مشروعية الاحزاب في الاسلام
25-07-2013, 12:22 AM
السلام عليكم
ذهب غالبية الفقهاء المعاصرين إلى القول بمشروعية الأحزاب ، بل فرضية وجود الأحزاب الإسلامية ، و استدلوا على ذلك بقوله تعالى :
" وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ "
و ممن أسهب في ذلك الشيخ تقي الدين النبهاني مؤسس حزب التحرير ، الذي قال بفرضية إقامتها في الدولة الإسلامية ، و في حال غيابها . و استدل على ذلك بقوله :
…إن الطلب بإقامة الجماعة هو طلب جازم ، لأن العمل الذي بينته الآية لتقوم به هذه الجماعة هو فرض على المسلمين القيام به ، كما هو ثابت في الآيات و الأحاديث الكثيرة ، فيكون ذلك قرينة على أن الطلب لإقامة الجماعة طلب جازم ، و بذلك يكون الأمر الوارد في الآية للوجوب ، و هو فرض على الكفاية على المسلمين ، إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، و ليس هو فرض عين ، لأن الله طلب من المسلمين أن يقيموا من بينهم جماعة ، لتقوم بالدعوة إلى الخير ، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، و لم يطلب من المسلمين في الآية أن يقوموا كلهم بذلك ، و إنما طلب منهم أن يقيموا جماعة منهم لتقوم بهذا الفرض ، فالأمر في الآية سُلّط على إقامة الجماعة ، و ليس مسلط على العملين .
و الدعوة إلى الخير و ممارسة مهمة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، صفات للجماعة المتميزة في الأمة تضمن فلاحها و فاعليتها في المجتمع المسلم .
و الذي يجعلها جماعة هو وجود رابطة تربط أعضاءها، ليكونوا جسماً واحداً تعمل بوصفها جماعة. و الذي يبقيها جماعة و هي تعمل هو وجود أمير لها تجب طاعته. لأن الشرع أمر كل جماعة بلغت ثلاثة فصاعداً بإقامة أمير لهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحل لثلاثة بفلاة من الأرض إلا أمروا أحدهم.
…إن وجود الرابطة بين الجماعة ، و وجود الأمير الواجب الطاعة يدلان على أن قوله تعالى : " وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ " يعني لتوجد منكم جماعة ، لها رابطة تربط أعضاءها ، و لها أمير واجب الطاعة ، و هذه هي الجماعة أو الكتلة أو الحزب أو الجمعية أو أي اسم من الأسماء التي تطلق على الجماعة ، التي تستوفي ما يجعلها جماعة ، و يبقيها جماعة و هي تعمل . و بذلك يظهر أن الآية أمر بإيجاد أحزاب أو تكتلات أو جمعيات أو منظمات أو ما شاكل ذلك .
أما كون الأمر في الآية بإيجاد جماعة هو أمر بإقامة أحزاب سياسية ، فذلك آتٍ من كون الآية عينت عمل هذه الجماعة ، و هو الدعوة إلى الإسلام و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر . و عمل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر جاء عاماً فيشمل أمر الحكام بالمعروف و نهيهم عن المنكر ، و هذا يعني وجوب محاسبتهم . و محاسبة الحكام عمل سياسي ، تقوم به الأحزاب السياسية المسلمة ، و هو من أهم أعمالها .
…و يُفهم من كلام الشيخ تقي الدين ، أنه كان يرى فرضية إقامة أحزاب سياسية إسلامية ، في الدولة الإسلامية و الدولة غير الإسلامية ، و لم يقيد تلك الفرضية بأي قيد ، فهو يرى أن الآية عامة تبقيها على العموم .
أما الشيخ حسن البنا فقد قال : " … أستطيع أن أجهر في صراحة بأن المسلم لن يتم إسلامه إلا إذا كان سياسياً ، يعيد النظر في شؤون أمته مهتماً بها غيوراً عليها … و أن على كل جمعية إسلامية ، أن تضع في رأس برنامجها الاهتمام بشؤون أمتها السياسية ، و إلا كانت هي نفسها تحتاج إلى تفهم معنى الإسلام " .
أما قوله : " … إن الإسلام و هو دين الوحدة في كل شيء ، … لا يقر نظام الحزبية و لا يرضاه و لا يوافق عليه " . " … و أعتقد أن هذه الأحزاب المصرية الحالية ، مصنوعة أكثر منها حقيقية ، و أن العامل في وجودها شخصي أكثر منه وطني ، و أن المهمة و الحوادث التي كونت هذه الأحزاب قد انتهت ، و يجب أن ينتهي هذا النظام بانتهائها ". فيُخطئ من يظن أن الإمام حسن البنا ، يحرم الأحزاب السياسية ، استناداً إلى قوله السابق ذلك أن قول الإمام هذا يدل صراحة على تأييده الأحزاب السياسية الإسلامية ، و لا أدل على ذلك من أنه رئيس جماعة الإخوان المسلمين و مؤسسها ، وقد وضع في رأس برنامجها الاهتمام بشؤون أمته السياسية ، و هذا رد على من أوّل كلام الإمام حينما تحدث عن أن الإسلام لا يقر نظام الحزبية .
إذا فكلام الإمام منصب على الأحزاب غير الإسلامية ، لأنه يتحدث عن الأحزاب المصرية ، الموجودة في زمنه ، لعدم وجود أحزاب إسلامية. و مما يؤيد هذا الرأي ما قاله أحمد سيف الإسلام – نجل الإمام حسن البنا - : " والدي لم ينكر وجود الأحزاب السياسية أبداً ، بل أنكر واقع الأحزاب و انحراف بعضها و ارتباطها بالإنكليز و إفسادها للنفوس ، أنكر عليها أوضاعها الشاذة ، و لم ينكر حق الشعب في تشكيل الأحزاب السياسية ".
كذلك يرى محمود الخالدي أن قيام الأحزاب السياسية الإسلامية فرض كفاية ، على الأمة الإسلامية ، و يستدل بالآية الكريمة " وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ " .
يقول محمود الخالدي : " و هذه الآية تدل على إقامة الأحزاب السياسية من ثلاثة وجوه :
الوجه الأول : إن الله تعالى فرض على جميع المسلمين إقامة " جماعة " " تدعو إلى الخير و تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر " أي تقوم بالدعوة إلى الإسلام فكراً و سلوكاً ، فقوله تعالى : " وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ " أمر بإيجاد جماعة من المسلمين متكتلة تكتلاً يوجد لها وصف الجماعة . إذ قال : " منكم " فالمراد بقوله تعالى : " ولتكن منكم " لتكن جماعة من المسلمين ، لا أن يكون المسلمون جماعة ، أي لتكن من المسلمين أمة ، و ليس معناه ليكون المسلمون أمة ، و هذا يعني أمرين :
أحدهما : إن إقامة جماعة من بين المسلمين فرض كفاية ، و ليس فرض عين .
و الثاني : إن وجود كتلة لها صفة الجماعة من المسلمين ، يكفي للقيام بهذا الفرض .
الوجه الثاني : إن الجماعة المطلوب إقامتها ، هي الحزب السياسي … فإن الدليل هو أن الله سبحانه لم يطلب في هذه الآية من المسلمين أن يقوموا بالدعوة إلى الخير ، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، و إنما طلب فيها إقامة " جماعة " تقوم بهذين العملين …
ثم يضيف " أن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، الذي جاء عاماً لا يمكن أن يقوم به إلا حزب سياسي ، لأن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، كما هو وارد في حق جميع المسلمين ، فإنه يرد أكثر ما يرد في حق الحاكم، لأن منكر الحاكم لا يعدله منكر من أحد ، فالمصيبة فيه أكثر أثراً في الحياة الإسلامية . بل إن أمر الحكام بالمعروف و نهيهم عن المنكر ، أهم أعمال الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، إذ قد جاءت الآية عامة " وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ " فهو اسم جنس محلى بالألف و اللام ، فهو من صيغ العموم .
…و ما أودّ التأكيد عليه أن الجماعات العاملة للإسلام ، و كذلك الأفراد الموصوفون بالصفات التي تضمنتها الآية الكريمة يصلح أن ينطبق عليها مسمى " أمة " متميزة يكتب الله لها الفلاح .
…و لعل هذا الرأي يذهب إليه الأستاذ محمد عمارة ، حيث يرى أن الأحزاب و الحركات الإسلامية المعاصرة ، قائمةً بالفريضة الكفائية ، و محققةً للواجب الشرعي ، حيث يقول : فهذه الحركات الإسلامية المعاصر بالنسبة لي ليست مجرد مادة للدراسة و إنما هي الأمل الإسلامي المرشح والمؤهل لقيادة النهضة الإسلامية المنشودة لهذه الأمة
و هي المالكة الوحيد " للشوكة الفكرية " أي الفكر القادر وحده ، دون سواه ، على تحريك جماهير الأمة ، و حشدها لتنتمي إلى الذات ، و لتدفع العدوان عن هذه الذات …
و هذه الحركات الإسلامية هي الناهضة بالفريضة الإسلامية الكفائية ، و المحققة للواجب الشرعي و الاجتماعي … فريضة و واجب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر … و التواصي بالحق و التواصي بالصبر …
و هذه الحركات الإسلامية هي الوعاء التنظيمي ، الذي يستوعب الطاقات الإسلامية النشطة و الفاعلة ، فيوظفها في المكان المناسب و النافع …
إنها نحن … و نحن منها … و بها … و معها … نقف معاً و جميعاً في ذات الساحة و بذات المعسكر ، و نجاهد متكاتفين من ذات الخندق … " .
و يرى الأستاذ مصطفى الزرقاء أن تأليف الأحزاب أمر مشروع ، إذا كانت أغراضها و أهدافها صحيحة و سليمة ، و كان سلوك قادتها و أفرادها مستقيماً ، وقد أنكر على من يحرم العمل الحزبي و قيام الأحزاب .
وقد اشترط عبد العزيز الخياط قواعد يجب أن تقوم الأحزاب على أساسها ، هي " قواعد الإيمان بالله و الأحكام التي جاء بها الإسلام ، و حثت عليها الأديان : و هي الإطار المشترك التي تضبط عدم انفلات التعددية ، و تجعلها قنوات تنظم أفراد الأمة ، و تعمل لصالحها " .
ثم يضيف " و من هنا أكرر أن الإسلام لا يمنع التعددية السياسية، ما دامت في إطار القواعد الأساسية التي بيّنها الإسلام ، و هي التي تحقق المصلحة للأمة ، و تجمعهم على العمل من أجلها ، و تجعل اختلافهم في الرأي لصالحها " .
و قد بنى عبد العزيز الخياط رأيه ، مستدلاً بآيات من القرآن الكريم ، مبيناً من خلالها صفات الحزب الذي يقره الإسلام و يرضاه و ذلك في قوله تعالى : " لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ " .
فالحزب يجب أن يكون له مبدأ يتمسك به يقوم على الإيمان بالله ، إيمان العقل المنفتح ، لا إيمان التعاويذ و التعلق بالخرافات ، و هذا الإيمان يدفع الإنسان لأن يدرك أهميته ، في إعمار الأرض و إصلاحها ، و الإستفادة مما خلق الله ، و هذا الإيمان يجعله متمسكاً بتعاليم العقيدة السليمة و الأحكام الهادية و الأخلاق القويمة ، ثم يجعله مع الله وحده ، و مع أمته الإسلامية وحدها ، فلا تكون له تبعية ، و لا يستمد قوته من قوة أجنبية ، و لا يواد من حاد الله و رسوله ، و لو كانوا أقرب الناس إليه ، فلا عصبية إلا للمبدأ ، و لا عرقية و لا تمييز الا بالإيمان ، و يكون حينئذ الحزب الصالح ، أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون .
ثم يورد قوله تعالى : " الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ * وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ " ، للاستدلال على إباحة الإسلام التعددية ، في إطار الحق الذي بينه الله مما لا يداخل الإنسان فيه شك أو تردد في بيان الحق .
…أما إذا أدت التعددية إلى الفرقة و التمزق فيجب منعها ، فقد لجأ عمر بن الخطاب إلى منع كبار الصحابة من الخروج من المدينة المنورة إلى الأقاليم ، خشية أن يكوّنوا أحزاباً تتناحر ، و تؤدي إلى تمزيق الأمة .
و التعددية في إطار و في مجموعة من أشكال الحب و العمل لمصلحة الأمة في شورى الأمر و حرية العمل و التعبير مشروعة.
هذا ما يراه عبد العزيز الخياط من مشروعية الأحزاب السياسية الإسلامية، و لكن ضمن شروط و مواصفات خاصة.
ولكن هناك من ذهب إلى أن نظام الأحزاب غير مشروع، و استندوا في ذلك إلى أدلة من القرآن الكريم، و الحديث الشريف و إلى أدلة مأخوذة من الطبيعة الكلية للإسلام.
1. استدل من قال بذلك من القرآن الكريم بقوله تعالى : " إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ".
و قوله تعالى : " وَلَا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ".
و وجه الاستدلال :
إن الله تعالى وصف المشركين بالتفرّق في الدين ، ونهى المؤمنين عن ذلك و برّأ رسوله ممن يفعل ذلك ، فدلّ ذلك على أن النهي للتحريم ، والتفرق في الآيتين يشمل كل تفرق ، سواء أكان ذلك التفرق والاختلاف في العقيدة أم الفقه أم السياسة ، و يؤيد ذلك أن الله نهى عن مطلق التنازع ، فقال تعالى : " وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ "، فتكون الأحزاب السياسية محرمة لأن من أهم مظاهرها التفرّق.
2. و استدلوا بقوله : " وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ".
و قال تعالى : " وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ".
ووجه الاستشهاد على حرمة الأحزاب :
أن الله تعالى أوجب - على المسلمين – الوحدة و لزوم الجماعة ، و اجتناب ما يؤدي إلى الافتراق ، و الأحزاب تؤدي إلى الافتراق فهي محرمة ، و الوجوب – في الآية – مأخوذ من صيغة الأمر " و اعتصموا " المجرد عن القرائن ، فإن صيغة الأمر المجردة عن القرائن تكون للوجوب و الإلزام ، و النهي في الآية الثانية للتحريم لعدم قرينة صارفة إلى الكراهة .
والملاحظ أن الآيات التي استدلوا بها لا تصلح دليلاً على تحريم الأحزاب الإسلامية ، لأن الفِرَق و الأحزاب التي نهت عنها ، هي تلك التي تنشأ على أساس الافتراق في العقيدة ، أو أنها قائمة على التعصب لمذهب فقهي ، أو موالاة قائد أو عالم و لو بالباطل . و لكن إذا كان الافتراق على أساس اختلاف الاجتهادات الفقهية فيما يقبل الاجتهاد ، أو على أساس المنافسة و الاختلاف في سبل عمل الخير و النصح للمسلمين ، و الاهتمام بشؤون الأمة في حدود الأحكام الشرعية و أحكام الإسلام وأخلاقه ، فإن النصوص لا تنهَ عنه ، و إلا لكان اختلاف الأئمة أبي حنيفة و الشافعي ومالك و أحمد مذموماً ، و كذلك من قبلهم اختلاف أبي بكر و عمر و علي رضي الله عنهم أجمعين ، و لم يقل أحد من العلماء بحرمة هذا الاختلاف أو ذمه .
و يبدو أن القائلين بذلك لم يفرقوا بين الأحزاب السياسية الإسلامية و غيرالإسلامية ، من ناحية أهداف ووسائل كل منهما ، فإن الأحزاب غير الإسلامية تسعى في الغالب من أجل الوصول إلى الحكم ، و تشكيل الوزارات ، أو انتخاب رؤساء في ظل أنظمة الكفر التي حددت مدة الرئاسة فيها ، و قد جعلت أنظمة الحكم غير الإسلامية أمر تشكيل الوزارات فيها للأحزاب الفائزة ، بينما الأمر في الإسلام مختلف تماماً ، فلا يوجد مدة محددة للخليفة ، وإنما يبقى في الحكم ما لم يظهر ما يوجب عزله ، و بالتالي فإنه لا حاجة لتنافس الأحزاب و تناحرها من أجل الحكم ، و إن مهمة الأحزاب في الدولة الإسلامية هي مراقبة الخليفة ، و جهاز الحكم ، لضمان تنفيذ الإسلام ، و تقديم النصح و المساعدة ، و جمع الأمة على طاعة الحاكم ، و امتثال أمره.
و على هذا فإن فهم دور الأحزاب الإسلامية في الدولة ، و تنافسها على التعاون مع الخليفة في تنفيذ السياسات العامة ، و تقديم النصح و المشورة له و جمع الأمة عليه, وتحقيق سلطان الأمة بمراقبة الخليفة و محاسبته وفق الأحكام الشرعية ,هذا
التنافس و الاختلاف بين الأحزاب لا يسمى افتراقاً مذموماّ .
وأما الاستدلال بأحاديث السمع والطاعة و لزوم الجماعة و النهي عن الشذوذ عنها والأمر باعتزال الفرق كلها كحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه و سلم - : " من خرج عن الطاعة و فارق الجماعة فمات مات ميتة الجاهلية ، و من قاتل تحت راية عمية ، يغضب لعصبية ، أو يدعوا إلى عصبية ، أو ينصر عصبية فقتل ، فقتلته جاهلية ".
و حديث ابن عباس - رضي الله عنه -، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه و سلم - " من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً إلا مات ميتة جاهلية " ,فلا ينطبق بحالٍ من الأحوال على الأحزاب القائمة على أساس الإسلام ، لأن المقصود بالجماعة في الحديثين هي جماعة المسلمين أي كل المسلمين .
و من ناحية أخرى فإن جميع المسلمين لا يمكن أن يجتمعوا على رأي واحد إلا إذا وجد الإمام الذي يجمع المسلمين على رأي واحد ، وفق القاعدة الشرعية " رأي الإمام يرفع الخلاف " و تنصيب الإمام في الإسلام هو بحد ذاته عمل جماعي لأن تنصيبه إما أن يكون بأهل الحل و العقد ، و إما بأهل النصرة ، و إما بالسواد الأعظم من المسلمين ولا يكون تنصيبه فردياً مطلقاً بل تنصيبه جماعياً ، فلابد من
العمل الجماعي لتنصيب الإمام ، و هذا يكون بوجود أحزاب أو جماعات تعمل لإيجاده " ، و لا يتم تنصيب خليفة إلا بعملٍ جماعي فيكون العمل مع أي حزب أو جماعة تعمل لإيجاد الأمير هو واجب ، على أن تلتزم العمل وفق الكتاب و السنة .
…فعلى ذلك يكون وجود الأحزاب السياسية بالمواصفات الشرعية واجباً و ليس حراماً ، و يسقط كل استدلال يحرم وجود أحزاب سياسية اسلامية ، و نخلص إلى القول بأن المقصود بجماعة المسلمين في الأحاديث النبوية و أقوال
الصحابة هو جميع المسلمين – كما أسلفنا - .
وأما القول بأن نظام الأحزاب السياسية جزء من النظام الجمهوري و الديمقراطي ، و فرع من فروعه ، و نشأ في ظل العلمانية ، فلا يجوز استخدامه و لا اعتماده في الدولة الإسلامية .
فان هذا الاستدلال لا أراه في مكانه لأن الأحزاب الإسلامية قد نشأت بعد مقتل عثمان - رضي الله عنه -،. ثم إن الأحزاب السياسية في العصر الحديث ، قد تولدت في ظل أنظمة جمهورية أو ديمقراطية هي أحزاب غير إسلامية ، في دول غير إسلامية ، و لكن الأحزاب الإسلامية يجب أن تكون وفق الأحكام الشرعية في تنظيمها ، و إدارياتها و أفرادها و أفكارها و مبادئها ، و طريقتها في السير ، و عملها قبل قيام الدولة ، العمل لاستئناف الحياة الإسلامية ، و بعد قيام الدولة المحافظة عليها و محاسبة الحكام و مراقبتهم ، و إعانتهم على تطبيق الإسلام في الدولة ، و حمله إلى العالم ، رسالة هدى و نور .
منقول ...
ذهب غالبية الفقهاء المعاصرين إلى القول بمشروعية الأحزاب ، بل فرضية وجود الأحزاب الإسلامية ، و استدلوا على ذلك بقوله تعالى :
" وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ "
و ممن أسهب في ذلك الشيخ تقي الدين النبهاني مؤسس حزب التحرير ، الذي قال بفرضية إقامتها في الدولة الإسلامية ، و في حال غيابها . و استدل على ذلك بقوله :
…إن الطلب بإقامة الجماعة هو طلب جازم ، لأن العمل الذي بينته الآية لتقوم به هذه الجماعة هو فرض على المسلمين القيام به ، كما هو ثابت في الآيات و الأحاديث الكثيرة ، فيكون ذلك قرينة على أن الطلب لإقامة الجماعة طلب جازم ، و بذلك يكون الأمر الوارد في الآية للوجوب ، و هو فرض على الكفاية على المسلمين ، إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، و ليس هو فرض عين ، لأن الله طلب من المسلمين أن يقيموا من بينهم جماعة ، لتقوم بالدعوة إلى الخير ، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، و لم يطلب من المسلمين في الآية أن يقوموا كلهم بذلك ، و إنما طلب منهم أن يقيموا جماعة منهم لتقوم بهذا الفرض ، فالأمر في الآية سُلّط على إقامة الجماعة ، و ليس مسلط على العملين .
و الدعوة إلى الخير و ممارسة مهمة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، صفات للجماعة المتميزة في الأمة تضمن فلاحها و فاعليتها في المجتمع المسلم .
و الذي يجعلها جماعة هو وجود رابطة تربط أعضاءها، ليكونوا جسماً واحداً تعمل بوصفها جماعة. و الذي يبقيها جماعة و هي تعمل هو وجود أمير لها تجب طاعته. لأن الشرع أمر كل جماعة بلغت ثلاثة فصاعداً بإقامة أمير لهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحل لثلاثة بفلاة من الأرض إلا أمروا أحدهم.
…إن وجود الرابطة بين الجماعة ، و وجود الأمير الواجب الطاعة يدلان على أن قوله تعالى : " وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ " يعني لتوجد منكم جماعة ، لها رابطة تربط أعضاءها ، و لها أمير واجب الطاعة ، و هذه هي الجماعة أو الكتلة أو الحزب أو الجمعية أو أي اسم من الأسماء التي تطلق على الجماعة ، التي تستوفي ما يجعلها جماعة ، و يبقيها جماعة و هي تعمل . و بذلك يظهر أن الآية أمر بإيجاد أحزاب أو تكتلات أو جمعيات أو منظمات أو ما شاكل ذلك .
أما كون الأمر في الآية بإيجاد جماعة هو أمر بإقامة أحزاب سياسية ، فذلك آتٍ من كون الآية عينت عمل هذه الجماعة ، و هو الدعوة إلى الإسلام و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر . و عمل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر جاء عاماً فيشمل أمر الحكام بالمعروف و نهيهم عن المنكر ، و هذا يعني وجوب محاسبتهم . و محاسبة الحكام عمل سياسي ، تقوم به الأحزاب السياسية المسلمة ، و هو من أهم أعمالها .
…و يُفهم من كلام الشيخ تقي الدين ، أنه كان يرى فرضية إقامة أحزاب سياسية إسلامية ، في الدولة الإسلامية و الدولة غير الإسلامية ، و لم يقيد تلك الفرضية بأي قيد ، فهو يرى أن الآية عامة تبقيها على العموم .
أما الشيخ حسن البنا فقد قال : " … أستطيع أن أجهر في صراحة بأن المسلم لن يتم إسلامه إلا إذا كان سياسياً ، يعيد النظر في شؤون أمته مهتماً بها غيوراً عليها … و أن على كل جمعية إسلامية ، أن تضع في رأس برنامجها الاهتمام بشؤون أمتها السياسية ، و إلا كانت هي نفسها تحتاج إلى تفهم معنى الإسلام " .
أما قوله : " … إن الإسلام و هو دين الوحدة في كل شيء ، … لا يقر نظام الحزبية و لا يرضاه و لا يوافق عليه " . " … و أعتقد أن هذه الأحزاب المصرية الحالية ، مصنوعة أكثر منها حقيقية ، و أن العامل في وجودها شخصي أكثر منه وطني ، و أن المهمة و الحوادث التي كونت هذه الأحزاب قد انتهت ، و يجب أن ينتهي هذا النظام بانتهائها ". فيُخطئ من يظن أن الإمام حسن البنا ، يحرم الأحزاب السياسية ، استناداً إلى قوله السابق ذلك أن قول الإمام هذا يدل صراحة على تأييده الأحزاب السياسية الإسلامية ، و لا أدل على ذلك من أنه رئيس جماعة الإخوان المسلمين و مؤسسها ، وقد وضع في رأس برنامجها الاهتمام بشؤون أمته السياسية ، و هذا رد على من أوّل كلام الإمام حينما تحدث عن أن الإسلام لا يقر نظام الحزبية .
إذا فكلام الإمام منصب على الأحزاب غير الإسلامية ، لأنه يتحدث عن الأحزاب المصرية ، الموجودة في زمنه ، لعدم وجود أحزاب إسلامية. و مما يؤيد هذا الرأي ما قاله أحمد سيف الإسلام – نجل الإمام حسن البنا - : " والدي لم ينكر وجود الأحزاب السياسية أبداً ، بل أنكر واقع الأحزاب و انحراف بعضها و ارتباطها بالإنكليز و إفسادها للنفوس ، أنكر عليها أوضاعها الشاذة ، و لم ينكر حق الشعب في تشكيل الأحزاب السياسية ".
كذلك يرى محمود الخالدي أن قيام الأحزاب السياسية الإسلامية فرض كفاية ، على الأمة الإسلامية ، و يستدل بالآية الكريمة " وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ " .
يقول محمود الخالدي : " و هذه الآية تدل على إقامة الأحزاب السياسية من ثلاثة وجوه :
الوجه الأول : إن الله تعالى فرض على جميع المسلمين إقامة " جماعة " " تدعو إلى الخير و تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر " أي تقوم بالدعوة إلى الإسلام فكراً و سلوكاً ، فقوله تعالى : " وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ " أمر بإيجاد جماعة من المسلمين متكتلة تكتلاً يوجد لها وصف الجماعة . إذ قال : " منكم " فالمراد بقوله تعالى : " ولتكن منكم " لتكن جماعة من المسلمين ، لا أن يكون المسلمون جماعة ، أي لتكن من المسلمين أمة ، و ليس معناه ليكون المسلمون أمة ، و هذا يعني أمرين :
أحدهما : إن إقامة جماعة من بين المسلمين فرض كفاية ، و ليس فرض عين .
و الثاني : إن وجود كتلة لها صفة الجماعة من المسلمين ، يكفي للقيام بهذا الفرض .
الوجه الثاني : إن الجماعة المطلوب إقامتها ، هي الحزب السياسي … فإن الدليل هو أن الله سبحانه لم يطلب في هذه الآية من المسلمين أن يقوموا بالدعوة إلى الخير ، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، و إنما طلب فيها إقامة " جماعة " تقوم بهذين العملين …
ثم يضيف " أن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، الذي جاء عاماً لا يمكن أن يقوم به إلا حزب سياسي ، لأن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، كما هو وارد في حق جميع المسلمين ، فإنه يرد أكثر ما يرد في حق الحاكم، لأن منكر الحاكم لا يعدله منكر من أحد ، فالمصيبة فيه أكثر أثراً في الحياة الإسلامية . بل إن أمر الحكام بالمعروف و نهيهم عن المنكر ، أهم أعمال الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، إذ قد جاءت الآية عامة " وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ " فهو اسم جنس محلى بالألف و اللام ، فهو من صيغ العموم .
…و ما أودّ التأكيد عليه أن الجماعات العاملة للإسلام ، و كذلك الأفراد الموصوفون بالصفات التي تضمنتها الآية الكريمة يصلح أن ينطبق عليها مسمى " أمة " متميزة يكتب الله لها الفلاح .
…و لعل هذا الرأي يذهب إليه الأستاذ محمد عمارة ، حيث يرى أن الأحزاب و الحركات الإسلامية المعاصرة ، قائمةً بالفريضة الكفائية ، و محققةً للواجب الشرعي ، حيث يقول : فهذه الحركات الإسلامية المعاصر بالنسبة لي ليست مجرد مادة للدراسة و إنما هي الأمل الإسلامي المرشح والمؤهل لقيادة النهضة الإسلامية المنشودة لهذه الأمة
و هي المالكة الوحيد " للشوكة الفكرية " أي الفكر القادر وحده ، دون سواه ، على تحريك جماهير الأمة ، و حشدها لتنتمي إلى الذات ، و لتدفع العدوان عن هذه الذات …
و هذه الحركات الإسلامية هي الناهضة بالفريضة الإسلامية الكفائية ، و المحققة للواجب الشرعي و الاجتماعي … فريضة و واجب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر … و التواصي بالحق و التواصي بالصبر …
و هذه الحركات الإسلامية هي الوعاء التنظيمي ، الذي يستوعب الطاقات الإسلامية النشطة و الفاعلة ، فيوظفها في المكان المناسب و النافع …
إنها نحن … و نحن منها … و بها … و معها … نقف معاً و جميعاً في ذات الساحة و بذات المعسكر ، و نجاهد متكاتفين من ذات الخندق … " .
و يرى الأستاذ مصطفى الزرقاء أن تأليف الأحزاب أمر مشروع ، إذا كانت أغراضها و أهدافها صحيحة و سليمة ، و كان سلوك قادتها و أفرادها مستقيماً ، وقد أنكر على من يحرم العمل الحزبي و قيام الأحزاب .
وقد اشترط عبد العزيز الخياط قواعد يجب أن تقوم الأحزاب على أساسها ، هي " قواعد الإيمان بالله و الأحكام التي جاء بها الإسلام ، و حثت عليها الأديان : و هي الإطار المشترك التي تضبط عدم انفلات التعددية ، و تجعلها قنوات تنظم أفراد الأمة ، و تعمل لصالحها " .
ثم يضيف " و من هنا أكرر أن الإسلام لا يمنع التعددية السياسية، ما دامت في إطار القواعد الأساسية التي بيّنها الإسلام ، و هي التي تحقق المصلحة للأمة ، و تجمعهم على العمل من أجلها ، و تجعل اختلافهم في الرأي لصالحها " .
و قد بنى عبد العزيز الخياط رأيه ، مستدلاً بآيات من القرآن الكريم ، مبيناً من خلالها صفات الحزب الذي يقره الإسلام و يرضاه و ذلك في قوله تعالى : " لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ " .
فالحزب يجب أن يكون له مبدأ يتمسك به يقوم على الإيمان بالله ، إيمان العقل المنفتح ، لا إيمان التعاويذ و التعلق بالخرافات ، و هذا الإيمان يدفع الإنسان لأن يدرك أهميته ، في إعمار الأرض و إصلاحها ، و الإستفادة مما خلق الله ، و هذا الإيمان يجعله متمسكاً بتعاليم العقيدة السليمة و الأحكام الهادية و الأخلاق القويمة ، ثم يجعله مع الله وحده ، و مع أمته الإسلامية وحدها ، فلا تكون له تبعية ، و لا يستمد قوته من قوة أجنبية ، و لا يواد من حاد الله و رسوله ، و لو كانوا أقرب الناس إليه ، فلا عصبية إلا للمبدأ ، و لا عرقية و لا تمييز الا بالإيمان ، و يكون حينئذ الحزب الصالح ، أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون .
ثم يورد قوله تعالى : " الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ * وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ " ، للاستدلال على إباحة الإسلام التعددية ، في إطار الحق الذي بينه الله مما لا يداخل الإنسان فيه شك أو تردد في بيان الحق .
…أما إذا أدت التعددية إلى الفرقة و التمزق فيجب منعها ، فقد لجأ عمر بن الخطاب إلى منع كبار الصحابة من الخروج من المدينة المنورة إلى الأقاليم ، خشية أن يكوّنوا أحزاباً تتناحر ، و تؤدي إلى تمزيق الأمة .
و التعددية في إطار و في مجموعة من أشكال الحب و العمل لمصلحة الأمة في شورى الأمر و حرية العمل و التعبير مشروعة.
هذا ما يراه عبد العزيز الخياط من مشروعية الأحزاب السياسية الإسلامية، و لكن ضمن شروط و مواصفات خاصة.
ولكن هناك من ذهب إلى أن نظام الأحزاب غير مشروع، و استندوا في ذلك إلى أدلة من القرآن الكريم، و الحديث الشريف و إلى أدلة مأخوذة من الطبيعة الكلية للإسلام.
1. استدل من قال بذلك من القرآن الكريم بقوله تعالى : " إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ".
و قوله تعالى : " وَلَا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ".
و وجه الاستدلال :
إن الله تعالى وصف المشركين بالتفرّق في الدين ، ونهى المؤمنين عن ذلك و برّأ رسوله ممن يفعل ذلك ، فدلّ ذلك على أن النهي للتحريم ، والتفرق في الآيتين يشمل كل تفرق ، سواء أكان ذلك التفرق والاختلاف في العقيدة أم الفقه أم السياسة ، و يؤيد ذلك أن الله نهى عن مطلق التنازع ، فقال تعالى : " وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ "، فتكون الأحزاب السياسية محرمة لأن من أهم مظاهرها التفرّق.
2. و استدلوا بقوله : " وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ".
و قال تعالى : " وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ".
ووجه الاستشهاد على حرمة الأحزاب :
أن الله تعالى أوجب - على المسلمين – الوحدة و لزوم الجماعة ، و اجتناب ما يؤدي إلى الافتراق ، و الأحزاب تؤدي إلى الافتراق فهي محرمة ، و الوجوب – في الآية – مأخوذ من صيغة الأمر " و اعتصموا " المجرد عن القرائن ، فإن صيغة الأمر المجردة عن القرائن تكون للوجوب و الإلزام ، و النهي في الآية الثانية للتحريم لعدم قرينة صارفة إلى الكراهة .
والملاحظ أن الآيات التي استدلوا بها لا تصلح دليلاً على تحريم الأحزاب الإسلامية ، لأن الفِرَق و الأحزاب التي نهت عنها ، هي تلك التي تنشأ على أساس الافتراق في العقيدة ، أو أنها قائمة على التعصب لمذهب فقهي ، أو موالاة قائد أو عالم و لو بالباطل . و لكن إذا كان الافتراق على أساس اختلاف الاجتهادات الفقهية فيما يقبل الاجتهاد ، أو على أساس المنافسة و الاختلاف في سبل عمل الخير و النصح للمسلمين ، و الاهتمام بشؤون الأمة في حدود الأحكام الشرعية و أحكام الإسلام وأخلاقه ، فإن النصوص لا تنهَ عنه ، و إلا لكان اختلاف الأئمة أبي حنيفة و الشافعي ومالك و أحمد مذموماً ، و كذلك من قبلهم اختلاف أبي بكر و عمر و علي رضي الله عنهم أجمعين ، و لم يقل أحد من العلماء بحرمة هذا الاختلاف أو ذمه .
و يبدو أن القائلين بذلك لم يفرقوا بين الأحزاب السياسية الإسلامية و غيرالإسلامية ، من ناحية أهداف ووسائل كل منهما ، فإن الأحزاب غير الإسلامية تسعى في الغالب من أجل الوصول إلى الحكم ، و تشكيل الوزارات ، أو انتخاب رؤساء في ظل أنظمة الكفر التي حددت مدة الرئاسة فيها ، و قد جعلت أنظمة الحكم غير الإسلامية أمر تشكيل الوزارات فيها للأحزاب الفائزة ، بينما الأمر في الإسلام مختلف تماماً ، فلا يوجد مدة محددة للخليفة ، وإنما يبقى في الحكم ما لم يظهر ما يوجب عزله ، و بالتالي فإنه لا حاجة لتنافس الأحزاب و تناحرها من أجل الحكم ، و إن مهمة الأحزاب في الدولة الإسلامية هي مراقبة الخليفة ، و جهاز الحكم ، لضمان تنفيذ الإسلام ، و تقديم النصح و المساعدة ، و جمع الأمة على طاعة الحاكم ، و امتثال أمره.
و على هذا فإن فهم دور الأحزاب الإسلامية في الدولة ، و تنافسها على التعاون مع الخليفة في تنفيذ السياسات العامة ، و تقديم النصح و المشورة له و جمع الأمة عليه, وتحقيق سلطان الأمة بمراقبة الخليفة و محاسبته وفق الأحكام الشرعية ,هذا
التنافس و الاختلاف بين الأحزاب لا يسمى افتراقاً مذموماّ .
وأما الاستدلال بأحاديث السمع والطاعة و لزوم الجماعة و النهي عن الشذوذ عنها والأمر باعتزال الفرق كلها كحديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه و سلم - : " من خرج عن الطاعة و فارق الجماعة فمات مات ميتة الجاهلية ، و من قاتل تحت راية عمية ، يغضب لعصبية ، أو يدعوا إلى عصبية ، أو ينصر عصبية فقتل ، فقتلته جاهلية ".
و حديث ابن عباس - رضي الله عنه -، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه و سلم - " من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ، فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً إلا مات ميتة جاهلية " ,فلا ينطبق بحالٍ من الأحوال على الأحزاب القائمة على أساس الإسلام ، لأن المقصود بالجماعة في الحديثين هي جماعة المسلمين أي كل المسلمين .
و من ناحية أخرى فإن جميع المسلمين لا يمكن أن يجتمعوا على رأي واحد إلا إذا وجد الإمام الذي يجمع المسلمين على رأي واحد ، وفق القاعدة الشرعية " رأي الإمام يرفع الخلاف " و تنصيب الإمام في الإسلام هو بحد ذاته عمل جماعي لأن تنصيبه إما أن يكون بأهل الحل و العقد ، و إما بأهل النصرة ، و إما بالسواد الأعظم من المسلمين ولا يكون تنصيبه فردياً مطلقاً بل تنصيبه جماعياً ، فلابد من
العمل الجماعي لتنصيب الإمام ، و هذا يكون بوجود أحزاب أو جماعات تعمل لإيجاده " ، و لا يتم تنصيب خليفة إلا بعملٍ جماعي فيكون العمل مع أي حزب أو جماعة تعمل لإيجاد الأمير هو واجب ، على أن تلتزم العمل وفق الكتاب و السنة .
…فعلى ذلك يكون وجود الأحزاب السياسية بالمواصفات الشرعية واجباً و ليس حراماً ، و يسقط كل استدلال يحرم وجود أحزاب سياسية اسلامية ، و نخلص إلى القول بأن المقصود بجماعة المسلمين في الأحاديث النبوية و أقوال
الصحابة هو جميع المسلمين – كما أسلفنا - .
وأما القول بأن نظام الأحزاب السياسية جزء من النظام الجمهوري و الديمقراطي ، و فرع من فروعه ، و نشأ في ظل العلمانية ، فلا يجوز استخدامه و لا اعتماده في الدولة الإسلامية .
فان هذا الاستدلال لا أراه في مكانه لأن الأحزاب الإسلامية قد نشأت بعد مقتل عثمان - رضي الله عنه -،. ثم إن الأحزاب السياسية في العصر الحديث ، قد تولدت في ظل أنظمة جمهورية أو ديمقراطية هي أحزاب غير إسلامية ، في دول غير إسلامية ، و لكن الأحزاب الإسلامية يجب أن تكون وفق الأحكام الشرعية في تنظيمها ، و إدارياتها و أفرادها و أفكارها و مبادئها ، و طريقتها في السير ، و عملها قبل قيام الدولة ، العمل لاستئناف الحياة الإسلامية ، و بعد قيام الدولة المحافظة عليها و محاسبة الحكام و مراقبتهم ، و إعانتهم على تطبيق الإسلام في الدولة ، و حمله إلى العالم ، رسالة هدى و نور .
منقول ...
هَلْ أتى عَلى الإنْسان حينً من الدَّهر لمْ يَكنْ شيئًا مذكورًا
سورة الإنسان الآية 1