سلوة المغلوبين من أهل الحق
10-09-2014, 09:15 PM
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
يقول ابن القيّم -رحمه الله- في إغاثة اللهفان :
أما الدنيا فإنَّا نرى الكفَّار والمنافقين يغْلِبُون فيها ، ويظهَرون ، ويكون لهم النصر والظفر . والقرآن لا يرِدُ بخلاف الحِسِّ ، ويعتمد على هذا الظن : إذا أُديل عليه عدوٌّ من جنس الكفار والمنافقين ، أو الفجرة الظالمين ، وهو عند نفسه من أهل الإيمان والتقوى ، فيرى أن صاحب الباطل قد علا على صاحب الحق ، فيقول : أنا على الحقِّ وأنا مغلوبٌ ، فصاحب الحقِّ في هذه الدنيا مغلوبٌ مقهور ، والدولة فيها للباطل .
فإذا ذُكِّر بما وعد الله تعالى من حُسنِ العاقبة للمتقين والمؤمنين ، قال : هذا في الآخرة فقط .
وإذا قيل له : كيف يفعلُ الله تعالى هذا بأوليائه وأحبَّائِه ، وأهلِ الحقِّ ؟
فإن كان ممن لا يُعلِّلُ أفعال الله تعالى بالِحِكم والمصالح ، قال : يفعلُ الله في مُلكِه ما يشاء ، ويحكم ما يريد {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الانبياء:23] .
وإن كان ممن يُعلِّل الأفعال ، قال : فعل بهم هذا ليُعرَّضهم بالصبر عليه لثواب الآخرة وعُلوِّ الدرجات ، وتوْفيةِ الأجر بغير حساب .
ولكلِّ أحدٍ مع نفسه في هذا المقام مُباحثاتٌ وإيراداتٌ وإشكالات وأجوبة ، بحسب حاصله وبضاعتِه ، من المعرفة بالله تعالى وأسمائه وصفاتِه وحِكْمته ، والجهل بذلك ، فالقلوبُ تغْلِي بما فيها ، كالقدْر إذا استجْمعتْ غلياناً .
فلقد بلغنا وشاهدنا من كثير من هؤلاء من التظلُّم للِرَّبِّ تعالى ، واتِّهامه ، ما لا يصْدُرُ إلا من عدو ، فكان الجهْمُ يخرجُ بأصحابِه ، فيُوقِفُهم على الجذْمى وأهل البلاء ، ويقول : انظروا ، أرْحمُ الراحمين يفعلُ مثل هذا ؟ إنكاراً لرحمته ، كما أنكر حِكمته .
فليس الله عند جهمٍ وأتباعه حكيماً ولا رحيماً .
وقال آخر من كبار القوم : ما على الخلق أضرُّ من الخالق
وكان بعضهم يتمثل :
إذا كان هذا فِعله بمحبِّة فماذا تراهُ في أعادِيه يصْنعُ ؟
وأنت تشاهد كثيراً من الناس إذا أصابه نوعٌ من البلاء يقول : يا ربِّ : ما كان ذنبي حتى فعلت بي هذا ؟
وقال لي غير واحد : إذا تبتُ إليه وأنبْتُ وعملتُ صالحاً ضيَّق عليَّ رزقي ، ونكد عليَّ معيشتي ، وإذا رجعْتُ إلى معصيته ، وأعْطيْتُ نفسي مُرادها جاءني الرِّزْقُ والعوْنُ ، ونحو هذا .
فقلت لبعضهم : هذا امتحان منه ، ليرى صِدْقك وصبرك ، هل أنت صادقٌ في مجيئك إليه وإقبالك عليه ، فتصبر على بلائِه ؛ فتكون لك العاقبةُ ، أم أنت كاذبٌ فترجع على عقِبك ؟
وهذا الأقوالُ والظنونُ الكاذبةُ الحائدةُ عن الصواب مبْنيةٌ على مُقدمتين :
إحداهما : حُسْنُ ظنِّ العبدِ بنفسه وبدينه ، واعتقادُه أنه قائمٌ بما يجبُ عليه ، وتارك ما نُهي عنه ، واعتقادُه في خصْمه وعدُوِّه خلاف ذلك ، وأنه تارك للمأمور ، مرتكب للمحظور ، وأنه نفْسه أولى بالله ورسوله ودِينه منه .
والمقدمة الثانية : اعتقاده أن الله سبحانه وتعالى قد لا يُؤيد صاحب الدين الحق وينْصُره ، وقد لا يجعلُ له العاقبة في الدنيا بوجهٍ من الوجوه ، بل يعيش عُمره مظلوماً مقهوراً مُسْتضاما ، مع قيامه بما أُمِر به ظاهراً وباطناً ، وانتهائه عما نُهِي عنه باطناً وظاهراً ، فهو عند نفسه قائمٌ بشرائع الإسلام ، وحقائق الإيمان ، وهو تحت قهر أهل الظلم ، والفجور والعُدْوان .
فلا إله إلا الله ، كم فسد بهذا الاغترار مِنْ عابدٍ جاهلٍ ، ومُتديِّن لا بصيرة له ، ومُنْتسب إلى العلم لا معْرِفة له بحقائق الدين .
فإنه من المعلوم : أن العبد وإن آمن بالآخرة ، فإنه طالبٌ في الدنيا لما لابُدَّ له منه : مِنْ جلْب النَّفْعِ ودفع الضر ، بما يعتقد أنه مُستحب أو واجب أو مباحٌ ، فإذا اعتقد أنَّ الدين الحقَّ واتِّباع الهدى ، والاستقامة على التوحيد ، ومتابعة السُّنة ينافي ذلك ، وأنه يُعادي جميع أهل الأرض ، ويتعرض لما لا يقدر عليه من البلاء ، وفوات حُظوظه ومنافعه العاجلة ؛ لزم من ذلك : إعراضهُ عن الرَّغبة في كمال دينه ، وتجرده لله ورسوله ، فيُعرض قلبه عن حال السابقين المقرّبين ، بل قد يُعرض عن حال المقتصدين أصحاب اليمين ، بل قد يدخل مع الظالمين ، بل مع المنافقين ، وإن لم يكن هذا في أصل الدين ، كان في كثير من فروعه وأعماله ، كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : (( بادِرُوا بالأعمال فِتناً كقطع الليل المظلم ، يُصبحُ الرجل مؤمناً ويُمسي كافراً ، ويُمسي كافراً ويُصْبح مؤمناً ، يبيعُ دينه بِعرضٍ من الدنيا ))
وذلك أنه إذا اعتقد أن الدين الكامل لا يحصلُ إلا بفساد دُنياه ، من حصول ضرر لا يحتمله ، وفوات منفعة لابُدَّ له منها ؛ لم يُقدم على احتمال هذا الضرر ، ولا تفويت تلك المنفعة .
فسبحان الله ! كم صدَّت هذه الفتنةُ الكثير من الخلق ، بل أكثرهم ، عن القيام بحقيقة الدين
يقول ابن القيّم -رحمه الله- في إغاثة اللهفان :
أما الدنيا فإنَّا نرى الكفَّار والمنافقين يغْلِبُون فيها ، ويظهَرون ، ويكون لهم النصر والظفر . والقرآن لا يرِدُ بخلاف الحِسِّ ، ويعتمد على هذا الظن : إذا أُديل عليه عدوٌّ من جنس الكفار والمنافقين ، أو الفجرة الظالمين ، وهو عند نفسه من أهل الإيمان والتقوى ، فيرى أن صاحب الباطل قد علا على صاحب الحق ، فيقول : أنا على الحقِّ وأنا مغلوبٌ ، فصاحب الحقِّ في هذه الدنيا مغلوبٌ مقهور ، والدولة فيها للباطل .
فإذا ذُكِّر بما وعد الله تعالى من حُسنِ العاقبة للمتقين والمؤمنين ، قال : هذا في الآخرة فقط .
وإذا قيل له : كيف يفعلُ الله تعالى هذا بأوليائه وأحبَّائِه ، وأهلِ الحقِّ ؟
فإن كان ممن لا يُعلِّلُ أفعال الله تعالى بالِحِكم والمصالح ، قال : يفعلُ الله في مُلكِه ما يشاء ، ويحكم ما يريد {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الانبياء:23] .
وإن كان ممن يُعلِّل الأفعال ، قال : فعل بهم هذا ليُعرَّضهم بالصبر عليه لثواب الآخرة وعُلوِّ الدرجات ، وتوْفيةِ الأجر بغير حساب .
ولكلِّ أحدٍ مع نفسه في هذا المقام مُباحثاتٌ وإيراداتٌ وإشكالات وأجوبة ، بحسب حاصله وبضاعتِه ، من المعرفة بالله تعالى وأسمائه وصفاتِه وحِكْمته ، والجهل بذلك ، فالقلوبُ تغْلِي بما فيها ، كالقدْر إذا استجْمعتْ غلياناً .
فلقد بلغنا وشاهدنا من كثير من هؤلاء من التظلُّم للِرَّبِّ تعالى ، واتِّهامه ، ما لا يصْدُرُ إلا من عدو ، فكان الجهْمُ يخرجُ بأصحابِه ، فيُوقِفُهم على الجذْمى وأهل البلاء ، ويقول : انظروا ، أرْحمُ الراحمين يفعلُ مثل هذا ؟ إنكاراً لرحمته ، كما أنكر حِكمته .
فليس الله عند جهمٍ وأتباعه حكيماً ولا رحيماً .
وقال آخر من كبار القوم : ما على الخلق أضرُّ من الخالق
وكان بعضهم يتمثل :
إذا كان هذا فِعله بمحبِّة فماذا تراهُ في أعادِيه يصْنعُ ؟
وأنت تشاهد كثيراً من الناس إذا أصابه نوعٌ من البلاء يقول : يا ربِّ : ما كان ذنبي حتى فعلت بي هذا ؟
وقال لي غير واحد : إذا تبتُ إليه وأنبْتُ وعملتُ صالحاً ضيَّق عليَّ رزقي ، ونكد عليَّ معيشتي ، وإذا رجعْتُ إلى معصيته ، وأعْطيْتُ نفسي مُرادها جاءني الرِّزْقُ والعوْنُ ، ونحو هذا .
فقلت لبعضهم : هذا امتحان منه ، ليرى صِدْقك وصبرك ، هل أنت صادقٌ في مجيئك إليه وإقبالك عليه ، فتصبر على بلائِه ؛ فتكون لك العاقبةُ ، أم أنت كاذبٌ فترجع على عقِبك ؟
وهذا الأقوالُ والظنونُ الكاذبةُ الحائدةُ عن الصواب مبْنيةٌ على مُقدمتين :
إحداهما : حُسْنُ ظنِّ العبدِ بنفسه وبدينه ، واعتقادُه أنه قائمٌ بما يجبُ عليه ، وتارك ما نُهي عنه ، واعتقادُه في خصْمه وعدُوِّه خلاف ذلك ، وأنه تارك للمأمور ، مرتكب للمحظور ، وأنه نفْسه أولى بالله ورسوله ودِينه منه .
والمقدمة الثانية : اعتقاده أن الله سبحانه وتعالى قد لا يُؤيد صاحب الدين الحق وينْصُره ، وقد لا يجعلُ له العاقبة في الدنيا بوجهٍ من الوجوه ، بل يعيش عُمره مظلوماً مقهوراً مُسْتضاما ، مع قيامه بما أُمِر به ظاهراً وباطناً ، وانتهائه عما نُهِي عنه باطناً وظاهراً ، فهو عند نفسه قائمٌ بشرائع الإسلام ، وحقائق الإيمان ، وهو تحت قهر أهل الظلم ، والفجور والعُدْوان .
فلا إله إلا الله ، كم فسد بهذا الاغترار مِنْ عابدٍ جاهلٍ ، ومُتديِّن لا بصيرة له ، ومُنْتسب إلى العلم لا معْرِفة له بحقائق الدين .
فإنه من المعلوم : أن العبد وإن آمن بالآخرة ، فإنه طالبٌ في الدنيا لما لابُدَّ له منه : مِنْ جلْب النَّفْعِ ودفع الضر ، بما يعتقد أنه مُستحب أو واجب أو مباحٌ ، فإذا اعتقد أنَّ الدين الحقَّ واتِّباع الهدى ، والاستقامة على التوحيد ، ومتابعة السُّنة ينافي ذلك ، وأنه يُعادي جميع أهل الأرض ، ويتعرض لما لا يقدر عليه من البلاء ، وفوات حُظوظه ومنافعه العاجلة ؛ لزم من ذلك : إعراضهُ عن الرَّغبة في كمال دينه ، وتجرده لله ورسوله ، فيُعرض قلبه عن حال السابقين المقرّبين ، بل قد يُعرض عن حال المقتصدين أصحاب اليمين ، بل قد يدخل مع الظالمين ، بل مع المنافقين ، وإن لم يكن هذا في أصل الدين ، كان في كثير من فروعه وأعماله ، كما قال النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم : (( بادِرُوا بالأعمال فِتناً كقطع الليل المظلم ، يُصبحُ الرجل مؤمناً ويُمسي كافراً ، ويُمسي كافراً ويُصْبح مؤمناً ، يبيعُ دينه بِعرضٍ من الدنيا ))
وذلك أنه إذا اعتقد أن الدين الكامل لا يحصلُ إلا بفساد دُنياه ، من حصول ضرر لا يحتمله ، وفوات منفعة لابُدَّ له منها ؛ لم يُقدم على احتمال هذا الضرر ، ولا تفويت تلك المنفعة .
فسبحان الله ! كم صدَّت هذه الفتنةُ الكثير من الخلق ، بل أكثرهم ، عن القيام بحقيقة الدين