اشكالية الفصل بين الدين والدولة بعد الربيع العربي
03-11-2012, 01:08 PM
"إن التغيير الاجتماعي لا يكون ثوريا إلاّ إذا فجر صراعات فكرية وإيديولوجية واجتماعية تضرب المجتمع لفترة من الزمن قبل أن يحقق استقراره"، إذ نجد مثلا "الثورة الفرنسية 1789م، والتي لاتزال الآثار التي ترتبت عليها تشكّل العالم الحديث حتى وقتنا هذا، فقد انقسم المفكرون بعد الثورة إلى اشتراكيين وليبراليين ومحافظين، وذهب كلّ منهم مذهبه". كذلك الأمر بالنسبة لثورات الربيع العربي، لكن الاختلاف يكمن في أن ردود هذه الأخيرة كانت دينية أعادت من جديد إحياء مسألة قديمة عرفها العرب منذ تاريخ نهضتهم وهي مسألة الصراع بين دعاة الدولة الدينية ودعاة الدولة المدنية، لكن ليس بنفس العلنية وإنما في شكل توظيف سياسي للدين. و"يمثل تحرير إشكالية العلاقة بين الدين والسياسة في إطارها الفكري، واستكشاف الترابط بينهما في إطاريهما النظري والتطبيقي ضرورة هامة في مستقبل الحياة السياسية في المجتمع العربي، فمسألة الفصل بين الدين والدولة تأخذ منحاً مغايراً في المجتمعات الإسلامية، لكن أساس الجدلية الحقيقي هو الصراع على السلطة والحكم وليس المقاربات العلمية والمنهجية كما يرى بعض المفكرين، ويظهر هذا التصوّر في المجتمعات العربية بشكل واضح، فالسلطة ترى أن من حقها التدخل في الشؤون الدينية بل وتوظيفها لصالح خطابها السياسي، بينما تحارب المعارضة السلطة باسم الدين، فالعلاقة بين الدين والدولة في هذه المجتمعات تبدو مشكلة أمنيّة أكثر من كونها ظاهرة اجتماعية أو اقتصادية أو حتى سياسية، ويتم التعامل معها من خلال الدوائر الأمنية". وحتى مسألة العلمانية عند العرب تختلف عن العلمانية الغربية، فهذا الفكر ظهر أساسا في الغرب نتيجة معاناة الشعب الأوروبي من تسلط الكنيسة وسيطرتها على الحياة السياسية، وقد مرّ هناك بمسارات وظروف تاريخية مختلفة تماما عن المجتمع العربي الذي حاول استنساخ التجربة الأوروبية مع "تيار الوطنية الإقليمية" الذي ظهر في مصر مع رفاعة الطهطاوي في القرن 19م بدل فكرة "جنسية المسلمين هي إسلامهم" لجمال الدين الأفغاني، " وأخذت الفكرة الوطنية في مصر في أواخر القرن التاسع عشر اتجاهين متعاديين: الأول لم ير اختلافا أو تناقضا بين الرابطة الوطنية والرابطة الدينية، والثاني رأى في الرابطة الدينية تفرقة بين أبناء الجنس الواحد والوطن الواحد". أما اليوم، فإن التخوفات المثارة حول وصول التيارات الإسلامية إلى السلطة تتعلق أساسا بـ "النظرة الشمولية لدى التيّار الإسلامي والتي تتعلق بتدخل الإسلاميين في شؤون الحياة الخاصة، والتخوف من تآكل الحرية ومصادرة مظاهر الحياة العصرية، كما يشكك البعض في صدقية توجه الإسلاميين للتعددية والشفافية والديمقراطية". والواقع أن التيار الإسلامي لا يمكن جمعه كله في ظل رؤية واحدة، فمواقف الحركات الإسلامية من مسألة القانون المدني والديمقراطية بشكل عام هي مواقف متباينة، فهناك السلفيون الذين يرون بوجود تطبيق الشريعة النقية كما كانت تطبق أيام الرسول صلى الله عليه وسلّم ومن بعده الخلفاء الراشدين دونما تغيير، وبالتالي " القول بحاكمية الشريعة وأن الدولة أصل من أصولها تفرضه شمولية الدين، وهو الفهم الذي يفتح الباب أمام الدولة الدينية". وهنالك أيضا اتجاهات أخرى مثل حركة الإخوان المسلمين، أو النهضة، وهؤلاء أكثر مرونة في مسألة الدين والدولة، فهم يرون بأن الإطار العام للدولة لابد أن يبقى إسلاميا، لكن يمكن أن تكون الدولة مدنية وبها مؤسسات وهياكل ديمقراطية كالدستور والبرلمان، دونما الخروج عن المبادئ الأساسية للشريعة. " فالايديولوجية السلفية بشكل عام ترى أن العملية الديمقراطية تجعل لله شريكا في التشريع، ومثالهم على ذلك أننا إذا اردنا تطبيق الشريعة او اقامة الحدود فان ذلك في النظام الديمقراطي يتطلب التصويت البرلماني حتى يتم اقراره، إذ أن الديمقراطية هي حكم الاغلبية من خلال ممثلي الشعب الذين اختارهم لتمثيله في السلطة التشريعية (البرلمان)، وهذه الجزئية تحديدا كانت منشأ خلاف جوهري مع جماعة الاخوان المسلمين التي أعلن العديد من قادتها قبولهم بالديمقراطية، حتى على هذه الصورة، ليقينهم ان الشعب في مصر مسلم ولن يقبل سوى بتطبيق الشريعة، وهو ما لم يقبله السلفيون باي حال من الاحوال".إن مسألة فصل الدين عن الدولة في العالم العربي بعد الثورات الأخيرة قد لا تكون بالخطورة التي يتصورها البعض، وهذا يمكن تفسيره من خلال نقاط مختلفة؛ أولها أن التحديات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة التي تواجه البلدان العربية التي شهدت ثورات قد لا تُبقي الإسلاميين في السلطة لفترات أخرى، فهؤلاء قد لا يصمدون مع انقضاء المرحلة الانتقالية الصعبة ربما برغبة نفس الجماهير التي اختارتهم، فخبرتهم المتواضعة وصعوبة الأوضاع قد تعيقهم عن تقديم حلول ملموسة. من جهة أخرى فإن مسألة الدين بحد ذاتها لا تبدو مخيفة جدا لشعوب المنطقة، وهذا نتيجة القدسية الكبيرة التي يتمتع بها في المجتمعات العربية؛ حيث لازال يشكل العنصر الأول والأكبر في تحديد هويتها، ولازالت ترى فيه خلاصها من كل المشاكل التي مرت بها في الماضي وقد تمر بها في المستقبل. لكن في نفس الوقت لازالت هذه الشعوب تحتفظ بذكريات سيئة عن تجارب غير مستحبة لدخول الإسلاميين في الحياة السياسية، حيث تحولت الدول إما إلى دول دينية منغلقة على غرار أفغانستان أو إيران أو السعودية، وإما إلى مأساة وطنية كما وقع في الجزائر. لكن رغم ذلك يمكن القول بأن مشكلة فصل الدين عن الدولة تبقى نسبية في العالم العربي، إذ لا يمكن استئصال الدين من المجتمع وحصره في ضمير الفرد كما حدث في أوروبا، رغم وجود دعوات لتطبيق النموذج التركي الذي صنع توليفة خاصة حافظت فيها الدولة على طابعها العلماني رغم وجود حزب إسلامي في الحكم.
لابد ان نتعلم من الكتاب كيف نفكر لا ان نتركه يفكر لنا, وان نفكر معه لا ان نفكر مثله










