تسجيل الدخول تسجيل جديد

تسجيل الدخول

إدارة الموقع
منتديات الشروق أونلاين
إعلانات
منتديات الشروق أونلاين
تغريدات تويتر
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية زكي التلمساني
زكي التلمساني
عضو نشيط
  • تاريخ التسجيل : 03-04-2008
  • الدولة : تلمسان/الجزائر
  • المشاركات : 31
  • معدل تقييم المستوى :

    0

  • زكي التلمساني is on a distinguished road
الصورة الرمزية زكي التلمساني
زكي التلمساني
عضو نشيط
البصائر من ثورة الجزائر
15-02-2009, 02:40 AM
البصائــر


من


ثورة الجزائـــر



بمداد: زكي بن محمد المصمودي التلمساني



الحمد لله وحده و الصلاة و السلام على من لا نبيّ بعده:



لعلّ من أوْجبِ الواجباتِ التي علينا نحو شعوبنا أن نقرأ لها تاريخها المصفّى الذي به مادة حرّيتها و رفعتها، فنستخلصها لها و نسقيها إياها خالصة كبصائر لكل سائر، و منائر لكل ثائر، سلبت منه أرضه و قصدت عقيدته و لغته و تاريخه، فلا بدّ و أنْ يكون فيما بين يديه من أخبار ما مضى من النماذج التي يتأسّى بها حتى لا تزِلَّ له قدم، و لأنّ التاريخ عجلة تدور لتعود إلى مبدئها ، و أعداء هذه الأمة يتداولون المهام بينهم بحسب كبيرهم الذي علّمهم الشرّ، فلا خلاف بينهم إلا في مسمّياتهم.


قد عانى القطر الجزائري من ويلات الاحتلال الفرنسي لمدّة تزيد عن القرن و ثلثه، ضربت خلالها على شعبه الأسداد، فلم يرَ النور إلا إن تسلّل إليه خفية، و حجبت عنه كل بارقة خير، و سامت الأهل بالتقتيل و التجويع و الاظطهاد، و سلبت آساده كل قوة تتيح لهم عيش الكفاف، و شرّدت كل من دعا قومه إلى المطالبة بالحقّ المغصوب، و أبت إلا أن تجعل هذه البلاد الشريفة ذيلا ملحقا بفرنسا، و قد طالت ساعة البلاء على هذه الأمة حتى انهدّت أركانها لتنمحي رويدا رويدا معالم كينونتها، بلْ 'كاد الزّمن أن يعفي على اسم الجزائر كما عفى من قبل على اسم الأندلس'، حتى أنّ أحد أبنائها من المثقفين قال أنه قد طاف بالقبور و لم يجد للجزائر أثرا، و عملت فرنسا بكل ما ملكت من الشر و أدواته لترسّخ في الأذهان و تلّقن الأفهام فكرة "الجزائر الفرنسية".. بيد أنّ الله إذا أراد أمرا فلا رادّ له، و إذا أتت مدوده فلا موصد للأبواب في وجهها:" و الله متمّ نوره و لو كره الكافرون"، و بعد طول ليل النائبات بزغ فجر الثورة، و بعد المخاض العسير المؤلم خرج إلى الحياة شعب الجزائر بعد أن سلبت منه الحياة غصبا، و هو على أهبة ليختار المنيّة الرفيعة على الدنيّة الوضيعة، فيصفه أبو الحسن الندوي –رحمه الله- فيقول:"..لأولئك الذين يؤدّبون البربرية الفرنسية، في بقاع الجزائر الكريمة، و الذين تذكّرنا أعمالهم العجيبة، بأيام محمد صلى الله عليه و سلم و بأيام أصحابه البررة. أجل إذا كان هنالك في أيامنا خوارق حقا، فإن هذا الذي يصنعه إخواننا الجزائريون –في قلّة عددهم و عُددهم مع كثرة العدو الفادحة فيهما معا- إنما هو من أعلى طراز الإيمان و أغلاه، و لا عجب في شأن أهل الإيمان، فقديما قال فيهم ربهم:" كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، و الله مع الصابرين". و لقد بيّض هذا الشعب وجه الجهاد و رفع رأس الإسلام الحق عاليا، و أحيا ذكرى حطّين و القادسية و قضى على أحلام الاستعمار بعد أن ظنّ أنها حقيقة أكبر من الحقيقة ذاتها.. و ليس غرضي من هذه السطور سرد وقائع بطولية يتشدّق بها القعدة ممّن يعيشون على فتات المجد حين عجزوا أن يكونوا آسادا، و لا ترجيح روايات تاريخية، أو تصوير ما أتخيّله و أشتهيه لحوائج في أنفسنا، و إنّما بغيتي رضا الله بأنْ نستخلص العبر لينتفع بها أولا من يجاهد لأجل تخليص دينه و أرضه و لغته من يد الأعادي كإخواننا في فلسطين و العراق و غيرها من الأقطار، ثم للأجيال اللاحقة ليروا معاني القوة من خلال استقراء التاريخ و استنباط الأحكام منه و نأيا بهم عن زحمة السرد الجاف.. فهذه بضع بصائر لمحها قلمي و تركت بعضها حذر التطويل، و ما لي أن لا أسطّرها "فمن أبصر فلنفسه و من عمي فعليها" و الله أسال التوفيق و السداد:



* الاستقلال يؤخذ غلابا و لا يعطى بالرضيّة: بعد أحداث الثامن ماي الفظيعة و التي راح من ورائها أكثر من أربعين ألف جزائري حين خرجوا مطالبين فرنسا بالوفاء بوعدها الذي قطعته بأن تمنح الجزائر استقلالها إن هي انتصرت و حلفاؤها في الحرب العالمية الثانية، فما كان منها إلا أن تجازي الإحسان بالعدوان، و تقتّل هذا الكمّ من البشر، و الثامن ماي هو "يوم مظلم الجوانب بالظلم، مطرز الحواشي بالدماء المطلولة، مقشعر الأرض من بطش الأقوياء، مبتهج السماء بأوراح الشهداء، خلعت شمسه طبيعتها فلا حياة و لا نور، و خرج شهره من طاعة الربيع فلا ثمر و لا نوْر، و غبنت حقيقته عند الأقلام فلا تصوير و لا تدوين.."، و حينها تيقّنت كل طبقات الشعب أن الحرية و الاستقلال لا يؤخذان إلا بالقوة كما دخلت فرنسا بمنطق القوّة أول مرّة، و البادئ أظلم، و ما زاد اليقين رسوخا هو فشل الحزبية و صراع السياسة و تقاتل الأفكار، و كذا وصول أنباء انهزام فرنسا في معارك أخرى في العالم، فزالت أسطورة أنّ فرنسا قوة التي لا تقهرها أمة مستضعفة، فكل هذا هيّأ النفوس للانفجار و حمل راية الجهاد ضد العدو.

ذرِ الخوف تعرف ثنايا السلوك **** فمن هاب خاب و ضلّ الثنيّه


رأيت المنايا سبيل المنى **** فخاطرْ تصبْ مُنْية أو منيّه


إذا زلزت بالخطوب البلادُ **** فلا خير في حذر أو تقيّه


تولى زمان الرضى بالهوان **** و وافى زمان الفدى و الضّحيّه


أنصلى الجحيم، و نسقى الحميم **** و نرعى الوخيم، و نعطى الدنيّه


و من حولنا تستباح الدّيار **** و يخزى الصبيّ بها و الصبيّه


أتخضع للضّيم يا ابن الأباة **** و تطرق مستسلما للأذيّه


أما في عروقك أزكى الدّما ؟ **** أما في فؤادك أذكى الحميّه


و لا تنتصر للبكا بالبكا **** و تبدِِ الشكيّة عند الشّكيه


إذا كان كفّك غير سخيٍّ **** فماذا تفيد الدموع السخيّه ؟


و نفسك بعها مع البائعين **** كرام النفوس لباري البريّه

قلتُ-زكي التلمساني-: و لا يزال من هو من رحم هذه الأمة يحسب أن العدوّ الذي دخل ظلما قد يعود من حيث أتى بالجلوس إليه على موائد للخيانة لإقناعه بحقيقة حقّنا الذي يجعله هو خرافة قد ولّت، و أقصى ما قد يصل إليه أن يمنحنا وعودا زائفة، و يجعل هو من خرافته حقيقة واقعية، و تُجعل معه قضايا العقيدة و الأرض و اللغة و التاريخ محلاّ للمساومات و التنازلات، و لسنا بحاجة لأن نجرّب كرّة أخرى، فلنا من الشواهد التاريخية ما يغنينا عن التجربة، و لنتيقّن من مبدإ القوة لاسترجاع ما أخذ منّا بالقوة عنوانا للنضال، و هؤلاء الرجال هم الذين بقوا من الأمس إلى اليوم ينخدعون بما انخدعت به أمم قبلهم من مفاوضات و معاهدات و مجاذبات سلبية خربة خراب ذمم اليهود و أشياعهم في العالم.

*جني غرس العلماء: لقد كان العلماء على مرّ التاريخ هم زرّاع الخير و سقاة المغارس في هذه الأمة، و ما كثروا إلا كثرت البركة فيها، و ما نقصوا إلا كان أمرها ذا خطر، و جعلت مرصدا لكل سائمة ترومها بشرّ، فتبلوها و لا تجد من يدفعها عنها كما يدفعها عنها العلماء إذا حزبها أمر في دينها أو دنياها، و هذا ما علمه المستدمر، فعمل على التضييق على العلماء الصادقين، حتى رحل أغلب علماء الجزائر من النوابغ إلى المشرق، بعد أن امتحنوا و زلزلوا زلزالا عظيما، فبقيت الدّيار خاوية على عروشها من آثار العلم إلا من بقايا بعض الكتاتيب هنا و هناك، إلى أن أتت جمعية العلماء، فكانت كنفحة ربّانية بعثت الحياة في هذا الرجل المقبور حيّا بعد أن ظنّت فرنسا أنّه قد لفظ أنفاسه الأخيرة منذ أمد و لا رجعة له للحياة حتى يلج الجمل في سمّ الخياط، و لكنّ ظنها قد خاب و خسر، كما سيخيب و يخسر ظنّ من يحسبون أن حياة الأمم و قيام الحضارات لا يكون إلا بالمادّة –ترتفع بارتفاع سعر البترول و تنزل بنزوله- بعيدا عن الروح و ما يكون به صلاحها و قوامها. و الكثير اليوم يحسب أن جمعية العلماء المسلمين لم يكن لها يد في تحرير الأرض، جاهلين أنّ الأرض لا يحرّرها إلا إنسان حرّ بنفسه، و متناسين أنّ الإنسان في هذا القطر كان أحد رجلين –إلا ما رحم ربي-، إما مثقّف ثقافة إفرنسية، يرضع من ثديها و يهتدي بثقافتها و يتكلم بلسانها، و بينهما من البرّ و العطف ما بين الابن و أمّه، و إمّا أُمّيّ سحقه الفقر و اعتقد الخرافات و أشرب بها قلبه، يحسب أنّ الدين الكامل هو ما يجده عند الطرقيين الذين اتخّذتهم فرنسا عونا لها، فقد فتحت ذراعيها للطرقية تحضنها و تتّخذها عصا تضرب بها ساق نهضة الإصلاح، حتّى أنّ الشيخ عبد الحميد بن باديس قد تعرّض لمحاولة اغتيال من العلويين، و رمي الابراهيمي بالحجارة في تلمسان من غلمانهم، و كان التواطؤ بينهما مكشوفا و تتلكم عنه حتى وسائل إعلامهم، فقد جاء في جريدة 'لوبرتي بارزيان' الناطقة بالإفرنسية :"إنّ الطرق الصوفية تملك السلطة الروحية التي يمكن أن تكون مفيدة أو ضارّة لفرنسا تبعا لطريقة استخدامها و لكن الطرقيين كانوا حتى الآن من أحسن معاونينا...".

قد وقفت جمعية العلماء كجدار صلب في وجه الإدماج و تذويب الهوية و نشرت العلم و الهدى و النور و بنت المدارس و أسّست الصحف الإصلاحية و حاربت الشرك و البدع و سوء المعاملات، و قد عكف عبد الحميد بن باديس على تفسير كتاب الله لربع قرن من الزمن و من أوّل ما درّسه من الكتب كتاب "الشفا" للقاضي عياض، فكان بذلك طبيبا سلفيا سقى أمّته من الشفاءين، كتاب الله و سنة نبيه صلى الله عليه و سلّم، و قد بلغ عدد طلاّبه في عام من الأعوام إلى ألف طالب أتوه من جميع ربوع الوطن، و ممّا كان يقوله لهم:"إن الشعب المتعلّم لا يُستعمر" و من المأثور من كلام الإبراهيمي قوله:" الأمّة التي لا تبني المدارس تبنى لها السجون"، و كان تخطيطهم لأكثر من إخراج العدو و عودة الاستقلال، لجزائر لا تغيب عنها شمس الهدى و العلم قطّ، يسيرون في ذلك كلّه على نور من الله، يتمثّلون بقول شاعرهم:

و نحن الرجال الثابتون عقيدة **** على المبدإ الأسمى إلى حين نقبر



و من زعم أنّ جمعية العلماء لم يكن الجهاد من أهدافها، فإمّا هو جاهل بأصول الجهاد و أنّه مرتبط بمنطق القوة في الزمن المناسب، و ليس بمنطق:"ايتنا يا مبارك بحمارك لنلج المعارك" أو أنّه لا يعرف جميعة العلماء و لم يقرأ لابن باديس مثل هذا القول: " قلّبْ صفحات التاريخ العالمي وانظرْ في ذلك السجّل الأمين هل تجد أمة غُلبت على أمرها ، ونكبت بالاحتلال ورزئت في الاستقلال ثم نالت حريتها على منحة من الغاصب وتنازلاً من المستبد ومنّة من المستعبد .. كلاّ، فما عهدنا الحرية تعطى ، إننا عهدنا الحرية تؤخذ، وما عهدنا الاستقلال يوهب ويُمنح، إنّنا علمنا الاستقلال يُنال بالجهاد والاستماتة والتضحية ، وما رأينا التاريخ يسجل بين دفتي حوادثه خيبة للمجاهد ، وإنما رأيناه يسجل خيبة للمستجدي."، و كذا قول كاهن الشّعر و هو يستنهض أبناء البلاد و ذلك سنة 1937، فتأمّل! :

فقم يا ابن البلاد اليوم و انهض **** بلا مهل فقد طال القعود


و قل يا ابن البلاد لكل لص **** تجلّى الصبح و انتبه الرقود


فخض يا ابن الجزائر في المنايا **** تظللك البنود أو اللحود


قال راقم هذه الحروف –زكي التلمساني-: و لقد صدق و برّ العوام عندنا بما يشهدون به كمثل سائر بينهم:"غرسها العلماء، و نهض بها الزعماء، و سرق ثمرتها العملاء"، فإنّ هذه الحقيقة أضحت في القرون المتأخّرة من البدهيات المسلّم بها، و مثله حدث في مصر من قبل، حين قام بالثورة علماء و طلابّ الأزهر، ثمّ بعد الخروج من المحنة أُزْرِيَ بالأزهر و أهله، فما عاد يوجّه إليه إلا من سدّت كل الأبواب في وجهه، و العامل فيه يكاد يدفعه راتبه الهزيل للتسوّل..!! و لكنّ الحقّ الذي لا مشاحّة فيه أن الثورة هي ثروة لأقوام، و ورْثة لآخرين، فهي ثروة بقيمتها الحضارية و مُثُلها الفكرية التي انطلاقا منها تبنى أصرحة المجد، و إمّا وَرْثة لآخرين يتكسّبون منها و يأكلون من أذنابها.

و ثمّة أمر جلل في نضال جمعية العلماء يثير تساؤل السائلين وهو: لماذا حاربت جمعيّة العلماء الطرقيّة في ذلك الظرف العسير، و الطرقيون هم من أبناء الجزائر، فكان الأوْلى لها أن تُمسِك و تؤجّل خلافاتها العقدية معهم إلى ما بعد الاستقلال ؟ و الجواب عنه أن جمعية العلماء الأولى حوت رجالا عظماء بعلمهم و رسوخهم في الدّين، و علموا من التاريخ أن الاستعمار ما حلّ إلا في بلد قد استفحل فيه الجهل و البدع، و قد أرادوا للجزائر أن تتحرّر بجهاد شرعي تكون فيه كلمة الله هي العليا و حتّى تثبِّت في القلوب عقيدة صحيحة لا غبش فيها، و لن يكون ذلك إلا بردّ البدع التي هي بريد الكفر و الشّرك، و لا تزيد الثورة إلا خبالا، فقد أخرجت كتائب من طلبة العلم كانوا من بعد هم فرسان ساحات الوغى حين حمي الوطيس ، و أسّست جريدة المنتقد ردّا على قالة السوء "اعتقد لا تنتقد"، و لم تحابي و لم تداهن في مواضيع العقيدة، فردّت على الطاهر بن عاشور في مسألة قراءة القرآن على الأموات مع شهادتها له بإمامته، و ردّت على عبد الحي الكتّاني لنصرته الطرق الصوفية، و قد أدركتُ من طلاّبها من أخبرني أنّهم لُقّنوا أنه من أراد العقيدة الصحيحة فعليه بكتب بن القيّم.

و صفوة القول أن تحرير الأرض هو حقّ إنساني، يشترك فيه المؤمن و الكافر، و قد عرفنا ما فعله الفيتناميون بأمريكا، و ما فعل الفرنسيون أنفسهم ضد الألمان، غير أن هذه الملّة قد اختصّت بالجهاد الذي هو ذروة سنام أمرها، و من أراد لجهاده أن يكون شرعيا فعليه بتصحيح العقيدة حتى يكتب المقتول عند الله شهيدا، و يكون النصر بعدها تمكينا، و من أراد لقتاله أن يكون مع من يعتقد الضرّ و النفع في واحد من البشر أو مع من يسبّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلّم و أمّهات المؤمنين فلا ضير عليه أن يسمّي قتاله مقاومة، فحسبه منه المعنى الإنساني و أما الجهاد فأنّى له بريحه ؟!!

* الحلم و الأناة: لقد كانت مجازر الثامن ماي من عام 1945 هي الضربة التي قصمت ظهر البعير، و قضت على كل سبيل للحلّ السياسي أو تفاوض لأجل الاستقلال أو حتّى لتحسين الظروف، و من ساعتها تيقّنت النخبة العاقلة أجمع أنه لم يبق أمامها من خيارٍ إلا الحلّ المسلّح، و بذلك اتّخذت قرارا تاريخيا جريئا، و الأجمل أنه قد زيّنه حلم، فلم تكن ردّة الفعل مباشرة، حتى لا تدخل الوطن إلى مغامرة غير محسوبة العواقب، و ساعتها بدأ التحضير السريّ و الجديّ للثورة، فهي إذن لم تكن فجائية أو ارتجالية، ففرنسا كغيرها لا يتفاوض معها إلا بلغة الرصاص على موائدٍ هي جبال و هضاب الجزائر، و بعد تسع سنين من المخاض العسير، خاصة بعد اشتداد تلكم الخلافات الطاحنة بين فريقين من صفّ واحد، قامت عصبة من الشباب من بينهم لزمت الحياد و قرّرت تفجير الثورة و ليكن ما يكن، و من أبى أن يتوحّد طوعا فليوحّد كرها، فالخلاف حولها كان آيلا بها حتما إلى الإجهاض، و هؤلاء الشباب لم يكونوا من الرموز التي يشار إليها بالبنان و لم يكونوا طرفا في صراعات حزبية، فقد جاء أن سويداني أبو جمعة قام في المؤتمر التحضيري و هو يوبّخ الحاضرين و الدموع تنهال من عينيه و هو يقول:"أولا هل نحن ثوريون ؟!! إذن ماذا ننتظر لنقوم بهذه الثورة إذا كنا مخلصين صادقين مع أنفسنا.."
و في الفاتح من نوفمبر خرجت الثورة كفراشة تنشر أجنحتها على طول الجزائر و عرضها، و بدأت الحرب في أولها بالمداهمات المفاجئة و نصب الكمائن لعسر الحال و الفقر من العدّة، إلى أن ترقّت بوصول المدود من باقي الدول القريبة و البعيدة، فصار بإمكان جيش الجزائر أن يلاقي العدو وجها لوجه.

"كان الإعدام الخونة، و المتعاونين مع العدو هو الهدف الأول للمقاومة السرية و جيش التحرير على السواء. فالخائن في العرف الوطني هو عين الاستعمار، و هو الجرثومة الخطرة التي يبتلى بها الوطن.. و قد نجحت في القضاء على الخونة المارقين، أذناب الاستعمار، عبيد ماله، ومن بينهم "ابن التكوك" شيخ الطريقة السنوسية في مستغانم".

و مرادي أنّ أهل الإيمان قد يُدَالُ عليهم من عدوهم و لا يقدرون على ردّه، فعليهم أن يتزيّنوا بالحلم و الأناة لحبّ الله لهاتين الخصلتين، و لأن ثمارهما دانية القطاف بعد التصبّر للزمن، فليس من الواجب لمن كان مستضعفا أن تكون ردّة فعلته مباشرة إن لم يكن ساعتها أهلا للمصادمة، فقد عُذّب أصحاب النبي صلى الله عليه و سلّم و اظطهدوا و لم يكن منهم أيّ عمل مسلّح، فلا قِبل لهم بالمواجهة، و إلا لكانت قد قضت عليهم قريش أجمع، فخرجوا من مكّة و لم يُعدّ ذلك جبنا منهم، و هم يأملون في العودة حين يأذن الله لهم و تقوى شوكتهم، و قد عادوا إليها فاتحين و لم يسلّ سيف من غمده.

و من النّاس اليوم ممّن يودّون أن يسايروا بالنصر و التمكين مع عصر السرعة، فغاية مناهم أن يزرعوا في غدواتهم ثم يعودوا ليطلبوا الثمر في عشيّهم، و تكون مغارمهم فئام من الناس يزجونهم في معارك معروفة العواقب، و قد أوصانا الله أن نعدّ العدّة:" وأعدّوا لهم ما استطعتم.."، فما دام المؤمن يعدّ ما استطاع فهو في جهاد و إن لم يجاهد، كالمصلّي الذي يتهيّأ للصلاة فهو في صلاة و إن لم يدركها. و إلا فما بال صواريخ الأعداء تأخذ منّا الأهل و الأخلاّء، و صواريخنا تلقي بنفسها حاضنة الخواء و الخلاء ؟!!
شرف العلم تابع لشرف معلومه
من درر الإمام بن قيم الجوزية
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية زكي التلمساني
زكي التلمساني
عضو نشيط
  • تاريخ التسجيل : 03-04-2008
  • الدولة : تلمسان/الجزائر
  • المشاركات : 31
  • معدل تقييم المستوى :

    0

  • زكي التلمساني is on a distinguished road
الصورة الرمزية زكي التلمساني
زكي التلمساني
عضو نشيط
رد: البصائر من ثورة الجزائر
15-02-2009, 02:42 AM
* روحانية الثورة: فُجّرت الثورة على أنها روحانية في جوهرها و مبادئها بحسب الحال و الزمان، و قد جاءت عبارة :"ضمن إطار المبادئ الإسلامية" في طليعة أهداف الدولة المنشودة، فكانت الثورة بلا جدال كالسيل الجارف، أرغمت كل من في طريقها أن يكون منها، مدفوعة برايات الله أكبر و شعائر الجهاد، و لم يكن لها فلسفة أو ميثاق يضعه واحد من البشر عدا ما جاء في كتاب الله و سنة رسول الله صلى الله عليه و سلّم، و كثيرا ما كانت تتردّد عبارت الجهاد في البيانات و الخطابات الرسمية الناطقة عن جيش التحرير، و أما كلمة السر فنابعة من صميم أفئدة أئمة الجهاد، فكلمة السر بين المجاهدين كانت "خالد" و جوابها "عقبة".
و مسألة روحانية الثورة و بقاؤها على النهج الذي بدأت به، كانت و لا زالت موضع خلاف بين المناضلين ساعتها و بين المؤرخين تبعا، فهناك من رأى أنّ مؤتمر الصومام قرّر انحراف الثورة عن مسارها، و منهم من رأى الانحراف بعد الاستقلال كالعلامة المجاهد محمد البشير الابراهيمي، فقد رحل عن الدنيا و هو غير راض عن الختام، إذْ لم يرهُ مسكا، و تفرّس بوقوع حرب أهلية تعصف بالبلد، و قد وقعت بعد ثلاثين سنة من خطبته المشهودة تلك. و بسْط هذه المسألة يطول و يلزمه المادة التاريخية لنتصوّرها تصويرا دقيقا حتى يكون الحكم سديدا، و من باب الإنصاف أن أذكر حجّة ذكرها بعض المؤرخين لقوتها، و هي أنّ الثورة كانت تخاطب الرأي العام الغربي بمبادئ المطالبة بالحقوق الشرعية لكل صاحب حقّ، و حتى لا يتّهم الثوار بأنهم سوى 'متعصبين دينيين'، و أما مع الشعب فقد خاطبتهم بلسان حالها جريدة 'المجاهد' سليلة العلم و النضال.
قلت: و يجوز العدول عن مخاطبة أهل الملل الأخرى في العهود و المواثيق بما ينكرونه علينا بالباطل، و لا يمنع هذا من أن يكون جهادنا لأجل دين الله، و دليله ما وقع في صلح الحديبية حين عدل النبي صلى الله عليه و سلّم عن كتابة "بسم الله الرحمان الرحيم" إلى "باسمك اللهم"، و كذا عن كتابة "محمد رسول الله" إلى "محمد بن عبد الله"، و في هذا فقه ينبغي التفطن له حتى لا ترمى الثورات بالانحراف جزافا.
* القيادة المحنّكة الرزينة: إنّ زمرة الشباب التي فجّرت الثورة كانت حَصَانا عن الحمق، رزانا عن التهوّر، و لا يعرف اليأس إلى قلوبهم سبيلا، فقد حسبت خطواتها و أعدّت العدّة كما ينبغي له مثل هذا الأمر الجلل، و يقول العلامة أحمد شاكر في وصفهم :"و هم رجال يعملون و لا يدّعون، و لا يتظاهرون و لا يخادعون الناس بشيء لم يكن، أو سلطان لهم لم ترضه بلادهم و شعوبهم، و هم قائمون على الدعوة إلى تحرير بلادهم.."، و قد تلقّوا الكثير من معالم القيادة من حركة الإصلاح التي بثّها العلامة عبد الحميد بن باديس في المجتع، فنجده يقول في القيادة التي لا تتحكم فيها الأثرة الشخصية:"عندما تكمل في القاعدة أخلاق الرجولة، و يتّحدون في الإيمان بالمصلحة المشتركة، و في السعي لغاية واحدة، لا يحول بينهم و بين القيام بجلائل أعمالهم و البلوغ إلى غاياتهم ما تقلّ السلامة منه بين البشر من الحزازات الشخصية."
و بالرغم من فتوتهم، و نأي أسمائهم عن الشهرة، إلا أنهم كانوا أهلا لتفجير الثورة بحكم عدّة أسباب منها:
- نبعوا من الشعب و عرفوه في مدنه و قراه و أريافه.
- ساهموا في صنع الكثير من الأحداث منذ عام 1945، غير أنّ أيديهم لم تظهر و لم يسمع لهم حسّا حتى فجّروا الثورة.
- تكوّنوا في المنظمة الخاصة العسكرية.
- مارسوا التعامل الاستعمار و مناوراته.
- درسوا في عدّة مناسبات أسباب فشل الانتفاضة و المقاومة في الماضي.

* النفير الكامل:سئل المجاهد الكبير الفضيل الورتلاني عن حقيقة الثوار في الجزائر و عن عددهم فقال:"نعم يستطيع جميع أهل الأرض أن يعرفوا من هم الثوار في الجزائر حقيقة، بل تستطيع أنت أن تلقاهم بأشخاصهم، و أن تراهم بأم عينك، و أن تتحدث إليهم و يتحدثوا إليك، و السر أو السبب البسيط جدا، ذلك لأن الثوار في الحقيقة هم جميع أبناء الأمة من رجال و نساء، و كبار و صغار، و أغنياء و فقراء، و علماء و صعاليك، و لا شيء من المبالغة في هذا مطلقا..". هذه هي الحقيقة التي ينبغي أن تدرك اليوم أن الثورة الجزائرية كان بطلها هو الشعب كلّه و لم يعرف لها رجل رمز كباقي الثورات، و أنه قد نفر بكل طبقاته و انخرط فيها، فمن لم يكن مقاتلا كان عينا على الأعداء، و من لم يكن كذلك كان معينا للمجاهدين بالمعونة و الحماية، و كل كان له يد في تحرير البلاد، و هذه حقيقة لا تنكر، و منه فلا معنى لما نراه اليوم لمنظمات المجاهدين و أبناء المجاهدين و أبناء الشهداء و أصهار المجاهدين و جيران المجاهدين، فكل ذلك من باب أكل أموال البلاد بالباطل، فمن جاهد إنما يجاهد لله، و كل الشعب انضوى تحت لواء الجهاد إلا فئام من الناس أبت إلا الولاء لفرنسا التي أدركت هذه الحقيقة، فعملت على عزل الثورة عن الشعب، حتى تذبل و تموت، و زعيمها في ذلك مثل يشبّه الثورة بالحوت و الشعب بالماء الذي يحويه، و من أراد أن يفني الحوت فعليه أن يُغِيرَ على الماء إلى أن يهلك الحوت، و من ثمّ ركنت فرنسا إلى الإبادات الجماعية و التقتيل الوحشي، ضاربة بكل مبادئ الإنسانية التي تتزعمها في المحافل.
زد على ذلك أن كلمة الشعب كانت هي كلمة جبهة التحرير، فكل تعددية أُجلّت إلى ما بعد الاستقلال، و ذلك حتى لا تقوم القطيعة، ففريق يجاهد، و فريق يهادن، و فريق يوالي، و كل ذلك من الشرّ الكبير.

* نبذ التحزّب و الفصائل:
لم تسمح جبهة التحرير الوطني لأي حزب أو تشكيل سياسي بالانضمام إلى جبهة النضال، بل كان شرطها أن يدمج فيها و يذوب بالكامل بداخل الشعب الصامد.
و ما كانت الحزبيات إلا لتفرّق شمل الأمة و تمزّق جامعتها و تبدّد جهودها، فمن شأن التعدد أن يبذر التحاسد و التباغض في نفوس الناس تجاه الحزب الآخر، و أن يشتدّ كلما وجدت بينهم أهداف مشتركة، لأن كل فريق يريد أن يستحوذ على الهدف وحده دون الآخرين، و إن وصلوا معه لزمه أن يكون هو الرّاعي له، و إلا فالحرب بينهم أشدّ مما كانت مع عدوهم المشترك، و أقلّ ما يقال عن ضرر الحزبيات ساعة الجهاد أنّها تؤخّر سيره إن لم تعدمه، و لن يُجنى من التمزّق إلا أن يكونوا لقمة سائغة في فم العدو، و لا يزال الناس إلى اليوم لم يعتبروا بهذه العبرة، فلا يزال هذا السمّ المبثوث بينهم قصدا يسري في أوصالهم، و يعظّمون حرمة التعددية الحزبية كحرمة بيتهم باسم الحرية و الديموقراطية ، و هم يقرؤون في كتاب ربّهم قول الله تعالى:"{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} و هذا التفرّق و التشرذم و التناحر بين الفصائل المنفصلة و القطائع المنقطعة ما يجعل اليوم دولة بني صهيون تنام قريرة العين نسبيا و هي تعلم أنّ كلّ من يهدّد راحة بالها لا يزال منشغلا بنفسه و لم يرتّب بيته!!
و من بديع ما أنشده أمير شعراء الجزائر محمد العيد آل الخليفة في قصيدة كانت من إرهاصات الثورة المسلّحة:
و داوِ الميول بهدي الرّسول **** فقد مسّها طائف الطائفيّه
ذئاب الشّقاق عوت في البلاد **** فأين الرّعاة لحفظ الرعيّه ؟
أنزْعُمُ أنّا من المسلميــن **** و فينا بقايا من الجاهليـه ؟
عتبتُ و لكن عتاب الوداد **** و ألمعتُ لكن لذي الألمعيّه

* لا محاباة مع الموالف و لا هوادة مع المخالف:قد أذاعوا صوتا واحدا و هو لا مفاوضات مع العدو إلا بعد الاستقلال، و لا للوصاية الخارجية التي من شأنها أن تضعف قوّتها الداخليّة، و لم تحابي في ذلك حتى المساندين لها، فقد اظطرت جبهة التحرير أن تغلق مكتبها في القاهرة احتجاجا على التدخل المصري في قضاياها الداخلية رغم ما أمدّته إياها من دعم عسكري و سياسي و غيره.
و حاصل الكلام أن ترتيب البيت هو من شأن أهل البيت، فإنه حين تكثر الأيادي تنتهز اليد الآثمة لتطعن النضال من وراءه على حين غرّة و لن يهنأ البلد أمن و لا استقرار، و ما عنكم خبر لبنان ببعيد!!

* ربّات الحجال في ميادين النضال: لقد كانت المرأة وسيلة مستهدفة عند الاستعمار، و ذلك بتغريبها لتكون يدا آثمة بيده، فهو يعلم أن ما تفعله غانية بسلب العقول لا تفعله مفاوضات و لا دبابات، و لكن المرأة الجزائرية التي شربت مبادئ الإسلام و أحبّت الوطن قد نشزت عن تعاليم فرنسا، و هذا ما قاله المؤرّخ النحرير، أبو القاسم سعد الله :".. فإنّ هذه المعجزة تتجلّى أكثر و أكثر عندما نجد الثورة الجزائرية قد استطاعت أن تجعل من المرأة العربية أداة صالحة لخدمة القضية و سلاحا قويا من أسلحة الثورة.. ففي المعركة اليوم مئات المجنّدات يعملن ممرّضات و مسعفات و حارسات و يحملن السلاح و يقمن بالأعمال الفدائية الخارقة مما جعل الاستعمار الفرنسي يضيق درعا بهن فيحكم بالاعدام على البعض و بالسجن على الأخريات.. و لعل قصة جميلة بوعزة و زميلاتها البطولية لم تغب عن أذهاننا. و إلى جانب ذلك تقوم المرأة العربية بالجزائر بدور خطير و هو رفع الروح المعنوية لجيش التحرير و يكفي أن تعلموا بهذا الصدد أنّ المرأة قد أصبحت ترفض الزواج ممن لم يجاهد أو يحمل السلاح و تحتقر الذين لم يعملوا في صفوف الثورة."
و ممّا قاله محمد العيد، كُميت الطائفة الناجية، كما لقبّته جمعية العلماء المسلمين آنذاك، و هو يتكلّم بلسان حال بنت الجزائر:
و اتّخذنا من الرّصاص عُقُودا **** و انتطقنا به على الأكبادِ
و اعتقلنا رشّاشنا ساهراتٍ **** شاهراتٍ له على استعداد
و قدحنا زنادنا فقهرنا **** و بهرنا العدا بقدح الزّناد
فإذا جنسنا اللطيف عنيفٌ **** و شريف في ساحة الأمجاد
أنا ثورية سلامًا و حربًا **** فكرتي عدّتي و علميَ جهادي
و عفافي درعي و صبري دفاعي **** و صلاحي حصني و ديني عمادي
أنا بنت الجزائر اليوم أقضي **** حقّ أمّي لخدمتي و اجتهادي


فهذه بضع بصائر أملتها قريحة مستعجلة، و لو رحنا نستقصي تاريخنا الإسلامي كلّه و نسبر حِكمه و عبره لتيقّنت النفوس العزيزة و استبصرت بما يجري في واقعها و أنّه لا حاجة لها كي تفكّر أو تجرّب مجدّدا، فقد كُفيت من قبل، و لو مدّت يدها إلى الوراء لوجدت التاريخ يمدّها بمنائر يدلّها على طريقها القائد لها إلى العزّ في الدنيا و الآخرة.. و لكِنّا اليوم في العالم الإسلامي نعاني من استعمار روحي، يتمثّل في التبعية الاقتصادية و الغزو الفكري و الظغوط السياسية، ما تسبّب لنا في "احتباس حضاري"، لا زلنا لم ندرك خطورته بعد، بل و نحن اليوم مضربٌ للحمق و السفاهة، فأمّة تملك كل مقوّمات بناء الحضارة و لا حضارة تجمعها فباطن الأرض خير لها من ظهرها، و ما يفعل أعداؤنا اليوم إلا التصبّر للزمن، ينتظرون ساعة يؤذن لهم بالاستعمار الجسدي لينزلوا إلينا من جديد و يجعلونا عبيدا عندهم في أراضينا، و لن يجدوا من يردعهم إذا كانت الدّيار قد أُفسد شبابها و أُشيع بينهم الانحلال الخُلقي و التخلف العقدي، و ما فرنسا و أمريكا و بريطانيا و غيرهنّ إلاّ ضرائر لا تعفّف لهن إلا في منح الشعوب المستضعفة حرّياتها، و لا غيرة بينهنّ إلاّ فيمن تسبق لتصيب مقاتلنا، و اسمع للعلاّمة الابراهيمي و هو يكتب عن الاستعمار الجديد قبل نصف قرن:"أفكلّما رثّ حبل الاستعمار، و تصدّع جداره، و أشرف على الفناء في حربين ماضيتين –جاءت أمريكا حاضنة الديموقراطية، تكفكف دموعه، و تنظّم جموعه، و ترمّم جداره، و تعمّر بالدولار داره ؟
إنّ الأمم الضعيفة قد لدغت من جحره مرتين، فاحذروا الثالثة، و قد أصبحت هذه الأمم تلقّب أمريكا بلقب لا يشرفها، و هو أنها (نصيرة الاستعمار).
الاستعمار عمل أوله ختل، و آخره قتل، وشرّ لا بقاء عليه، ثم لا بقاء له، و وحش مروّض آخر صرعاه رائضه، و مرض آكل يأتي على المكاسب، و يثني بالمواهب، و مخلوق لئيم، يدان و لا يفي، و ينتقم و لا يشتفي، و يستأصل و لا يكتفي، و يجاهر بالسوأى و لا يختفي، و كنود، و أوْلى الأيدي عنده بالقطع يد مدّت بإحسان إليه".

و لا أجد غضاضة من غير سحيمة و لا إدهان إن قلت أن الثورة الجزائرية قد عرفت أخطاءا خاصة ما بعد الاستقلال، و لعلّ من أعتاها إبعادُ – إن لم أقل إقصاء- العلماء عن الميادين و حجزهم عن الشعوب، و ما نعانيه اليوم من حدّة التغريب و شيوع الرطانة و هشاشة الانتماء للثوابت إلا جنيٌ مرٌّ لزلّتها تلك، فكيف بنا إنْ كانت فرنسا قد خرجت بشبحها دون روحها ؟!، فترى اليوم قوافل الشباب تخرج لترمي بنفسها في عرض البحر ترجو وصال فرنسا –عدا القوافل الراحلة جوا و بحرا بأوراقها الرسمية، و من فاته ذلك كله فلن يمنع قلبه من الأماني-، و قد يكون الخلاص من روحها ببضع رجال تقدّمهم في الصفوف الأولى لا أكثر، و لكن أيُّ رجالٍ هُمْ ؟! بِضْعُ رجال فقط و وزنهم يزيد عن مثقال ألف ألف رجل، إذْ أزمتنا اليوم هي أزمة رجال، لا مناهج و أموال، فالرّجال هُمْ منْ يُوجِدُون المناهج و همْ مَن يُحسنون تصريف الأموال في مواضعها، و إلاّ فالحَجْرُ على السُّفهاء معلوم في الشرائع لو كان القوم يفقهون.

و من النُّكت الأدبيّة التي يتضوّع بها الختام مسكا، و هي أنّ أدباء الجزائر قد اصطلحوا على تكنية فرنسا بأمّ الخيار، و أصلُ التّسمية من قول أبي نجم الراجز:
قد أصبحت أمّ الخيار تدّعي **** عليّ ذنبا كله لم أصنعِ
و وجه هذه التكنية أنّ فرنسا كانت تتجنّى عليهم و تتحجّج كل مرّة لتحظر جرائدهم و تسوقهم إلى سجونها، و تخلق لهم من الذنوب ما لم يصنعوها، فكانت الكنية لطيفة في إشارتها، و مما جاء منها قولُ أمير البيان البشير الابراهيمي لحماة العروبة في المغرب الأقصى:
و همْ موردي الأصفى المروّي لغُلتي **** و إذا كدّرت "أمّ الخيار" مشاربي
قلت –زكي التلمساني-: و قد استدارت الأيام و أصاب فرنسا العجز و الكبر، فأعطت مقاليد الشرّ للشابّة اليافعة الحسناء أمريكا، فورثت الشرّ و زادت عليه أضعافه، و هي اليوم أجدر بلقب "أمّ الخيار"، فقدت رمت أفغانستان بذنب الإرهاب و هي أمّه، ثم رمت العراق بذنب امتلاك أسلحة الدمار الشامل و هي مصنعها، و من غطرستها أنها تشهد بعد العدوان على نفسها و أمام العالمين أن لا شيء من ذاك، فقد سبقت أمّ الخيار الأولى باعترافها بكذبها، و مع كلّ هذا الخطب، فهناك من بني جلدتنا من يراها المثل الأعلى في الإنسانية و إحكام القوانين و بثّ العدل، فيرتمي في أحضانها خاطبا ودّها و هو يتناسى أنها كالسلّ المستعصي، ما سُلّط على جسد إلا أهلكه و تركه رميما، و آخرون رأوا السرطان الشيعي قد أقبل من الداخل يتباهى بقوّته و نفوذه، فحسبوا أنّ خلاصهم من السلّ لا يكون إلا بالاستنجاد به، مع أنهم يعلمون من قبل بضرّه و بالبيّنات، و لكن ما لا يعلمونه حقّا أنّ الطبّ ما استجدّ عنده بعد أنّ السرطان يبرئ من السّل، و كأنّي بهم في سكرتهم يقولون:"و داوني بالتّي كانت هي الدّاء!!".


شرف العلم تابع لشرف معلومه
من درر الإمام بن قيم الجوزية
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية مصطفى فرحات
مصطفى فرحات
مشرف المنتدى الإسلامي ومنتدى التاريخ والتراجم
  • تاريخ التسجيل : 13-12-2008
  • الدولة : الجزائر
  • المشاركات : 193
  • معدل تقييم المستوى :

    16

  • مصطفى فرحات is on a distinguished road
الصورة الرمزية مصطفى فرحات
مصطفى فرحات
مشرف المنتدى الإسلامي ومنتدى التاريخ والتراجم
رد: البصائر من ثورة الجزائر
17-02-2009, 12:01 AM
أخي زكي، سلمت يمينك، وسعيك ـ بإدراج هذا المقال ـ مشكور، وأنت بإذن الله مأجور..
فَيَا بَرْقُ ليسـ(تْ نَجْدُ) داري، وإنما
رَمَانِي إليها الدّهرُ منذُ ليَالِ
فهل لك من ماء (الجزائر) قطرةٌ
تُغيثُ بها ظمآنَ ليسَ بسالِ
  • ملف العضو
  • معلومات
الصورة الرمزية زكي التلمساني
زكي التلمساني
عضو نشيط
  • تاريخ التسجيل : 03-04-2008
  • الدولة : تلمسان/الجزائر
  • المشاركات : 31
  • معدل تقييم المستوى :

    0

  • زكي التلمساني is on a distinguished road
الصورة الرمزية زكي التلمساني
زكي التلمساني
عضو نشيط
رد: البصائر من ثورة الجزائر
17-02-2009, 01:40 AM
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مصطفى فرحات مشاهدة المشاركة
أخي زكي، سلمت يمينك، وسعيك ـ بإدراج هذا المقال ـ مشكور، وأنت بإذن الله مأجور..


أخي الفاضل:

مصطفى فرحات

بوركت على مرورك الكريم و حييت على دعواتك الزاكيات

لك مني خالص التحيّة
شرف العلم تابع لشرف معلومه
من درر الإمام بن قيم الجوزية
مواقع النشر (المفضلة)

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 


الساعة الآن 09:14 PM.
Powered by vBulletin
قوانين المنتدى