مأساة الأبوة الإلحادية
18-10-2014, 03:27 PM
مأساة الأبوة الإلحادية
جلس:" أبو الإلحاد الرقمي" إلى مائدة العشاء, حمل الشوكة بيده الشمال، وأحس بشعور غريب, فأن تكون ملحدا، ثم تلتهم: "السباجيتي" بالصلصة الحمراء: أمر يثير إشكالات ميتافيزيقية عميقة؟؟؟؟؟؟.
لا شك أن:" هندوسيا مخلصا"، سيفضل الموت جوعا على أن يشهر سكينا وشوكة في وجه:" بقرة مقدسة؟؟؟", لكنه ملحد, فليأكل إلهه إذن.
لقد سئم السكون الذي يملأ البيت, تمنى الذرية, كان قبل سنوات يكبت عواطفه الأبوية ريثما تستقر أحواله, كان الأمر ترتيبا مقصودا للأولويات, أما الآن فالأمر مختلف, إنه يرى أن الطبيعة قد خذلته، ولم تسعفه بعد بالولد, لكنه يستغرب من عجلته, وكيف عساه يجيب عن أسئلة طفل؟؟؟، إن رأسه تكاد تنفجر تحت ركام من الأسئلة المعلقة, لكن هذا الصمت الخانق بيئة خصبة للتفكر, والتفكر يسبب له الصداع والاكتئاب, ما الحل إذن؟؟؟.
فجأة نادى بأعلى صوته:" نوال, نوال, يا سعد أيامي, يا أميرة التنوير, ما رأيك أن نتخذ حيوانا أليفا يملأ علينا البيت؟؟؟"، فأجابته:" أم الإلحاد" بسرعة:" لحود, عليك أن تختار بيني وبين الكلب, هل نسيت اتفاقنا؟؟؟"، فأجابها:" أبدا، من ذكر الكلب؟؟؟، أي شيء إلا الكلب,( قطة, سلحفاة, تمساح حتى...)، قاطعته في حدة:" لا أريد مخلوقا بشعا يمشي في الشقة على أربع, هل فهمت؟؟؟"، فقال لها: " وماذا لو ظفرنا بمخلوق ظريف يمشي على رجلين؟؟؟".
تجاهلت كلامه، فجلس يفكر في الأمر، امتعض من العنصرية التي يعامل بها الإنسان:" أشقاءه المتخلفين داروينيا؟؟؟", فأنت تجد الكلاب محرومة من ولوج المطاعم والمتاجر والإدارات, لا لشيء إلا لأنها تعثرت قليلا في مسيرة التطور, يا له من مغرور هذا الإنسان!؟؟، ماذا لو تداركت الكلاب النقص، وتسلقت درجات سلم التطور طفرة واحدة, فصارت أرقى منه؟؟؟.
حينها: ستذيقه من ذات الكأس التي تتجرعها الآن.
يجب عليه أن يغير نظرته إلى بقية الفصائل الحية بكل أصنافها, فإن البشر والحيوانات يشكلون في النهاية أسرة واحدة, لقد كشف العلامة:" أبو الطفرات": مجدد علوم الأحياء عن شجرة نسبها وعن سلفها المشترك، لكن التغيير لن يحصل بالكلام المعسول, لا بد من أفعال تتبع الأقوال, فماذا عساه يفعل حتى يستأصل من نفسه هذه الرواسب الرجعية التي تفصله عن العجماوات؟؟؟.
تخيل:" كيف يضع الناس الطيور في أقفاص؟, وكيف يستعبدون الحمير في البيادر؟, وكيف يستخدمون الكلاب في الحراسة والصيد؟", تتجرع الحيوانات كل ذلك الذل لقاء حفنات من الطعام الرديء، وجرعات من الماء الملوث, ثم يتكلم البشر في مجتمعاتهم عن حقوق العمال وعن النقابات وعن الحريات وعن المساواة؟؟؟. يا له من منافق هذا الحيوان المنتصب على قدمين, هل سيتمادى في عنهجيته حتى تتحقق الثورة الحيوانية التي تنبأ بها:" جورج أورويل؟؟؟"، هل سينتظر حتى يصرخ به الزملاء:" الدواب والهوام تريد: تغيير النظام؟؟؟".
لكن:" أبا الإلحاد الرقمي": سيبدأ رحلة الألف ميل بنفسه, وسيشرع في إذابة الجليد بين المجتمع البشري والمجتمع الحيواني بطريقة مبتكرة, سيحيا في رفقة حيوان يعترف له بحيوانيته كاملة, سيأتي بحيوان يحيا بجنبه على قدم المساواة: يطعمه مما يطعم, ويكسوه مما يلبس, ويعلمه مما يعلم, المشكلة الوحيدة أن:" أم الإلحاد": لا تريد كلابا ولا قططا ولا فئرانا, فماذا يفعل؟؟؟، إنها لا تريد ذوات الأربع, فماذا يصنع؟؟؟.
عندها: أشرقت أمام عينيه صورة جعلته يلبس ثيابه بسرعة وهو يقول:" نوال, سأعود بعد قليل, نصف ساعة على الأكثر"، نظرت إليه مندهشة، وقالت:" سأخرج بعد قليل, هل تحتاج شيئا من السوق؟". توقف برهة وقال:" لعب أطفال" ثم ركض خارجا...
حين عاد كان يحملك" قريدا" في عمر الزهور في يد, وبعض المقتنيات في اليد الأخرى, وضعه فوق الأريكة في رفق شديد, لقد نام في الطريق, تأمله طويلا في حنان, ثم أخرج من كيسه حليب أطفال ورضاعة، واتجه إلى المطبخ, عاد يحمل أول وجبة للوافد الجديد, ثم أخذ بقية محتويات الكيس إلى الحمام, عاد وشرع ينظر إلى الصغير الوديع, كان يرقد في سلام, خاطبه في سره قائلا:" فلتهنأ بالنوم الآن, فأمامك عمر طويل وأعمال جليلة".
حينها: تقلب:" القريد"، وفتح عينيه، والتقت عيناهما, كان الصغير يحملق في صاحبه في فضول, وكان صاحبنا يكاد يغوص في تينك العينين العسليتين اللتين لم ير لجمالهما وصفائهما مثيلا عند بني جنسه, نظر إلى الأهداب الفاتنة التي تغار من طولها الحسناء, أخذه إلى الحمام, فغسله بصابون معطر, وجففه ثم مشط فروه، فصار كأبهى ما أنت راء من الصبيان, حقا: إن القرود زينة الحياة الإلحادية, أخذ ثيابا اشتراها للقريد، فألسبه إياها, ثم نظر إليه, وقال:" هائتنذا يا قريدي العزيز: تخطو أولى خطواتك في مسيرة التطور, خطوة صغيرة لك يا صغيري, خطوة جبارة للجنس القردي المظلوم".
وقف يتخير الأسماء, وتساءل:" هل أسميك:" دونكي" باسم قدوتي قسيس الإلحاد, أم أسميك:" تروتسكي"، لعلك تقتبس منه حسه الثوري, أم أسميك:" دارون": تيمنا بقابليتك للتطور السريع؟؟؟. نعم: هذه فكرة جيدة, لكنك صغير جدا, فليكن اسمك منذ اليوم:" دُرَيوين" هكذا, التصغير أحسن وأجمل, حمله بين يديه، ورسم قبلة على جبينه، وهو يقول:" مرحبا بك في بيتك الجديد, عزيزي "دُريوين", عندها أحس بزغب على شفتيه, أزاله بكفه, وهو يقول:" أمر جميل، لقد بدأ هذا الشعر الكثيف يتساقط منذ الآن, سرعان ما سيظهر جلدك الجميل، يا ذا العينين العسليتين"، ثم حمله إلى غرفة الجلوس.
رأى دمعا يترقرق في عيني:" دُرَيوِين", وسمع له بكاء، فعلم أن به الجوع, فحرك الرضاعة، وسكب على كفه قطرة يتحقق من حرارتها, ثم أخذ مكانه على الأريكة، واحتضن القريد، وشرع يرضعه في:" حنان أبوي دارويني": منقطع النظير, نظر إلى الشفاه الجميلة تمتص الحليب في نهم, شعر بالسعادة تغمره, وأحس بنفسه يغوص في بحر من الأحلام, رأى نفسه يأخذ:" القريد" إلى مصلحة تسجيل المواليد لإتمام إجراءات التبني, لم يكن الأمر سهلا, لكن ما فاز إلا الجسور, إنه محظوظ لأن:" حزب التنوير": نجح في اكتساح الانتخابات البلدية, أما الخصوم فإنه يحرمون التبني جملة, خرج يحمل الوثيقة التاريخية:" شهادة تبني مختلط رقم 1":
الفصيلة: القرديات.
السن: ستة أشهر.
لون الفرو: أسمر فاتح.
لون العينين: عسليتان.
الاسم: دُرَيوين.
الأب المتبني: أبو الإلحاد الرقمي.
الأم: توفيت في انهيار أرضي.
السبب: الاحتباس الحراري.
الموطن الأصلي: جزيرة بورنيو.
آخر عنوان: دار أيتام رياض السعدان.
تخيل صاحبنا المتنور كيف انحنى شهرا كاملا أمام عاصفة التهكم والتندر الهوجاء التي أعقبت خطوته التقدمية, لكنه كان مستعدا بما يكفي, ف:" من عرف ما يطلب: هان عليه ما يبذل", كانوا يتهكمون ويتغامزون, وهو لا يزيد على أن يقول:" انتظروا قليلا, فالضحك جولات, لنر لم تكون الجولة الحاسمة؟؟؟".
لقد قلب الأمر من كل وجوهه:" الداروينية": نظرية علمية شامخة يتطاول عليها الجهلة, وهو يدرك السبب تمام الإدراك, إنها لم تبرح عالم البحوث الأكاديمية، ولم تغادر مجال التنظيرات المجردة, وهو يريد أن ينزل بالفكرة إلى الميدان, ميدان التطبيق العملي الواقعي.
لقد رأى في التلفاز قردا يعزف الكمان, وآخر يلبس سترة بيضاء ويحمل سماعة، خمن أنه طبيب أو ممرض على أقل تقدير, ورأى برنامجا قديما عن أول قرد يغزو الفضاء, بل إنه رأى شريطا سينمائيا عن كوكب كامل يديره القرود, تذكر أن كل شيء كان يمشي على ما يرام: لولا تطفل بعض السياح من بني جنسه, فها قد ثبت عنده بالدليل المادي: أن للقرود سابقة فضل في كل ميدان, فمنهم المغمور والمشهور, والوسيم والذميم, والأكاديمي والفنان, إنهم مثلنا تماما.
ومن آخر ما زكى إيمانه بفكرته التقدمية:" القضية": التي رفعها بعض أنصار الحيوان في النمسا للاعتراف بالزميل الشيمبانزي:" ماتياس بان": كإنسان, للأسف: لم يكن القضاء في مستوى المسئولية التاريخية, لكن:" أبا الإلحاد الرقمي":أهل لها وأحق بها.
تخيل كيف يلاعب وليده, و كيف نظر إليه يحبو، ثم يخطو خطواته الأولى, ثم قضى معه الساعات الطوال يدربه على النطق, وبعد مجهود خارق ومثابرة حثيثة: سمع منه الكلمة السحرية, لقد قال له القريد:" بابا"، دمعت عيناه، وتراقص قلبه في صدره, ثم أدخله الحضانة, فكان يلعب مع صبيان المتنورين, فهم أكثر تسامحا من غيرهم, صار:" دُريوين": يدهش الجميع بقوته ورشاقته, لقد تطور بشكل عجيب, لم يبق فيه من شيء يذكر بأصله إلا ذيله, ولما كبر صار يقرأ عليه فصولا من:" أصل الأنواع" حتى يزيل عنه العقد النفسية, ويقرأ عليه:" صانع الساعات الأعمى": حتى ينمي خياله، ويمحو من عقله شيئا اسمه المستحيل.
وحين كبر: ألحقه بإحدى مدارس البعثة الفرنسية, ثم حصل على منحة من الجامعة الأمريكية.
تخيل:" أبو الإلحاد الرقمي": كيف صار ابنه الموهوب: بطلا أولمبيا في القفز الطولي والعلوي, كما أنه أحرز بطولة العالم للشطرنج ثلاث مرات متتالية, لكن المفخرة العظمى هي: حصوله على جائزة:" نوفل" لأحسن ابتكار علمي, لقد حقق ذلك كله قبل سن الثلاثين.
ثم جاء سن الزواج, تخيل:" أبو الإلحاد الرقمي": كيف يخطب:" دُريوين" بنت الدكتور:" أبو قشة" الملقب ب:" داروين الثاني": مؤلف كتاب:" كشف الأسرار ونسف الأسوار": الذي يشرح فيه نظرية التطور بالتفصيل الممل, حينها تكاد رواسب الرجعية تجهض حلم الدكتور الشاب الطموح, لكن الزواج يتم بعد أخذ ورد, ومد وجزر، وأمور يطول شرحها, وقبيل اليوم المشهود يقرر:" أبو الإلحاد الرقمي": أن يرافق ابنه لقضاء إجازة الصيف على جزيرة:" جالاباجوس", وهناك يسبح:" دُرَيوين" ذات يوم, ثم يهيج البحر فجأة، ويختفي عن الأنظار, فيهب أبوه لينقذه, و يغوص تحت الماء يبحث عنه, لكن رائحة الماء غريبة, لا بد أن لذلك علاقة بالتطور خصوصا أنه على جزيرة التطور, ثم إن الماء دافئ بشكل مريب، كأنه يسبح في فنجان شاي, حينها عاد:" أبو الإلحاد الرقمي" إلى رشده, وأفاق من أحلامه, و نظر إلى ثيابه مبللة, فالتفت إلى صغيره قائلا:" فعلتها يا عفريت!؟؟"، وحمله قاصدا الحمام , وفي هذه اللحظةك فتحت:" أم الإلحاد": الباب, فحملقت في وجهه فاغرة فاها كأنها رأت مخلوقا فضائيا، وحاولت أن تقول شيئا, لكنها لم تزد على غمغمة غير مفهومة، وهي تشير إلى:" القريد"، كأنها تقول:" أي شيء هذا؟؟؟"، فأجابها:" عزيزتي: أمهليني لأشرح لك كل شيء, هذا قرة العين, هذا رأسمال المستقبل, مستقبلنا ومستقبل الإنسانية, هذا:" دُرَيوين"، أليس ظريفا؟؟؟".
قال هذه الكلمات، ودنا منها ليريها الصغير، لعل قلبها يحنو عليه, فنكصت وهي تصرخ وتقول:" أبعد عني هذا المسخ"، فأجابها:" أعذرك عزيزتي, الأمر يحتاج إلى بعض الوقت, ستتطور مشاعرك بقدر تطور:" دُرَيوين"، صرخت في وجهه:" إن لم تخرج هذا الوحش من بيتي، فإني سأخرجن ولن تراني بعدها أبدا".
نظر:" أبو الإلحاد الرقمي" إلى زوجه، ثم نظر إلى ابنه, ومكث لحظات يقلب نظره بينهما، وقلبه يتفطر كمدا, يا له من خيار صعب, وحين رأى زوجته تتجه صوب الباب, قال:
" عزيزتي, حسنا: أمهليني دقائق"، جمع أغراض الصغير في كيس، ونظر إليه نظرة أخيرة كهيئة المودع, وشعر بأنه يوشك أن يستيقظ من حلم جميل, ثم حمله وخرج، وهو يكاد يجهش بالبكاء.