حول تعقيب المخالف على مشاركتي وآسف على التأخير
غفر الله لك .. وصفك لفهمي بأنه ركيك لا يجعله كذلك ذلك أن هذه اللفظة هي تعبير عن (انطباع) او تنفيس عن (انفعال) وليست موقفا علميا مؤصلا وقد أثر التفريق بين من وافق مناهج أهل البدع واستقى من مشاربهم ومشى على طرائقهم وبين من هو من أهل السنة يغرف من مآثرهم ويمضي على منهجهم في التلقي والاستدلال ثم اخطأ في آحاد المسائل عن غير واحد من أهل العلم
يقول الإمام الذهبي - رحمه الله - : (( ولو أنَّا كلما أخطأ إمامٌ في اجتهاده في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له, قمنا عليه وبدَّعناه, وهجرناه, لما سَلِمَ معنا لا ابن نصر ولا ابن مندة ولا من هو أكبر منهما, والله الهادي إلى الحق, وهو أرحم الراحمين, فنعوذ بالله مِن الهوى والفظاظة )) السير 14/40
ويقول الامام محمد ابن عبد الوهاب رحمه الله :
(( ومتى لم تتبين لكم المسألة لم يحل لكم الإنكار على من أفتى أو عمل حتى يتبين لكم خطأه ، بل الواجب السكوت والتوقف ، فإذا تحققتم بينتموه ولم تهدروا جميع المحاسن لأجل مسألة أو مائة أو مائتين أخطأت فيهن فإني لا أدعي العصمة )) تاريخ نجد 2/161
وعليه فالقول بأن فهم من فرق بين المنهج العام للإمام ابن باديس رحمه وبين خطئه في بعض أبواب العلم فهم ركيك هو قول مجاف للواقع مجانب للصواب لا يصدر إلا ممن لم يعرف الإنصاف إلى عقله طريقا
وأما سؤالك عن سبب نفي الإمام لصفة الصورة فما هو في الحقيقة إلا مظهرا من مظاهر الحيدة والإنحراف بالمباحثة عن طريقها الصحيح إذ لمخالفك أن يعترض عليك بما سبق الحديث عنه من هدم الإمام لأصل من أصول الأشعرية وتقريره بأن معرفة الله عز وجل إنما هي معرفة فطرية لا على ما قررته الأشعرية من شرط النظر او قصد النظر او غيرها من الاصول والقواعد الباطلة التي اتبعوا فيها اسلافهم من الجهمية
ثم أين أنت من كلام الإمام ورده على اسلافك من عباد القبور ممن يعتقد بوجود الاقطاب والأغواث واقتسامهم التصرف والتدبير ؟ بل اين انت من تقرير الإمام لأقسام التوحيد التي طننتم الأسماع بالانكار على من قررها! بل هاهو الامام يهدم اصلكم الآخر في مصدر التلقي وهاهو يرده الى النقل بينما تكفرون انتم من يقدمه على العقل ؟!!
أرجوا ان تنتفع بهذا القدر من الكلام إذ توضيح الواضحات من المشكلات كما يقول الحكماء !!
أما ما سقته من أقوال الأشعرية او من عرف بالميل إليهم فلا دلالة فيه وقد ذكرتني بقولهم : من يشهد للعروس ؟!! أمها وخالتها وعشرة من بنات حارتها !! أضحك الله سنك وهل هكذا تساق الدلائل نصرة للمذاهب ... هداك الله
أما تعقيبا على ماذكرته من إعتراضات فنقول بحمد الله :
قولك ((اللهُ عزّ و جل لا يوصف بـ " الصورة " بمعنى الشكل و الهيئة ...الى قولك : فالخالق عزّ و جلّ هو المُصَوِّر و تعالى الله أن يكون مُصوَّراً )) قد اشتمل على الكثير من المغالطات منها :
1- زعمه أن إثبات الصفة على الوجه الذي يليق بجلال الله يقتضي التركيب :
ومحاولة التشغيب على ماصحت به السنة من اثبات صفة الصورة لله عزوجل بدعوى استلزامها للتركيب
وهذا والله من أبطل الباطل إذ بناه المعترض على أصل من أصول الأشعرية وهي قولهم بأن ظاهر الصفات يقتضي التشبيه وقد رد الأئمة هذا الزعم الشنيع لما فيه من ((إساءة أدب بل إساءة ظن بالله الذي أنزل تلك النصوص وأوحى بها إلى رسوله الأمين عليه الصلاة والسلام
وهل يجوز أن يعتقد أن الله ينـزل آيات، ويوحي إلى نبيه بأحاديث ظاهرها ضلال أو كفر؟ ثم إن الرسول نفسه عليه الصلاة والسلام لا يبين المعاني الصحيحة الحقة لأصحابه؟! فلازم ذلك أن الصحابة لم يفهموا هذه النصوص على حقيقتها فكيف يفهمون لأن الرسول لم يبين لهم تلك الحقيقة التي فهمها الخلف فيما بعد، وليت شعري من أين فهموها؟!!))
((وسر المسألة أن معرفة حقيقة الصفة وكيفيتها تابعة لمعرفة حقيقة الموصوف وكيفيته، فإذا كان إيمان العباد بالله إيمان إثبات وتسليم دون محاولة لمعرفة حقيقة ذاته سبحانه فيلزم أن يكون إيمانهم بصفاته كذلك إيمان إثبات وتسليم لله، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يسلم إيمان المرء إلا بهذا التسليم وحده، ذلك لأن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات يحذو حذوه)) الجامي
يقول الإمام عبد العزيز ابن ابي سلمة الماجشون :(( فأما الذي جحد ما وصف الرب من نفسه تعمقا وتكلفا فقد إستهوته الشياطين في الأرض حيران فصار يسدل بزعمه على جحد ما وصف الرب وسمى من نفسه بأن قال : لابد أن كان له كذا من أن يكون له كذا فعمي عن البين بالخفي فجحد ما سمى الرب من نفسه عما لم يسمي منها))
ويقول الإمام الحافظ عثمان بن سعيد الدارمي :((وأما تشنيعك على هؤلاء المقرين بصفات الله عز وجل الممنين بما قال الله : أنهم يتوهمون فيها جوارح وأعضاء فقد ادعيت عليهم في ذلك زورا باطلا وانت من اعلم الناس بما يريدون بها إنما يثبتون منها ما أنت له معطل وبه مكذب ولا يتوهمون فيها إلا ما عنى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم
ولا يدعون جوارح ولاأعضاء كما تقولت عليهم غير أنك لا تألو في التشنيع عليهم بالكذب ليكون أروج لضلالتك عند الجهال))
ويقول الإمام الحافظ ابوالقاسم إسماعيل بن محمد التيمي الطلحي الأصبهاني :((فصل في الرد على الجهمية الذين أنكروا صفات الله عزوجل وسموا اهل السنة مشبهة وليس قول أهل السنة أن لله وجها ويدين وسائر ما أخبر الله تعالى به عن نفسه موجبا تشبيهه بخلقه وليس روايتهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم ((خلق الله آدم على صورته))
بموجبة نسبة التشبيه إليهم بل كل ما أخبر الله به عن نفسه واخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم فهو حق قول الله حق وقول رسوله حق والله أعلم بما يقول ورسوله صلى الله عليه وسلم أعلم بما قال وإنما علينا الإيمان والتسليم وحسبنا الله ونعم الوكيل)) الحجة في بيان المحجة 2/257
2- خطؤه في الاستدلال بالآيات :
تمويها على القارئ الكريم وتصويره لنفسه وكأنه صاحب حجة يرجع في تقرير العقائد إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في حين ان ادنى مطلع على مذهب الاشعرية يصدم من كثرة ردهم للآيا ت البينات والأحاديث الواضحات تحت مسميات شتى ويقدمون على دلالة الكتاب والسنة قواعدهم الكلامية واصولهم الحادثة حتى قال الإمام ابو زرعة الرازي رحمه الله ((المعطلة النافية الذين ينكرون صفات الله عزّ وجل التي وصف الله بها نفسه في كتابه وعلى لسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم، ويكذبون بالأخبار الصحاح التي جاءت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الصفات، ويتأولونها بآرائهم المنكوسة على موافقة ما اعتقدوا من الضلالة وينسبون رواتها إلى التشبيه، فمن نسب الواصفين ربهم - تبارك وتعالى - بما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم من غير تمثيل ولا تشبيه إلى التشبيه فهو معطل نافٍ، ويستدل عليهم بنسبتهم إياهم إلى التشبيه أنهم معطلة نافية)) وليت شعري .. كيف فهم المخالف نفي الصفات من الآيتين بل كيف سمح لنفسه قياس الله جل في علاه بخلقه ؟!!
وما وجه دلالة الآيتين في نفي صفة الصورة الثابتة بالأحاديث الصحيحة التي سنأتي على ذكرها بحول الله عن الله عز وجل ؟!! اللهم إلا إذا كان ا ستدلاله من جنس استدلال النصارى على باطلهم بآي من الذكر الحكيم تعالى الله عن باطلهم علوا كبيرا إلى هذا الحدأظن بأن الشمس قد اشرقت على عقل القارئ الكريم وقلبه فالحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات
ولنبدأ بتوفيق الله مناقشة الاقوال التي اعتمدتها:
1- الملاحظ انك لم تنقل اي نقل عن الصحابة او التابعين او الائمة المتبوعين او غيرهم ممن اشتهر بالعدالة وسلامة المعتقد وجل من نقلت عنهم إما أشاعرة وإما مائلون إلى التمشعر وهذا لا يعد وجها صحيحا في الاستدلال
2- نقلك عن الإمام عبد الواحد التميمي رحمه الله : وهو في حد ذاته مشكل والتعلق به عليك لا لك وبيانه من أوجه
2-1- نقول ان هذا ليس من كلام الامام احمد بل هو مما ذكره التميمي في مصنفه في الاعتقاد مما فهمه من اعتقاد احمد فجعل يقول كان ابوعبد الله ويذكر من اعتقاد الامام احمد بما فهمه رآه وان كان غيره من الحنابة اعلم بألفاظ الامام ومقاصده
والعلاقة بين الاشعري و أسرة التميميين الحنبلية مشتهرة وفي هذا يقول الدكتور خالد بن علال الكبير (( ... وثانيا إنه كانت هناك تأثيرات فكرية متبادلة ، بين بعض متكلمي الحنابلة و متكلمي الأشاعرة ، في مجال أصول الدين ، و كانت لأسرة التميميين الحنبلية ، أقوال متقاربة مع أقوال أبي بكر الباقلاني ، ، الذي كان يكتب في بعض جواباته اسمه هكذا : محمد بن الطيب الحنبلي ، و قد يكتبه هكذا : محمد بن الطيب الأشعري . و كان الحنبليان البغداديان أبو بكر غلام الخلال ،و أبو الحسن التميمي يعدان أبا الحسن الأشعري من متكلمة أهل السنة الموافقين لمذهب السلف في الجملة .
و ثالثا إن الأشاعرة الأوائل احتموا و تستروا بانتسابهم للحنابلة ، و إظهار موافقتهم لمذهبهم –أي لمذهب الحنابلة-، و في هذا الشأن يقول شيخ الشافعية أبو إسحاق الشيرازي (ت476ه) : (( إنما نفقت الأشعرية عند الناس بانتسابهم إلى الحنابلة )) ؛ و كان الباقلاني يكتب في بعض جواباته : محمد بن الطيب الحنبلي،و عندما رُفع أمره إلى الخليفة القادر بالله ، و ضاق عليه الحال ، تستر بالانتساب إلى الإمام أحمد بن حنبل،و أظهر موافقته له ،و كان –أي الباقلاني- أحيإا ينتسب إلى الأئمة الثلاثة : مالك و الشافعي و احمد ))
ولهذا اعتمد الحافظ البيهقي رحمه الله في كتابه الذي صنفه في مناقب الامام احمد عند نقله لمسائل الاعتقاد على ابي الحسن التميمي كما ذكر شيخ الاسلام رحمه الله وكثير مما ذكره ابو الفضل التميمي مخالف لمعتقد الامام احمد كما نقل عنه نفي الجسم والجوارح والتركيب ونحو هذه الألفاظ وقد كانت طريقة احمد وامثاله من الأئمة انهم لا يطلقون مثل هذه الالفاظ لا نفيا ولا إثباتا بل يقولون اثباتها بدعة كما ان نفيها بدعة وانما يلتزمون ما جاء في الكتاب والسنة من صفات الله تعالى قال الامام احمد ((ولا يبلغ الواصفون صفته ولا نتعدى القرآن والحديث فنقول كما قال ونصفه بما وصف به نفسه ولا نتعدى ذلك))
ومن المعلوم ان عقيدة الامام احمد انما تؤخذ مما ذكره بلفظه لا مما فهم من كلامه ومصادرها متنوعة:
*-ماكتبه وسطره بنفسه ككتاب ((الرد على الجهمية والزنادقة)) وكرسائله الى اصحابه كرسائله الى مسدد ورسائله إلى عبدوس
*- ما صح عنه من كلامه وألفاظه المنقولة عنه كما في ((السنة)) للخلال وكتاب شرح اعتقاد اهل السنة للالكائ
2-2- في هذه العقيدة المنسوبة للإمام أحمد والتي اعتمد عليها المعترض مسائل كثيرة مخالفة لمعتقد الأشعرية وهادمة لأصولهم فهل سيرتضيها صاحبنا ام سينكص على عقبيه راميا صاحبها بالتجسيم؟!! أم تراه سيخرجها على طريقة أهل الركاكة كما يقول ؟!! اسئلة عديدة ارجوا ان يجد صاحبي الوقت لإجابة نفسه عنها .. وأما عن سواهد ما اقول فسأكتفي بشاهدين فقط إذ القصد هو المثال لا الحصر :
الشاهد الأول :
قال ابو الفضل التميمي في اعتقاد الامام احمد لما ذكر الوجه لله تعالى ((وذلك وجه على الحقيقة دون المجاز ووجه الله باق لا يبلى وصفة له لا تفنى ومن ادعى ان وجهه نفسه فقد الحد ومن غير معناه كفر)) وليس وجه الله عند القوم على الحقيقة فمنهم من يقول وجهه ذاته ومنهم من يفوض المعنى قال عبد القاهر البغدادي في (اصول الدين) : ((الصحيح عندنا ان وجهه ذاته وعينه رؤيته للأشياء))
فهل صاحبنا موافق لما يزعم انه اعتقاد الامام احمد؟!!
الشاهد الثاني:
قال التميمي ((ان لله تعالى يدين وهما صفة ذاته .... ويفسد ان تكون يد القوة والنعمة والتفضل لأن جمع يد أيد وجمع تلك أياد)) وعند صاحبنا اليد تقضي التجسيم !! فهل ياترى سيوافق على ما يزعم انه اعتقاد الامام احمد؟!!
والقول في نقله عن البيهقي والخطابي هو نفسه إذ المعلوم ان عمدتهم هو التميمي كما تقدم ويكفي بيان مخالفتهم لإمامهم في هذا القول في اسقاط احتجاج المخالف بما قرروه فقد ذكر الإمام أحمد فيما أملاه على بعض أصحابه من أقوال أهل السنة والجماعة قال القاضي أبو الحسين في طبقات الحنابلة – في ترجمة أبي جعفر محمد بن عوف بن سفيان الطائي الحمصي – (( نقلت من خط أحمد الشنجي بإسناده قال : سمعت محمد بن عوف يقول : أملى عليَّ أحمد بن حنبل – فذكر جملة من المسائل التي أملاها عليه مما يعتقده أهل السنة والجماعة , ومنها – وأن آدم صلى الله عليه وسلم خلق على صورة الرحمن كما جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ))
وقال الإمام الآجري :(( هذه من السنن التي يجب على المسلمين الإيمان بها ولا يقال فيها : كيف؟ ولِمَ ؟ بل تستقبل بالتسليم والتصديق، وترك النظر، كما قال من تقدَّم من أئمة المسلمين )) كتاب الشريعة للإمام الآجري (ص 262) .
وقال شـــــيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله – بعد إيراده لروايات الحديث: ((والكلام على ذلك أن يقال هذا الحديث لم يكن بين السلف من القرون الثلاثة نزاع في أن الضمير عائد إلى الله، فإنه مستفيض من طرق متعددة عن عدد من الصحابة وسياق الأحاديث كلها تدل على ذلك …. ولكن لما انتشرت الجهمية في المائة الثالثة جعل طائفة الضمير فيه عائدًا إلى غير الله – تعالى – حتى نُقل ذلك عن طائفة من العلماء المعروفين بالعلم والسنة في عامة أمورهم كأبي ثور وابن خزيمة وأبي الشيخ الأصبهاني وغيرهم ولذلك أنكر عليهم أئمة الدين وغيرهم من علماء السنة))
أما عن نقلك الطويل عن ابن الجوزي رحمه الله فالمعلوم هو اضطراب هذا الامام في باب الصفات اضطرابا شديد ولا يعلم له العلماء قولا واحدا ثبت عليه بل قد يضطرب في الكتاب الواحد بين آراء مختلفة فما يقرره في دفع شبه التشبيه يرده في المجالس(مجالس ابن الجوزي في المتشابه) وما يقرره في صيد الخاطر يرده في زاد المسير ولعل هذا لأمر هو الذي دفع علماء الحنابلة للرد عليه وبيان مخالفته للإمام أحمد حتى قال الحافظ ابن رجب رحمه الله
((.. نقم جماعة من مشايخ أصحابنا وأئمتهم من المقادسة والعلثيين من ميله إلى التأويل في بعض كلامه ، واشتد نكيرهم عليه في ذلك . ولا ريب أنّ كلامه في ذلك مضطرب مختلف ، وهو وإن كان مطلعًا على الأحاديث والآثار في هذا الباب فلم يكن خبيرًا بحل شبه المتكلمين ، وبيان فسادها … وكان معظمًا لابن عقيل ، وكان ابن عقيل بارعًا في علم الكلام ، ولم يكن تام الخبرة بالحديث والآثار ، فلهذا يضطرب في هذا الباب … وأبو الفرج تابع له )) ذيل طبقات الحنابلة 3/414
ويكفي لبيان تناقض ابن الجوزي رحمه الله في هذا الباب وأن قوله غير معتمد في ابواب السنة كما قال الإمام الموفق المقدسي ابن قدامة : (( ..كان حافظاً للحديث وصنّف فيه إلاّ أننا لم نرضَ تصانيفه في السنة ، ولا طريقته فيها ..)) [ ذيل طبقات الحنابلة : 3 / 415 ] بيان مخالفته لإمامه أحمد رحمه الله وسنكتفي في هذا المقام بذكر شاهدين لعلهما بحول الله يغنيان كل باحث عن الحق ويزيد سيف الدين ابن المجد الأمر وضوحا فيقول: (( سمعت ابن نقطة يقول : قيل لابن خضر : ألا تجيب عن بعض أوهام ابن الجوزي ؟ ، فقال : إنما ينبع من قلّ غلطه ، فأما هذا ، فأوهامه كثيرة ... قال سيف الدين : ما رأيت أحداً يعتمد عليه في دينه وعلمه وعقله راضياً عنه !! )) [ سير الأعلام : 21/382 ] .
قلت :
يكفي لبيان تناقض ابن الجوزي رحمه الله في هذا الباب وأن قوله غير معتمد في ابواب السنة بيان مخالفته لإمامه أحمد رحمه الله وسنكتفي في هذا المقام بذكر شاهدين لعلهما بحول الله يغنيان كل باحث عن الحق :
الشاهد الأول :
تقرير الإمام أحمد أن ظاهر النصوص لايدل على مالايليق بالله عز وجل ويظهر ذلك من خلال مناقشته لشبهات الجهمية في كتابه (الرد على الزنادقة والجهمية) اذ يقول رحمه الله :(( .... ، وَتَأَوَّلَ الْقُرْآنَ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ، وَكَذَّبَ بِأَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَزَعَمَ أَنَّ مَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِشَيْءٍ مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ، أَوْ حَدَّثَ عَنْهُ رَسُولُهُ كَانَ كَافِرًا، وَكَانَ مِنَ الْمُشَبِّهَةِ، فَأَضَلَّ بِكَلَامِهِ بَشَرًا كَثِيرًا)) وقال أيضا في بيان مكرهم بالجهال وتمويههم
عليهم (( فَقُلْنَا لَهُمْ هَذَا الَّذِي يُدَبِّرُ هُوَ الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى قَالُوا لَمْ يَتَكَلَّمْ وَلَا يُكَلَّمُ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِجَارِحَةٍ، وَالْجَوَارِحُ مَنْفِيَّةٌ .
فَإِذَا سَمِعَ الْجَاهِلُ قَوْلَهُمْ يَظُنُّ أَنَّهُمْ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَعْظِيمًا لِلَّهِ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَعُودُ قَوْلُهُمْ إِلَى ضَلَالَةٍ وَكُفْرٍ، وَلَا يَشْعُرُ أَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ قَوْلَهُمْ إِلَّا فِرْيَةٌ فِي اللَّهِ ))
الشاهد الثاني :
هو ما جاء في طبقات الحنابلة من وصف الاما م احمد لمن قال بأن الظمير يعود على آدم في حديث الصورة بالتجهم حيث قال
(من قال: إن الله خلق آدم على صورة آدم فهو جهمي، وأيُّ صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه؟ )) طبقات الحنابلة (1/309)
و قال الطبراني في كتاب السنة: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال ((قال رجل لأبي: إن رجلاً قال: خلق الله آدم على صورته، أي صورة الرجل، فقال: كذب، هذا قول الجهمية، وأي فائدة في هذا )) ميزان الاعتدال (1/603)
وقال قال القاضي أبو الحسين في طبقات الحنابلة في ترجمة أبي جعفر محمد بن عوف بن سفيان الطائي الحمصي ((نقلت من خط أحمد الشنجي بإسناده قال: سمعت محمد بن عوف يقول: أملى عليَّ أحمد بن حنبل فذكر جملة من المسائل التي أملاها عليه مما يعتقده أهل السنة والجماعة، ومنها وأن آدم - صلى الله عليه وسلم - خلق على صورة الرحمن كما جاء الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) تأويل مخلف الحديث ص (318)
اظن بأن هذا القدر من كلام الامام احمد كفيل برد اي شبهة قد تعلق بذهن القارئ الكريم من إدعاء ابن الجوزي رحمه الله في (دفعه) وغيره في غيره ان ظاهر الصفات يقتضي التشبيه او ان إثبات صفة الصورة لله عز وجل هو امر انفرد به ابن قيبة رحمه الله بل الحق هو ما قاله الذهبي - رحمه الله - في السير في ترجمة محمد بن إسحاق بن خزيمة (( .. وكتابه في التوحيد مجلد كبير، وقد تأول في ذلك حديث الصورة، فليعذر من تأول بعض الصفات، وأما السلف فما خاضوا في التأويل بل آمنوا وكفوا، وفوضوا علم ذلك إلى الله ورسوله، ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق أهدرناه، وبدعناه، لقل من يسلم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنه وكرمه)) سير أعلام النبلاء (14/374)
فالحمد لله رب العالمين
ختاما :
اترك القارئ الكريم رسالة إسحاق العلثي الحنبلي إلى ابن الجوزي رحمهما الله بتمامها
رسالةُ إسحاقَ العَلْثيّ الحنبليّ إلى ابن الجوزيّ ، تليها فوائدُ متعلّقةٌ بباب الردِّ على المُخالفِ
في ترجمة الفقيه أبي الفضل إسحاق بن أحمد العلثيّ ( ت 634 ) ، قال الحافظُ ابن رجبٍ رحمه الله في " ذيل طبقات الحنابلة " (3/445 فما بعدها ، ترجمة رقم 343 بتحقيق عبد الرّحمن العثيمين ) (1) :
" إسحاق بن أحمد بم محمّد بن غانم العلثيّ ، الزّاهد القدوة ، أبو الفضل ، و يقال : أبو محمّدٍ ، ابنُ عمِّ طلحةَ بن المظفّر ، الّذي سبق ذكره ، سمع من أبي الفتح بن شاتيل ، و قرأ بنفسه على ابن كليبٍ ، و ابن الأخضر ، و كان قدوةً صالحاً زاهداً فقيهاً عالماً ، أمّاراً بالمعروف نهّاءً عن المنكر ، لا يخاف أحدا إلاّ الله ، و لا تأخذه في الله لومة لائمٍ ، أنكر على الخليفة النّاصر فمن دونه ، و واجه الخليفة النّاصر و صدعه بالحقّ .
قال ناصح الدّين بن الحنبلي – و قرأتُه بخطّه - : هو اليوم شيخُ العراق ، و القائمُ بالإنكار على الفقهاء و الفقراء و غيرهم فيما ترخّصوا فيه .
و قال المنذريّ : قيل إنّه لم يكن في زمانه أكثر إنكاراً للمنكر منه ، و حُبس على ذلك مدّة .
قلت : و له رسائلُ كثيرةٌ إلى الأعيان بالإنكار عليهم و النّصح لهم و رأيت بخطّه كتاباً أرسله إلى الخليفة ببغداد و أرسل أيضاً إلى الشيخ عليّ ابن إدريس الزّاهد – صاحب الشّيخ عبد القادر – رسالةً طويلةً تتضمّن إنكار الرّقص و السّماع و المبالغة في ذلك ، و له في معنى ذلك عدّة رسائلَ إلى غير واحدٍ ، و أرسل رسالةً طويلةً إلى الشّيخ أبي الفرج بن الجوزيّ بالإنكار عليه فيما يقع في كلامه من الميل إلى أهل التّأويل يقول فيها :
نصّ الرّسالة كما ساقها الحافظ ابن رجبٍ الحنبليّ رحمه الله
" من عبيد الله إسحاق بن أحمد بن محمّد بن غانم العلثيّ إلى عبد الرّحمن بن الجوزيّ :
حمانا الله و إيّاه من الاستكبار عن قبول النّصائح ، و وفّقنا و إيّاه لاتّباع السّلف الصّالح ، و بصّرنا بالسّنّة السّنيّة ، و لا حرمنا الاهتداء باللّفظات النّبوية ، و أعاذنا من الابتداع في الشّريعة المحمديّة ، فلا حاجة إلى ذلك ، فقد تُرِكنا على بيضاء نقيّة ، و أكمل الله لنا الدّين ، و أغنانا عن آراء المتنطّعين ، ففي كتاب الله و سنّة رسوله مَقْنَعٌ لكلّ من رَغِب أو رَهِب ، و رزقنا الله الاعتقاد السّليم ، و لا حَرَمنا التّوفيق ، فإذا حُرِمه العبد لم ينفع التّعليم ، و عَرَّفَنا أقدار نفوسنا ، و هدانا الصّراط المستقيم . و لا حول و لا قوّة إلا بالله العليّ العظيم ، و فوق كلّ ذي علمٍ عليم .
و بعد حمدالله سبحانه ، و الصّلاة على رسوله :
فلا يخفى أنّ " الدّين النّصيحة " ، خصوصاً للمولى الكريم ، و الرّبّ الرّحيم ، فكم قد زلّ قلمٌ ، و عثر قدمٌ ، و زلق متكلّمٌ ، و لا يحيطون به علماً ، قال عزّ من قائل : ﴿ و مِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لاَ هُدًى وَ لاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ﴾ ( الحجّ : 8 ) .
و أنتَ يا عبد الرّحمن ، فما يزال يبلغُ عنك و يُسمع ُمنك ، و يُشاهد في كُتبك المسموعة عليك ، تذكر كثيراً ممّن كان قبلك من العلماء بالخطأ ، اعتقاداً منك أنّك تصدع بالحقّ من غير محاباةٍ ، و لا بدّ من الجريان في ميدان النّصح ، إمّا لتنتفع إن هداك الله ، و إمّا لتركيب حجّة الله عليك ، و يحذرَ النّاس قولك الفاسد ، و لا يغرّك كثرة اطّلاعك على العلوم ؛ فربّ مبلَّغٍ أوعى من سامعٍ ، و ربّ حامل فقهٍ لا فقهَ له ، و ربّ بحرٍ كَدرٍ و نهرٍ صافٍ ، فلستَ بأعلمَ من الرّسول ، حيث قال له الإمام عمر : " أتصلّي على ابن أبيّ ؟ " أَنْزَلَ القرآن (2) : ﴿ وَ لاَ تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ منْهُم ﴾ ( التّوبة : 84 ) ، و لو كان لا يُنكر من قلّ علمُه على من كَثُر علمه إذاً لتعطّل الأمر بالمعروف ، و صرنا كبني إسرائيل حيث قال تعالى : ﴿ كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ ﴾ ( المائدة : 79 ) ، بل ينكر المفضول على الفاضل و ينكرُ الفاجر على الوليّ ، على تقدير معرفة الوليّ ، و إلاّ :فأين العنقاءُ ليُطلب ؟ و أين السّمندلُ ليُجلب ؟ (3)
إلى أن قال :
و اعلم أنّه قد كثر النّكير عليك من العلماء و الفضلاء ، و الأخيار في الآفاق ، بمقالتك الفاسدة في الصّفات ، و قد أبانوا وَهَاءَ مقالتك ، و حَكَوْا عنك أنّك أبَيْتَ النّصيحة ، فعندك من الأقوال الّتي لا تليق بالسّنّة ما يضيق الوقت عن ذكرها ، فذُكر عنْكَ : أنّك ذكرتَ في الملائكة المقرّبين الكرام الكاتبين ، فصلاً زعمتَ أنّه مواعظُ ، و هو تشقيقٌ و تَفَيْهُقٌ (4) ، و تكلّفٌ بشعٌ ، خلا أحاديث رسول الله صلى الله عليه و سلّم ، و كلام السّلف الصّالح الّذي لا يخالف سنّةً ، فعمدتَ و جعلتها مناظرةً معهم ، فمن أذِنَ لك في ذلك ؟ و هم مستغفرون للّذين آمنوا ، و لا يستكبرون عن عبادة الله ، و قد قرن شهادته بشهادتهم قبل أولي العلم ، و ما علينا كان الآدمي أفضل منهم أم لا ، فتلكَ مسألةٌ أخرى ، فشرعتَ تقول : " إذا ثارت نار الحسد فمن يطفيها ؟ " و في الغيبة ما فيها ، مع كلامٍ غثٍّ ، " أليس منّا فلانٌ ؟ و منّا الأنبياء و الأولياء ؟ " مَنْ فعل هذا مِنَ السّلف قبلك ؟ و لو قال لك قائلٌ من الملائكة : أليسَ منكم فرعونُ و هامان ! أليس منكم من ادّعى الرّبوبية ! فعمّن أخذتَ هذه الأقوال المحدثة ، و العبارات المزوّقة ، الّتي لا طائل تحتها ؟ و قد شغلتَ بها النّاس عن الاشتغال بالعلم النّافع ، أحدُهم قد أُنسي القرآن و هو يُعيدُ فضل الملائكة و مناظرتهم ، و يتكلّم به في الآَفاق ، فأين الوعظ و التّذكير من هذه الأقوال الشّنيعة البشعة ؟
ثمّ تعرّضتَ لصفات الخالق تعالى ،كأنّها صدرت لا من صدرٍ سكن فيه احتشامُ العليّ العظيم ، و لا أملاها قلبٌ مليءٌ بالهيبة و التّعظيم ، بل مِن واقعات النّفوس البَهْرَجِيَّة الزّيوفِ ، و زعمتَ أنّ طائفةً من أهل السّنة و الأخيار تلقَّوْها و ما فهموا ! و حاشاهم من ذلك ، بل كفُّوا عن الثّرثرة و التّشدّق ، لا عجزاً - بحمد الله - عن الجدال و الخصام ، و لا جهلاً بطرق الكلام ، و إنّما أمسكوا عن الخوض في ذلك عن علمٍ و درايةٍ ، لا عن جهل و عماية .
و العجبُ ممّن ينتحل مذهب السّلف ، و لا يرى الخوضَ في الكلام ، ثمّ يُقْدِمُ على تفسير ما لم يره أوّلاً ، و يقول : " إذا قلنا كذا أدّى إلى كذا " ، و يقيس ما ثبت من صفات الخالق على ما لم يثبت عنده ، فهذا الّذي نهيتَ عنه ، وكيف تنقضُ عهدك و قولَك بقول فلانٍ و فلانٍ من المتأخّرين ؟ فلا تشمت بنا المبتدعة فيقولون : " تنسبوننا إلى البدع و أنتم أكثر بدعاً منّا ، أفلا تنظرون إلى قول من اعتقدتم سلامة عَقْدِه ، و تثبتون معرفته وفضله ؟! " . كيف أقول ما لم يُقل ؟ فكيف يجوز أن تتّبعَ المتكلّمين في آرائهم ، و تخوضَ مع الخائضين فيما خاضوا فيه ، ثمّ تنكرُ عليهم ؟ هذا من العجب العجيب . و لو أنّ مخلوقاً وصف مخلوقاً مثلَه بصفاتٍ من غير رؤيةٍ و لا خبرٍ صادقٍ ، لكان كاذباً في إخباره ، فكيف تصفون الله سبحانه بشيءٍ ما وَقَفْتُم على صحّته ، بل بالظّنون و الواقعات ، و تنفونَ الصّفات الّتي رضيها لنفسه ، و أخبر بها رسوله بنقل الثّقات الأثبات ، بيُحتمل ، و يُحتمل ؟!
ثمّ لك في الكتاب الّذي أسميته " الكشف لمشكل الصّحيحين " مقالاتٌ عجيبةٌ ، تارةً تحكيها عن الخطّابيّ و غيره من المتأخّرين ، أََطّلعَ هؤلاء على الغيب ؟ و أنتم تقولون : " لا يجوز التّقليد في هذا " ، ثمّ : " ذكره فلانٌ ، ذكره ابنُ عقيلٍ " ! ، فنريد الدّليل من الذّاكر أيضاً ، فهو مجرّد دعوى ، و ليس الكلام في الله وصفاته بالهّين ليُلقى إلى مجاري الظّنون ...
إلى أن قال :
إذا أردتَ : " كان ابن عقيلٍ العالمُ " ، و إذا أردتَ : " صار لا يَفْهَمُ " ! أَوْهَيْتَ مقالته لما أردتَ .
ثمّ قال :
و ذكرتَ الكلام المُحدث على الحديث ، ثمّ قلتَ : " و الّذي يقع لي " ! فبهذا تقدم على الله ؟ و تقول : " قال علماؤنا ، والّذي يقع لي " ! تتكلّمون في الله عزّ و جلّ بواقعاتكم تخبرون عن صفاته ؟! ثمّ ما كفاك حتّى قلتَ : " هذا من تحريف بعض الرّواة " تحكّماً من غير دليلٍ ، و ما (5) رويتَ عن ثقةٍ آخر أنّه قال : " قد غيَّرَه الرّاوي " ! فلا ينبغي بالرّواة العُدولِ أنّهم حرَّفوا ، و لو جوَّزتم لهم الرّواية بالمعنى ، فهمْ أقرب إلى الإصابة منكم .
و أهل البدع إذاً ، كلّما رويتم حديثاً ينفرون منه ، يقولون : " يحتمل أنّه من تغيير بعض الرّواة " ، فإذا كان المذكورُ في الصّحيح المنقولُ من تحريف بعض الرّواة ؛ فقولكم و رأيكم في هذا ؛ يحتملُ أنّه من رأي بعض الغُواة !!
و تقول : " قد انزعج الخطّابيّ لهذه الألفاظ " فما الّذي أزعَجَه دون غيره ؟! و نراك تبني شيئاً ثمّ تنقضُه ، و تقول : " قد قال فلانٌ و فلانٌ " ، و تنسب ذلك إلى إمامنا أحمد - رضي الله عنه - و مذهبه معروفٌ في السّكوت عن مثل هذا ، و لا يفسّره ، بل صحّح الحديث و منع من تأويله .
و كثيرٌ ممن أخذ عنكَ العلم إذا رجع إلى بيته عَلِمَ بما في عَيبته من العيب ، و ذمّ مقالتك و أبطلها ، و قد سمعنا عنك ذلك [ من أعيان أصحابك المحبوبين عندك ، الّذين مدحتهم بالعلم ، و لا غَرَضَ لهم فيك ، بل أدّوا النّصيحة إلى عباد الله ، و لك القول و ضدّه منصوران ، وكلّ ذلك ] (*) بناءً على الواقعات و الخواطر !!
و تدّعي أنّ الأصحاب خلّطوا في الصّفات ، فقد قبّحتَ أكثر منهم ، و ما وسِعَتْكَ السّنّة . فاتقّ الله سبحانه ، و لا تتكلّم فيه برأيك فهذا خبرٌ غيبٌ ، لا يُسمع إلاّ من الرّسول المعصوم ، فقد نصبتم حرباً للأحاديث الصّحيحة ، و الّذين نقلوها نقلوا شرائع الإسلام .
ثمّ لك قصيدةٌ مسموعةٌ عليك في سائر الآفاق ، اعتقَدَها قومٌ و ماتوا ، بخلاف اعتقادِك الآن فيما يبلغُ عنك ، و سُمع منك منها :
و لو رأيتَ النّار هبت فغدت ... تحرق أهـل البغـي و العنـاد
و كلّما ألقـي فيهـا حطمـت ... و أهلكته و هـي فـي ازديـاد
فيضـع الجبّـار فيهـا قدمـاً ... جلّت عن التّشبيه بالأجسـاد
حسبي حسبي قد كفاني ما أرى ... من هيبـةٍ أذهبـت اشتـداد
فاحذر مقال مبتدعٍ فـي قولـه ... يـروم تأويـلاً بكـلّ وادي
فكيف هذه الأقوال : و ما معناها ؟ فإنّا نخاف أن تُحدث لنا قولاً ثالثاً ، فيذهب الاعتقاد الأوّل باطلاً . لقد آذيتَ عباد الله و أضلَلْتهم ، و صار شغلك نقل الأقوال فحسب ، و ابنُ عقيلٍ سامحه الله ، قد حُكي عنه: أنّه تاب بمحضرٍ من علماء وقته من مثل هذه الأقوال ، بمدينة السّلام - عمرها الله بالإسلام و السنّة - فهو بريءٌ - على هذا التّقدير- ممّا يوجد بخطّه ، أو يُنسب إليه منَ التّأويلات و الأقوال المخالفة للكتاب و السّنة .
و أنا وافدة النّاس و العلماء و الحفّاظ إليك ، فإمّا أن تنتهي عن هذه المقالات ، و تتوب التّوبة النّصوح ، كما تاب غيرُك ، و إلاّ كشفوا للنّاس أمرك ، و سيّروا ذلك في البلاد و بيّنوا وجه الأقوال الغثّة ، و هذا أمرٌ تُشُوِّر فيه ، و قُضي بليلٍ ، و الأرض لا تخلو من قائمٍ للّه بحجّة ، و الجرح لا شكّ مقدّمٌ على التّعديل ، و الله على ما نقول وكيل ، و قد أعذر من أنذر .
و إذا تأوّلتَ الصّفات على اللّغة ، و سوّغتَه لنفسك ، و أبيتَ النّصيحة ، فليس هو مذهب الإمام الكبير أحمد بن حنبل قدّس الله روحه ، فلا يُمكنك الانتسابُ إليه بهذا ، فاختر لنفسك مذهباً ، إن مُكِّنت من ذلك ، و ما زال أصحابنا يجهرون بصريح الحقّ في كلّ وقتٍ و لو ضُربوا بالسّيوف ، لا يخافون في الله لومة لائمٍ ، و لا يُبالون بشناعة مشنّعٍ ، و لا كذبِ كاذبٍ ، و لهم من الاسم العذب الهنيّ ، و تركِهم الدّنيا و إعراضِهم عنها اشتغالاً بالآخرة ما هو معلومٌ معروفٌ .
و لقد سوّدتَ وجوهنا بمقالتك الفاسدة ، و انفرادَك بنفسكَ ، كأنّك جبّارٌ من الجبابرة ، و لا كرامة لكَ و لا نُعمى ، و لا نمكِّنك من الجهر بمخالفة السّنة ، و لو استُقبل من الرّأي ما استُدبر، لم يُحكَ عنك كلامٌ في السّهل ، و لا في الجبل ، ولكن قدر الله و ما شاء فعل ، بيننا و بينك كتاب الله و سنّة رسوله ، قال الله تعالى : ﴿ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ﴾ ( النّساء : 59 ) ، و لم يقل : إلى ابن الجوزيّ .
و ترى كلّ من أنكر عليك نَسبتَه إلى الجهل ، ففضل الله أُوتيتَه وحدك ؟! إذا جَهَّلت النّاس فمن يشهدُ لك أنّك عالمٌ ؟ و من أجهلُ منك ، حيث لا تصغي إلى نصيحة ناصحٍ ؟ و تقول : " من كان فلانٌ ؟ و من كان فلانٌ ؟ " !! مِن الأئمّة الّذين وصل العلم إليكَ عنهم ، من أنتَ إذاً ؟ فلقد استراح من خاف مقام ربّه ، و أحجم عن الخوض فيما لا يعلم ، لئلاّ يندم .
فانتبه يا مسكين قبل الممات ، و حَسِّن القول و العمل ، فقد قرب الأجل ، للّه الأمر من قبل و من بعد ، و لا حول و لا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم " انتهت الرّسالة .
قال الحافظ ابن رجبٍ :
و للشّيخ إسحاقَ أجزاءٌ مجموعةٌ و أربعينيّاتٌ حديثيّةٌ ، و غير ذلك ، و حدثّ و سمع منه جماعة ، و ذكر ابن الدّواليبيّ أنّه سمع منه .
و توفيّ في شهر ربيعٍ الأوّل سنة أربعٍ و ثلاثين و ستّمائةٍ ، أظنّ ب : " العَلْثِ " (6) .
انتهى النّقل عن الحافظ ابن رجبٍ
________________
(1) : من باب عزو الفضل إلى أهله ، فقد استفدتُ الإحالة إلى هذه التّرجمة من مقدّمة كتاب " كيد الشّيطان " لابن الجوزي بتحقيق أبي عبد الله العفيفيّ بمراجعة و تقديم أحمد أبي العينين و أبي بكر الجزائري ، و طبعتها مكتبة ابن عبّاس ، و قد ذكر المحقّق نصّ الرّسالة حين تعرّض لاعتقاد ابن الجوزيّ رحمه الله .
(2) : لعلّ الصّواب : فنزل القرآن ... و قول عمر رضي الله عنه مع سبب نزول الآية مخرّج في الصّحيحين ، و انظر تفسير ابن كثير [ أبو حاتم ] .
(3) : قال محقّق الذّيل : " قال الزّبيديّ : " السّمندل : كسفرجل ، أهمله الجوهريّ ، و قال أبو سعيد : طائر بالهند لا يحترق بالنّار ، و يقال فيه أيضا : السّبندل بالباء ، عن كراع ... " تاج العروس ( سمندل ) . و يُراجع : لسان العرب ، والحيوان ( 6/434 ) " .
(4) : تّشقيق الكلام : تحسين الكلام وتجميله ( القاموس المحيط ، مادّة : شقق ) ، و التّفَيْهُقُ في الكلام : التوسّع و التنطّع ، [اللّسان ( فهق ) ] و في الحديث النبوي : " إنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَ أقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِساً يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاَقاً، و إِنَّ مِنْ أَبْغَضِكُمْ إِلَيَّ وَ أَبْعَدِكُمْ مِنِّي يَوْمَ القِيَامَةَ الثَّرثَارُونَ وَ المُتَشَدِّقُونَ وَ المُتَفَيْهِقُونَ ، قاُلوا: يا رسولَ الله قَدْ عَلِمْنَا الثَّرثَارِينَ وَ المُتَشَدِّقِينَ فَما المُتَفَيْهِقُونَ ؟ قال المُتَكَبِّرُونَ " رواه التّرمذي و صحّحه الألباني [ أبو حاتم ] .
(5) : ما هنا نافيةٌ ، حتّى يُفهم الكلام على وجهه [ أبو حاتم ] .
(*) : ليست في المطبوع من الذّيل ، و مثبتة في رسالة " كيد الشيطان " [ أبو حاتم ] .
(6) : العلث : بفتح أوّله و سكون ثانيه ، قرية على دجلة بين عُكبرَا و سامَرّاء ( معجم البلدان ، لياقوت ) [ أبو حاتم ] .
.................................................. ..
رسالة العثلي عن مشاركة للأخ رضوان ولمن اراد تحميل الرسالة من المرفقات
..............................
اعتمادا على /الرد على الجهمية للامام احمد/الصفات الالهية للجامي/حديث الصورة رواية ودراية / ابن الجوزي بين التأويل و التفويض للزهراني/مقال الدفاع عن الحنابلة للشيخ بدر بن علي بن طامي العتيبي