فأي نتيجة (باهرة) ستعطيها عملية "تطعيم" المتعصبين للمُلك السعودي بجرعة من الفكر الحدادي؟
وهكذا اتضحت معالم الخطة "الجهنمية": اختراقٌ لمجالس بعض المشايخ المعروف عنهم سرعة الانفعال والتسرع والحماسة (الزائدة) في مناوأة الفكر التكفيري –بالأخص في السعودية- مع القابلية للتأثر، ثم التأثير عليهم –من حيث لا يشعرون- لدفعهم إلى توجيه هجمات فكرية شرسة –على منوال الحدادية- على كل من حام حول حمى انتقاد النظام السعودي.
ومع الدعم الإعلامي والدعائي الكبير لبعض المواقع على الشبكة العنكبوتية، ودور النشر والتسجيل (والتحق بالزخم الدعائي مؤخرا قنوات فضائية) التي رفعت بعض المغمورين أو شبه المغمورين في بعض البلدان الإسلامية كالسعودية ومصر إلى درجات تفوق مستواهم العلمي والفكري بكثير، لمعت أسماء "النجوم الجديدة" في سماء الفكر السلفي مغيبة صوت الحكمة والعقل الذي عرف به كثير من العلماء المنتسبين للسلفية.
ونظرا للنتائج الباهرة التي حققتها هذه العملية، صُدّرت التجربة إلى بلدان إسلامية تعاني من الفكر التكفيري أولا، ومن "تشغيبات" باقي الإسلاميين ثانيا، ومن تلك البلدان بلادنا، التي كانت النتائج فيها مذهلة! وكان "السيناريو" فيها نفسه، اختراق بعض العناصر الأمنية لدروس بعض المشايخ المعروف عنهم الشدة والتسرع، ثم النفخ الإعلامي في أولئك المشايخ لحشد الأتباع، ثم الهجمة الشرسة التي تجرف التكفيريين أولا، ثم كل من خالف الشيخ المغرر به في أي مسألة من مسائل الدين –ثانيا-، ثم إشغال الإسلاميين بـ"الكانيبالية" فيما بينهم وشيطنة من بقي من السلفيين في نظر الرأي العام...أي رجم عصفور واحد بعشرات الأحجار!
كان من النتائج المباشرة لهذه الخطة انخراط مجموعات من الشباب المنتسب للسلفية في مهمة "مطاردة الساحرات"، بتتبع أخطاء كل داعية أو عالم أو متكلم في الشأن الديني أيا كان مشربه، فإن أخطأ في نفس الأمر أو في ظنهم، ملئت الصفحات في الشبكة العنكبوتية بكل ما جادت به القواميس من عبارات التبديع والتجريح والقذف والشتم، ونجحت هذه الخطة في عزل التكفيريين الحقيقيين بشكل كبير، ولكن آثارها الجانبية كانت مفزعة:
• حرمان قسم من الشباب المنتسب إلى السلفية من تأطير الدعاة الحكماء والعلماء العقلاء، فكلهم قد صار مجروحا ومدسوسا ومميعا..حسبما صدرت به بيانات "بابوية" السلفيين الجدد، التي ترد إليها البيعات وخطابات الولاء والإذعان من كل البلاد، فنشأ جيل من الشباب المتدين مستقطب فكريا من جماعة فكرية (ولا أقول بلد!).
• توسيع الشرخ بين "السلفيين الجدد" والكيانات الفكرية الإسلامية الأخرى، وبالأخص جماعة الإخوان المسلمين، ولا يُنكر قِدم الخلاف بين السلفيين والإخوان، ولكنه لم يصل –أبدا- إلى العنف اللفظي الذي وصل إليه بعد الخطة الأمنية المحكمة، التي صيرت الإخواني أخطر عند "السلفي" (الحدادي-طبعا!-) من اليهود والنصارى!! وقد تجلى هذا الزعم واقعا في ركون بعض المحسوبين على السلفية في مصر إلى الحاكم المغتصب الظالم في موقف من أكثر المواقف خزيا في تاريخ الحركة الإسلامية(*)
• هيكلة "السلفية" حزبيا (مع أن الحداديين من أشد الطوائف معارضة للحزبية! ولكنهم متحزبون واقعا)، وتعيين الحداديين –واقعا وإعلاميا- ناطقا رسميا وحيدا باسم "السلفية"، فإذا نقلت الصحافة عن "سلفي" فعنهم تنقل، وإن تكلمت عن ظاهرة "سلفية" فإياهم تعني، وإن شنع ذو قلم مرتزق على"السلفية" فبمثالبهم يعلل ويدلل.
• توسع غير محمود في مبدأ طاعة الحاكم بالمعروف، وتذبذب في خريطة الولاء والبراء أسفرت عن مواقف مضحكة مبكية في بعض الأحيان.
وغير واحد من المتتبعين لمسار الانحراف الحدادي يتنبأ وفقا لتصاعد تطرف هذه الطائفة بجنوحها في المستقبل إلى العنف، فتكون البديل عن الانحراف التكفيري التي أنشئت لدحره!
وقد ظهرت معارضة صريحة من العارفين بالفكر السلفي في كل البلدان الإسلامية لهذا الانحراف الفكري، وفضح بعضهم المقلب المخابراتي جهارا في كتب مطبوعة وسمعيات منشورة، وظهرت حقائق كثيرة تكشف خيوط المؤامرة لكل ذي عينين، لكن مع الأسف الشديد، ما يزال المناوئون للفكر السلفي –بما في ذلك الاستئصاليون أرباب المقلب الأمني و"مرتزقة" الفكر الديني من كُتّاب الجرائد- يلزمون السلفيين جميعا بما تقترفه الطائفة "الحدادية"، ويوهمون الناس أن فكر هذه الطائفة المارقة هو فكر السلفيين جميعا لتشويه صورتهم، وتأليب الدهماء عليهم.
إن ما تراه وتسمعه وتقرؤه في إعلام بلدنا (المرتزق لا المحترف!) من "شيطنة" للفكر السلفي، بأنه تيار التجريح والتبديع، والولع بالحاكم، وتعلق القلب بدولة أجنبية (وهم يقصدون المملكة السعودية طبعا!)، هو في الحقيقة من أعراض "الطفرة الحدادية" التي طغت على المشهد الإعلامي، وتلقفها المغرضون وأنصاف المثقفين على أنها هي السلفية وتلك مثالبها، واتخذها بعض المحسوبين على تيارات إسلامية ذريعة لتصفية حسابات سياسية مع غرمائهم السلفيين.
ليس من الغريب اليوم أن يطرح البعض سؤالا محيرا: من هم السلفيون؟ ومن يمثلهم؟ ومن يتكلم باسمهم؟
فتارة يقدم الإعلام أحد أعلام السلفية "الحركية" على أنه "زعيم" للتيار السلفي، وأحيانا تجعل الصحافة بيان سلفي "جهادي" أو "ثوري" مسفرا عن رأي السلفيين في قضية ما، ومرة يُجعل تصريح "قيادي" في السلفية "العلمية" رأيا رسميا للسلفيين في مسألة أخرى.
إن مجرد طرح السؤال (السابق) خطأ من أصله، فكيف بالإجابة عنه كما فعلت صحافتنا التي وقعت عن جهل أو عن علم في فخ تحزيب "السلفية".
السلفية كما أعتقد -وما أزال!- ليست حزبا ولا طائفة ولا فرقة ولا جماعة ولا جمعية ولا نحلة ولا جبهة ولا تجمعا ولا ودادية ولا نقابة ولا...
السلفية توجه فكري مشاع مشترك بين كل التوجهات الإسلامية السنية، فمستقل منه ومستكثر، لأن معناها بلا تكلف ولا تفلسف هو الرجوع إلى فهم السلف لمسائل الدين.
وفهم السلف لمسائل الدين يعبر عنه في الاصطلاح الأصولي بمسائل الإجماع وتفاريعه (الإجماع السكوتي وقول الصحابي)، وهو مبدأ تأخذ به كل الطوائف السنية (من حيث الجملة)!
ولو انبنى النقاش بين "السلفيين" و"غير السلفيين" (إن صح هذا التقسيم) على هذه الحيثية، لسحب البساط تحت أرجل الآكلين بالسلفية وتحت أرجل الآكلين بسب السلفية، ولانحصر الحوار والنقاش بين العقلاء من كل طرف.
تحويل "وهم" هيكلة السلفية إلى حقيقة وواقع، بأن يكون للسلفية رأس وأتباع ومتحدث رسمي وأحزاب وقنوات ومرشحون، مسعى حثيث لجهات متعددة دافعها يتراوح بين سوء الفهم وسوء النية.
ولن أتحدث في هذا المقال إلا عن جهة من تلك الجهات، طائفة غامضة متناقضة، احتكرت "السلفية" وجعلتها ملكا حصريا وعلامة مسجلة، بدعم إعلامي ودعائي ضخم ومغرض.
هذه الطائفة التي سأتكلم عنها هي الطائفة "الحدادية"، وقد كان يمكنني أن أسميها بأسماء أخرى نسبة لأفراد ممن طارت شهرتهم حتى اعتقد كثير من المنتسبين إلى السلفية أنهم هم السلفية وهي إياهم! لكن سيثير ذلك حفيظة البعض، ويخرج النقد عن سياقه، لذلك سأسميها "الحدادية" نسبة إلى الحداد، أول من صدع بأفكارها، ثم صار-المسكين!- كبش الفداء الذي يمسح فيه "موسها" من بعد، مع أنه صار "خارج الصورة" منذ عقود!
لماذا الكلام عن "الطفرة الحدادية في الفكر السلفي"؟
الكلام عن هذه القضية من الأهمية بمكان في هذا الوقت، حيث كبر "الغول" الحدادي، واشتد عوده، وعظم فساده، ولا عجب أن ينفلت من أغلال من روضه، وينقلب عليهم كما انقلب عليهم قبله "الغول" التكفيري.
نتكلم عن هذه القضية لأن سهام النقد توجه إلى السلفي "الخاطئ"، الذي عُصِب برأسه كل بوائق "الحدادي".
نتكلم عن هذه القضية ليعلم الإسلاميون كيف يكاد بهم، وتُنسج أكفانهم في المخابر الأمنية، ولكن "غفلة الصالحين" أعمتهم، حتى كفوا أعداءهم مؤنة تدمير أنفسهم بأنفسهم، وتخريب بيوتهم بأيديهم.
إن "الحدادية" انحراف-أو تحريف متعمد- للفكر السلفي، وهي ليست حركة فكرية بقدر ما هي من أنجح التلاعبات المخابراتية والأمنية التي عرفها التاريخ في العالم الإسلامي، وتشبه إلى مدى بعيد عملية الزرق (bleuet) التي وضعها المحتل الفرنسي لتفجير جيش التحرير الوطني.
الطفرة الحدادية هي –باختصار شديد- خطة مخابراتية محكمة لمضادة ما يسمى بالفكر "الجهادي" دون إطلاق رصاصة واحدة، لعل بذرتها غُرست بُعيد حرب الخليج الثانية، وما أثارته من موجة استياء شديد تجاه المملكة العربية السعودية بسبب فتوى بعض علمائها بالتحالف مع قوات كافرة لصد القوات العراقية المحتلة للكويت، والقاصدة للأراضي السعودية. هذه الوضعية ولدت بروز نوع من الدعاة وطلبة العلم "التقدميين" -إن صح القول-، تناولوا بالنقاش ما كان يُعد "قدس الأقداس" في المملكة العربية السعودية، وهو شرعية نظام الحكم، وقد كان لهؤلاء الدعاة الشباب-آنذاك- من الرصيد العلمي والبلاء الحسن في الدعوة والوعي والنضج ما هيأ لقبول أفكارهم، لكن كان فيهم حماسة وتسرع قد يوقع بعض الأتباع الغافلين في التطرف والعنف، لأجل ذلك قامت طائفة أخرى من العلماء والدعاة في المملكة السعودية نفسها، بمحاولة كبح جماح الطائفة السابقة، وتهذيب حماستها في الإنكار على الحكام السعوديين.
إلى هنا، لم يَعدُ الأمر كونه خلافا فكريا سعوديا داخليا، تابع تطوراته كثير من الإسلاميين على مختلف مشاربهم في العالم الإسلامي لكون المملكة السعودية قطبا من أقطاب الحركة الإسلامية في العالم.
ورغم حدة الخلاف فيه، وكونه في قضية حساسة، فلم يشهد النقاش عبارات التخوين والتبديع والتجريح بين الطرفين، بل كان أقرب إلى الحوار العلمي، وآتى أكله بتقريب وجهات النظر، وأنتج بعض المراجعات والتراجعات من بعض الأفراد الذين انتقلوا من غياهب السجون إلى شاشات أشهر الفضائيات في عافية وأمن.
لكن الذي حدث آنذاك أن ركب موجة الإنكار على هؤلاء النفر من الدعاة المتحمسين أناس كما يقال: "ملكيون أكثر من الملك"!، وهؤلاء في خضم دفاعهم عن الشرعية "العرشية" للحكام السعوديين، تحاملوا على المعارضين لهم ووصفوهم بأشنع الأوصاف وأقبحها، واتهموهم بتبني فكر الخوارج، وبالتالي المروق عن منهج أهل السنة والجماعة.
ولعله في تلك اللحظة ذاتها، تفطنت بعض أجهزة المخابرات في الدول العربية إلى فرصة سانحة، وغنيمة باردة، فإذا كان أولئك "المعارضون" في السعودية قد تعرضوا لكل هذا النقد والتجريح من " الملكيين أكثر من ملوكهم" لمجرد نقدهم للحكام في السعودية، فكيف سيرد أولئك (الملكيون أكثر من ملوكهم) –إذن- على من يتجاوز النقد إلى التكفير والخروج والعنف؟
في الفترة نفسها ظهرت في المملكة العربية سعودية حركة متطرفة (فكريا) نسبت إلى رجل مصري يسمى "الحداد"، تدعو إلى تبديع كبار علماء الأمة-قديما وحديثا-، وإلى تحريق كتبهم، من أجل ما يرونه مخالفات فيها.
فأي نتيجة (باهرة) ستعطيها عملية "تطعيم" المتعصبين للمُلك السعودي بجرعة من الفكر الحدادي؟
وهكذا اتضحت معالم الخطة "الجهنمية": اختراقٌ لمجالس بعض المشايخ المعروف عنهم سرعة الانفعال والتسرع والحماسة (الزائدة) في مناوأة الفكر التكفيري –بالأخص في السعودية- مع القابلية للتأثر، ثم التأثير عليهم –من حيث لا يشعرون- لدفعهم إلى توجيه هجمات فكرية شرسة –على منوال الحدادية- على كل من حام حول حمى انتقاد النظام السعودي.
ومع الدعم الإعلامي والدعائي الكبير لبعض المواقع على الشبكة العنكبوتية، ودور النشر والتسجيل (والتحق بالزخم الدعائي مؤخرا قنوات فضائية) التي رفعت بعض المغمورين أو شبه المغمورين في بعض البلدان الإسلامية كالسعودية ومصر إلى درجات تفوق مستواهم العلمي والفكري بكثير، لمعت أسماء "النجوم الجديدة" في سماء الفكر السلفي مغيبة صوت الحكمة والعقل الذي عرف به كثير من العلماء المنتسبين للسلفية.
ونظرا للنتائج الباهرة التي حققتها هذه العملية، صُدّرت التجربة إلى بلدان إسلامية تعاني من الفكر التكفيري أولا، ومن "تشغيبات" باقي الإسلاميين ثانيا، ومن تلك البلدان بلادنا، التي كانت النتائج فيها مذهلة! وكان "السيناريو" فيها نفسه، اختراق بعض العناصر الأمنية لدروس بعض المشايخ المعروف عنهم الشدة والتسرع، ثم النفخ الإعلامي في أولئك المشايخ لحشد الأتباع، ثم الهجمة الشرسة التي تجرف التكفيريين أولا، ثم كل من خالف الشيخ المغرر به في أي مسألة من مسائل الدين –ثانيا-، ثم إشغال الإسلاميين بـ"الكانيبالية" فيما بينهم وشيطنة من بقي من السلفيين في نظر الرأي العام...أي رجم عصفور واحد بعشرات الأحجار!
كان من النتائج المباشرة لهذه الخطة انخراط مجموعات من الشباب المنتسب للسلفية في مهمة "مطاردة الساحرات"، بتتبع أخطاء كل داعية أو عالم أو متكلم في الشأن الديني أيا كان مشربه، فإن أخطأ في نفس الأمر أو في ظنهم، ملئت الصفحات في الشبكة العنكبوتية بكل ما جادت به القواميس من عبارات التبديع والتجريح والقذف والشتم، ونجحت هذه الخطة في عزل التكفيريين الحقيقيين بشكل كبير، ولكن آثارها الجانبية كانت مفزعة:
• حرمان قسم من الشباب المنتسب إلى السلفية من تأطير الدعاة الحكماء والعلماء العقلاء، فكلهم قد صار مجروحا ومدسوسا ومميعا..حسبما صدرت به بيانات "بابوية" السلفيين الجدد، التي ترد إليها البيعات وخطابات الولاء والإذعان من كل البلاد، فنشأ جيل من الشباب المتدين مستقطب فكريا من جماعة فكرية (ولا أقول بلد!).
• توسيع الشرخ بين "السلفيين الجدد" والكيانات الفكرية الإسلامية الأخرى، وبالأخص جماعة الإخوان المسلمين، ولا يُنكر قِدم الخلاف بين السلفيين والإخوان، ولكنه لم يصل –أبدا- إلى العنف اللفظي الذي وصل إليه بعد الخطة الأمنية المحكمة، التي صيرت الإخواني أخطر عند "السلفي" (الحدادي-طبعا!-) من اليهود والنصارى!! وقد تجلى هذا الزعم واقعا في ركون بعض المحسوبين على السلفية في مصر إلى الحاكم المغتصب الظالم في موقف من أكثر المواقف خزيا في تاريخ الحركة الإسلامية(*)
• هيكلة "السلفية" حزبيا (مع أن الحداديين من أشد الطوائف معارضة للحزبية! ولكنهم متحزبون واقعا)، وتعيين الحداديين –واقعا وإعلاميا- ناطقا رسميا وحيدا باسم "السلفية"، فإذا نقلت الصحافة عن "سلفي" فعنهم تنقل، وإن تكلمت عن ظاهرة "سلفية" فإياهم تعني، وإن شنع ذو قلم مرتزق على"السلفية" فبمثالبهم يعلل ويدلل.
• توسع غير محمود في مبدأ طاعة الحاكم بالمعروف، وتذبذب في خريطة الولاء والبراء أسفرت عن مواقف مضحكة مبكية في بعض الأحيان.
وغير واحد من المتتبعين لمسار الانحراف الحدادي يتنبأ وفقا لتصاعد تطرف هذه الطائفة بجنوحها في المستقبل إلى العنف، فتكون البديل عن الانحراف التكفيري التي أنشئت لدحره!
وقد ظهرت معارضة صريحة من العارفين بالفكر السلفي في كل البلدان الإسلامية لهذا الانحراف الفكري، وفضح بعضهم المقلب المخابراتي جهارا في كتب مطبوعة وسمعيات منشورة، وظهرت حقائق كثيرة تكشف خيوط المؤامرة لكل ذي عينين، لكن مع الأسف الشديد، ما يزال المناوئون للفكر السلفي –بما في ذلك الاستئصاليون أرباب المقلب الأمني و"مرتزقة" الفكر الديني من كُتّاب الجرائد- يلزمون السلفيين جميعا بما تقترفه الطائفة "الحدادية"، ويوهمون الناس أن فكر هذه الطائفة المارقة هو فكر السلفيين جميعا لتشويه صورتهم، وتأليب الدهماء عليهم.
إن ما تراه وتسمعه وتقرؤه في إعلام بلدنا (المرتزق لا المحترف!) من "شيطنة" للفكر السلفي، بأنه تيار التجريح والتبديع، والولع بالحاكم، وتعلق القلب بدولة أجنبية (وهم يقصدون المملكة السعودية طبعا!)، هو في الحقيقة من أعراض "الطفرة الحدادية" التي طغت على المشهد الإعلامي، وتلقفها المغرضون وأنصاف المثقفين على أنها هي السلفية وتلك مثالبها، واتخذها بعض المحسوبين على تيارات إسلامية ذريعة لتصفية حسابات سياسية مع غرمائهم السلفيين.
(*) ولكنه ليس الموقف الأول من هذا النوع مع الأسف، فقد وقع نظيره –مع بعض الاختلاف ومع عكس الأدوار- في الجزائر وبلاد إسلامية أخرى!
سأل أناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكهان؟ فقال: «ليسوا بشيء»
من مواضيعي
0 جُنُونِيَّاتٌ جَزَائِرِيّةٌ (2): الأَشِـــعَّــــةُ فَـــــــوْقَ الــــــنّـــــَهْـــــدِيَّــــــ
0 جُنُونِيَّاتٌ جَزَائِرِيّةٌ (1): دَوْلَــــةُ "الــــحَــــفْــــصِــــيّـــِيــــنَ"..
0 "حَافِظُ الأَحْلامِ"..
0 "دَاعِــشْ".. مَـا أَكْـثَـرَ "عِـيَـالَـكَ"!
0 "أَنــَــا مُـــــجْــــــرِمٌ!.."
0 قَـنَـوَاتُ الخـَيَـالِ.. "الـبَـطْـنِـيِّ"!
0 جُنُونِيَّاتٌ جَزَائِرِيّةٌ (1): دَوْلَــــةُ "الــــحَــــفْــــصِــــيّـــِيــــنَ"..
0 "حَافِظُ الأَحْلامِ"..
0 "دَاعِــشْ".. مَـا أَكْـثَـرَ "عِـيَـالَـكَ"!
0 "أَنــَــا مُـــــجْــــــرِمٌ!.."
0 قَـنَـوَاتُ الخـَيَـالِ.. "الـبَـطْـنِـيِّ"!